مغامرات الحوار الهادئة: كافكا قد يكون جزءا من الذاكرة البشرية
بدأت هذه الحوارات في مارس من العام 1984، وكانت تجرى مساء كل جمعة، وتذاع على الهواء من راديو (مونيسيبال) الذي كان يديره وقتها صديق مشترك للمتحاورين، هو ريكاردو كوستانتينو. لاحقا، فُرِّغت هذه الحوارات نصيا، وحُرِّرت وصدرت في ثلاثة مجلدات تحت عنوان “محاورات”، وكتب بورخيس تقدمة لها:
“الحدث الأكثر توثيقا في تاريخ الكون وقع في اليونان القديمة حوالي خمسمائة عام قبل الحقبة المسيحية، أعني اكتشاف الحوار”.
الإيمان، اليقين، العقائد والحرمانات الكنسية، الصلوات، النواهي، الأوامر، التابوهات، الطغاة، الحروب، المجد، كلها استنفدت العالم بينما اكتسب بعض الإغريق عادة الحوار الغريبة- كيف؟ أنى لنا أن ندري. لقد تشككوا، أفحموا، عارضوا، غيروا آراءهم، أرجأوا. ربما أعانتهم على كل هذا أساطيرهم، التي كانت، كما هو حال الشنتو، ركاما من أقاصيص غامضة وتنويعات بصدد نشأة العالم. هاته التخمينات المشتتة كانت الجذور الأولى لما نسميه اليوم، ربما بشيء من الإدعاء، الميتافيزيقيا. ليس بوسعنا تصور الثقافة الغربية بدون هؤلاء القلة من المتحاورين الإغريق.
متنائيا في المكان والزمن، هذا المجلد هو صدى خافت لتلك الحوارات التليدة.
وكما هو حال كل كتبي، وربما كل الكتب، فهذا الكتاب قد كتب نفسه بنفسه. حاولت أنا وفيراري أن ندع كلماتنا تنساب من خلالنا، أو ربما برغمنا. لم نتحادث أبدا قاصدين غاية بعينها. ومن طالعوا مسودته أكدوا لنا أن التجربة كانت سارة. أرجو ألا ينقض قراؤنا هذا الرأي السخي.
في مقدمة أحد أحلامه كتب فرانشسكو دي كيبيدو: “وليعصمك الله أيها القارئ من المقدمات الطويلة، والنعوت الواهية”.
12 أكتوبر 1985
خورخي لويس بورخيس
أوزفالدو فيراري: قبل سفرك مجدداً للخارج يا بورخيس، أودُّ أن أناقش خططك للسفر، ستبدأ بفرنسا، وتواصل لإنجلترا، ومن ثم الولايات المتحدة، صحيح؟ فرنسا ستكون في البداية إذن؟
خورخي لويس بورخيس: فرنسا أولاً، سيكون ثمة مؤتمر عن شخصٍ كانت ستدهشه فكرة مؤتمر عنه، أعني كافكا. أعماله موضوع رائع للنقاش، ولا متناهٍ بالمثل.
أعمال مبنية –كما أخبرني كارلوس ماستروناردي- على مفارقات زينو الإيلي. على سبيل المثال، فكرة سباق السلحفاة التي هدفها ألا تبلغ خط النهاية مطلقاً.
كافكا –كما أخبرني ماستروناردي، وهو محق- تبنى هذه الثيمة بحدة. كان هذا اختراع كافكا الأعظم. سيتوجب عليَّ أن أتحدث أمام منظمة يبدو اسمها لأول وهلة سخيفاً للغاية، ولكنها ليست كذلك، أكاديمية العلوم والفنون. لقد أخبروني أنه يحقّ لي اختيار الموضوع. فلنرَ إن كان بالإمكان أن نتَّفق على ما سأفضّله –محادثة مع الجمهور آمل أن تكون كهذه التي أخوضها معك الآن، أعني أن تكون محادثة سلسة. ثم عليَّ بعدها أن أتلقّى دكتوراة فخرية من جامعة كامبردج، وبعد ذلك أن أتلقى تكريماً من ماركيز ريتشي في نيويورك، لا أدري أي نوع من التكريم سيكون، لكنني سأقابل ذلك بما يفي من الدهشة والبهجة، خاصة مع فرصة السياحة، أو مجرد الوجود في هذه البلدان، أود أن أقضي بضعة أيام متسكّعاً في متاجر الكتب، لا سيما في لندن ثم في نيويورك.
حقاً… رحلة أقل تنوعاً من الأخيرة، والتي شملت صقلية والبندقية وفيزينسا، وهي مناطق متباينة للغاية، وبالطبع يعد الكريتيون أنفسهم أقدم من اليونانيين كثيراً، ويرونهم أكثر هذراً. تلقَى القومية رواجاً في كلّ مكان، يُولدُ شخصٌ ما لمترين يميناً أو يساراً ويكون قد ارتكب خطأ أنه لم يولد في المكان المناسب… هكذا للأسف الحال في صقلية. فهم يصرون على كونهم نورمانديين، ليست لديَّ أدنى فكرة لماذا اختاروا النورمانديين بدلاً عن… ولكن لِمَ لا؟ فأنا بالمثل تجري في عروقي بعض الدماء النورماندية. في رحلتي الأخيرة كنت في اليابان أيضاً. وحلقت فوق القطب الشمالي مرتين، وهي تجربة غريبة لا تتجاوز في الواقع معرفتك أنك تحلق فوق القطب الشمالي، لا ترى شيئاً في الواقع، أليس كذلك؟ (يضحك)
فيراري: بورخيس، بما أن رحلتك تبدأ في فرنسا، وتبدأ بكافكا بالمثل، أودّ لو نتحدث عنه. لا أدري إن كنتَ قد توصَّلتَ لطريقة تستطرد بها في تلك الثيمة، كتبتَ كما أعلم عن كافكا كثيراً1…
بورخيس: نعم، فعلت وسأبذل وسعي في أن لا أقلّد نفسي (يضحك) فمن الأفضل أن تُقلِّد الآخرين. ولكن أحياناً، وفي عمر الرابعة والثمانين، وبسبب أنني لا أعيد قراءة ما كتبته، أجدني أقلد نفسي وبشكلٍ رديء. أشياء صغتها جيداً من قبل أعيدها الآن برداءة، حسن هذا قد يحدث.
عندما تقرأ لكُتَّاب عظام يتوجب عليك أن تبيح على الدوام بعض التجاوزات، ينبغي أن تتذكر أن هذا كُتب في حقبة كذا وكذا وما إلى ذلك.
خذ شكسبير –المثال الأعظم- في حالته ينبغي أن تضع في حسبانك أنه كان يكتب لأجل جمهورٍ لم يختره، وأن عمله كان ينبغي أن يغطي فترة ما نسميه الآن خمسة فصول (كانت متواصلة حينها).. أي امتداد في الزمن، لأجل نقطة البداية كان يعرض أو يستعير آراء لم تكن له. ثم كان ينبغي عليه أن يوائم شخصياته مع هذه الآراء، وهذا التناقض بيّن.
على سبيل المثال، أنا أؤمن بهاملت، إلا أنني لست واثقاً –برغم أنني بذلت ما في وسعي- ما إذا كنت مؤمناً بشبح هاملت، ولست واثقاً ما إذا كنت أؤمن بالبلاط الدينماركي، أو بمباهجه حتى… مطلقاً.
في حالة ماكبث، أؤمن بماكبث، وبليدي ماكبث، كما أنني على استعداد للإيمان بالبارسي، اللواتي هنَّ بالمثل الساحرات، لكنني لا أدري إن كنت أؤمن بالأمثولة نفسها.
وكما هو حال بقية الكتاب ينبغي أن تتذكر أنهم كتبوا في حقبة كذا وكذا، وتحت كذا وكذا من الظروف… ينبغي أن تموضعهم ضمن تاريخ الأدب. حينها فقط يكون بوسعك أن تغفر أو تتحمل بعض الأمور.
في حالة كافكا أعتقد أنه يمكن قراءته بعيداً عن الظروف التاريخية. ويوجد بالأخص ظرفان مهمان للغاية. يكتب كافكا قدراً معتبراً من أعماله خلال حرب 1914-1918، إحدى أسوأ الحروب على الإطلاق، ولا بد أنه قد عانى كثيراً. كما أنه كان يهوديَّاً في وقت كانت فيه معاداة السامية تتنامى. عاش في النمسا، حسنٌ، بوهيميا التي كانت حينها جزءاً من النمسا. وأعتقد أنه مات في برلين. وكل هذه الظروف –العيش في مدينة محاصرة، في بلد كان منتصراً ثم هُزم- كل هذا يتردد صداه في أعماله، إلا أن القارئ إن لم يكن يعلم ذلك سلفاً فلن يلاحظه، فكافكا يُحوِّر كل ذلك.
الظرف الآخر هو أن كافكا قد كان صديقاً للتعبيريين. وقد قاد التعبيريون أغلب الحراك الجمالي المهم في القرن العشرين، وبشكلٍ أكثر إثارة للاهتمام كثيراً من السوريالية أو التكعيبية أو المستقبلية أو حتى مجرد التصويرية. لقد كانت مراجعة شاملة للأدب، والأمر بالمثل بالنسبة للرسم. بوسعنا أن نفكر في إرنست بارلاخ وأوسكار كاكوشكا وآخرين. كافكا كان صديقاً لهم. لقد كتبوا، لقد أعادوا اختراع اللغة بشكل متواصل… نسجوا استعارات.
بوسعك القول إن العمل التعبيري الأعظم هو عمل جويس، برغم أنه لم ينتم للحركة، وكتب بالإنجليزية لا بالألمانية (أو بالأحرى بإنجليزيته هو، إنجليزية مختلفة بكلمات مصطنعة). كانت التعبيرية حركة أدبية عظيمة، وقد كان كافكا ينشر في واحدة من مجلتيها الاثنتين – لست واثقاً ما إذا كانت “داي أكتيون” أو “شتورم”…
كان لديّ اشتراك في كليهما في الأعوام 1916-1917، كان هذا عندما قرأت لأول مرة نصَّاً لكافكا. كان يعوزني الحس، إذ افترضت أنه كان خجولاً وفاتراً قليلاً مقارنة بالبهاء اللفظي للتعبيرية (يضحك). لكن كافكا قد غدا الكاتب الكلاسيكي العظيم لقرننا المكروب. وسيظل يُقرأ في المستقبل أيضاً على الأرجح. وسيُنسى أنه كتب في مطلع القرن العشرين. أنه كان معاصراً للتعبيريين وللحرب العالمية الأولى. كل هذا سيغدو منسياً… يمكن لعمله أن يوجد بلا اسم. ولربما مع الوقت سيستحق أن يصير كذلك. وهذا أكثر ما يمكن أن يطمح له عملٌ ما. أليس كذلك؟ كُتب قليلة تحتلّ هذه المكانة.
عندما تقرأ “الليالي العربية” فإنك تتقبل الإسلام، تتقبل الحكايا التي نسجتها أجيال متعاقبة كأنها كاتب واحد، أو ما هو أفضل كأنها لا كاتب لها. وهي في الواقع لها كاتب وليس لها كاتب في آن. شيء نال كلّ هذا الجهد، وصقلته الأجيال بهذا الحدّ لا يمكن أن ينتمي لفردٍ بعينه بعد ذلك. في حالة كافكا من الممكن أن تكون أمثولاته الآن قد غدت جزءاً من الذاكرة البشرية. وما حدث لـ”كيخوته” قد يحدث له.
فلنقل أن كل نسخ “الكيخوته” الإسبانية والمترجمة قد فُقدت. سيبقى شخص دون كيخوته ماثلاً في الذاكرة البشرية، أعتقد أن فكرة محاكمة مريعة تستمر للأبد؛ وهو جوهر “القلعة” و”المحاكمة” (بالطبع لم يرد كافكا مطلقاً نشر كلا الكتابين لعلمه بأنهما غير مكتملين) قد غدت الآن فكرة لا متناهية، قد غدت جزءاً من الذاكرة البشرية، وصار الآن من الممكن إعادة كتابتها تحت عناوين مختلفة. وأن تعَرِضَ ظروفاً مختلفة. يُشكِّل عمل كافكا الآن جزءاً من الذاكرة البشرية. أعتقد أن هذا هو ما سأقوله في فرنسا. سأشير لحقيقة أن هذه الأعمال قد أصبحت كلاسيكيات، ولحقيقة أن بوسعنا قراءتها وتناسي كل تلك الملابسات المحيطة بها… وهذا يحدث مع كُتاب قلائل للغاية.
فيراري: تكمن المفارقة في أنه مع وضعه ككاتب كلاسيكي، عادة ما يقال لنا أن الجسر الذي يقيمه كافكا بين حقبتنا والحقب الماضية لا يمكن تجنبه، كما هو الحال مع جيمس جويس ومارسيل بروست وهنري جيمس.
بورخيس: ربما هنري جيمس أقرب إليه، ما كان بروست ليبدي اهتماماً، ولا جويس مطلقاً… يناظر جويس التعبيرية في فكرة الفن كشيء عاطفي ولفظي معاً في آن.
بورخيس: بالنسبة لجويس كان معنياً بكل سطر خطه. لكن كافكا عاش محاطاً بأناس كانوا أو حاولوا أن يكونوا جويس بدون أن يعوا ذلك بالطبع. وكافكا نفسه كتب ألمانية مباشرة للغاية، مباشرة لدرجة أنني بينما كنت أتعلم الألمانية كان بوسعي فهمها.
كُتَّاب آخرون كانوا منهكين بالنسبة لي. التعبيريون على سبيل المثال، يوهانش بيشر الذي يثير إعجابي لحدٍّ بعيد صار متربعاً على عرش التعبيرية. لم أكن أفهم بيشر، لم أكن أستوعب ما أطالعه من خلال ألعابه اللغوية.
فيراري: ولكن يقال لنا إنه ليس بوسعنا أن نحظى بتأويل موثوق لعصرنا بدون معونة من كافكا3.
بورخيس: نعم، إلا أن كافكا أكثر أهمية من عصرنا، من المؤسي أنه كان على كافكا أن يُكابد هذه الحقبة وتبسيطاتها. وبالطبع فنحن نتحمّل هذا العصر في غير ما فخر مع شيء من الحنين للقرن الثامن عشر. ولربما كان أوزولد شبنغلر محقّاً بصدد ذاك الانحطاط الذي نحس تجاهه بالحنين. بالطبع يحقّ لنا أن نتكلم من وجهة نظر عصرية، وبالطبع لا يجانبنا الصواب إن فعلنا ذلك. ثمة إشارة لذلك في “كوبلس” لخورخي مانريكي، في شيء من سخرية:
“كما يلوح لنا/ كل وقتٍ في الماضي/قد كان أفضل”.
“كما يبدو لنا” تعقبها “كل وقت في الماضي كان أفضل”… نعم، هذا ما قاله شوبنهاور، إننا نرى الماضي كشيء أفضل، ولكننا بالمثل نراه كشيء قد توقَّف، أي أننا لم نعد مُمثلين بل مجرد مشاهدين. فيما نسميه الحاضر نحن ممثلون، فثمة فكرة عن المسؤولية تصحبها فكرة ما عن الخطر.
والماضي، حتى وإن كان فظيعاً؛ يمكننا أن نفكر في أزمنة روساس بشيء من حنين، وذلك لأنها رغم فظاعتها قد انقضت؛ ثَبَّتَها الزمن. وبالمثل ثبَّت من صورتها الفظيعة. من ناحيةٍ أخرى، فبوسع الحاضر أن يتهددنا، كما تتهددنا الحياة في كل ثانية نعيشها.
فيراري: هذا صحيح، وهي نقطة أخرى أريد أن أثيرها فيما يتعلق بكافكا. كاتبة تعرفها كتبت مقالاً مهمّاً عن كافكا، وقد طالعته مؤخراً، إنني أعني “كارمن غاندارا”.
بورخيس: كنت أعرفها، وأحتفظ بذكريات عزيزة عنها، قرأت قصة لها… “المسكون”، لست واثقاً ولكن أليست مشابهة لـ”منزل تحت الاحتلال” لخوليو كورتاثار؟ أم هي ثيمة مغايرة؟
فيراري: المنظور مختلف. تشير هي لكافكا وتقول شيئاً صدمني، وهو إن كافكا طوال حياته كان ينشد إلهاً “غائباً” في عصرنا.
بورخيس: نعم، لقد طُرح عليّ هذا السؤال مراراً، لكنني لا أفهم هذا السؤال.
فيراري: هي تعني أنه برغم كل شيء، لربما كانت لكافكا “روح دينية” .
بورخيس: نعم، ولكن الروح الدينية لا تحتاج لأن تؤمن بإله شخصيّ. مثلاً لا يؤمن الباطنيون البوذيون بإله شخصي، ولكن هذا لا يشكّل أية أهمية. فكرة الإيمان بإله شخصي ليست عاملاً ضرورياً للروح الدينية؛ المؤمنون بوحدة الوجود مثال على ذلك، أو سبينوزا، فقد كان بالأساس باطنياً، وقد قال: “ديوس سيفي ناتورا”، “الله أو الطبيعة”، كلا الفكرتين كانتا متطابقتين بالنسبة له. وهذه ليست الحال بالنسبة لمسيحي لأن المسيحية في حاجة للإيمان بإله شخصي، إله يحكم على أفعالنا.
نجد في “الرجل المثال” لإيمرسون أن سويدنبورغ يمثل الباطني، وهو لا يؤمن بإلهٍ شخصي، ولكنه يتخير بين الجنة والجحيم. بعد الموت –وهو يقول هذا بالفعل- يجد الإنسان نفسه في منطقة غريبة، ويخاطبه أناس غريبون. بعضهم ينجذب له وبعضهم ينفر منه، ويمضي مع أولئك الذين ينجذب لهم، ولو كان إنساناً شريراً فإن من ينجذب لهم يكونون شياطيناً، لأنه يكون أكثر ارتياحاً للشياطين من الملائكة. وإن كان إنساناً بارّاً فإنه يرتاح لصحبة الملائكة، أي أنه يتخير صحبته تبعاً لذلك.
بمجرد أن يكون في الجنة أو الجحيم، فإنه لا يرغب في أن يكون في أي مكان آخر لأنه يترتب على هذا أن يعاني بشدة.
آمن سويدنبورغ بإلهٍ شخصي، هذا مؤكد، لكن المؤمنين بوحدة الوجود عامة لم يفعلوا.
ما يهم هو أن الكون يتضمن أطروحة أخلاقية. وإن كان ثمة أطروحة أخلاقية، وإن كنا نحسها، فإن هذا يعني أن نتمتع بعقلية دينية.
وأنا أؤمن أننا ينبغي أن نجرب الإيمان بالأطروحة الأخلاقية، بالرغم من عدم وجودها.
ولكن الأمر عائد لنا في النهاية، أليس كذلك؟.
الهوامش:
1- لبورخيس عدة مقالات عن كافكا، أشهرها ربما مقاله (كافكا وأسلافه) –من كتابه (مختارات الفنتازيا والميتافيزيقا)، ترجمة: خليل كلفت-، وفيه يتحرى أسلافاً أدبيين لكافكا ويجدهم، يذكر منهم: “مفارقة زينو الإيلي ضد الحركة، أمثولة صينية عن حيوان بشير بالخير لكن لا هيئة له تمكن من معرفته، قصتان رمزيتان لكيركغارد، قصيدة لبراوننج، وقصة لليون بلوا وأخرى للورد دونساني”. والمفهوم الذي تقرره هذه المقالة ذو صلة بسؤال المؤلف وعلاقات النصوص المتبادلة، حيث يبدل كل نص جديد قراءة ما سبقه من نصوص، بل ويخترع أسلافه، في الوقت نفسه الذي سيترك فيه أثراً على المستقبل، يقول بورخيس في نهاية مقاله ذاك: “وإذا لم أكن مخطئاً فإن القطع غير المتجانسة التي عددتها تشبه كافكا؛ وإذا لم أكن مخطئاً فإنها ليست جميعاً متشابهة. وهذه الحقيقة الثانية ذات مغزى أعمق. وفي نص من هذه النصوص نجد خصوصيات كافكا إلى حد يزيد أو ينقص، لكن لو لم يكتب كافكا سطراً واحداً، ما كان بوسعنا أن ندرك هذه السمات المميزة؛ وما كان لها أن توجد في الأعمال الأخرى. وقصيدة (مخاوف ووساوس) لبراوننج تتنبأ بإنتاج كافكا، غير أن قراءتنا لكافكا تشحذ وتُحرّف إدراكياً قراءتنا للقصيدة. ولم يقرأها براوننج كما نقرأها نحن الآن. وبلغة النقاد فإن كلمة (سَلَف) لا غنى عنها، غير أنه ينبغي تطهيرها من كل دلالة على المساجلات أو التنافس. والحقيقة إن كل كاتب يخلق أسلافه الخاصّين به. فإنتاجه يعدل تصورنا للماضي، مثلما سيعدل المستقبل. وفي هذه العلاقة المتبادلة يعد تطابق أو تعدد الناس المعنيين غير ذي بال…”، سيشير بورخيس في مقالات وقصص أخرى للثراء المحتمل للأدب في حال حدوث إزاحات ومفارقات مقصودة للنصوص الأدبية بنسبتها لآخرين، يقول مثلاً في نهاية قصته (بيير مينارد، مؤلف الكيخوته) – من مجموعته القصصية (المرايا والمتاهات)، ترجمة: إبراهيم الخطيب- -وهي أول قصة قصيرة يكتبها بورخيس، في مزيج سيكرره لاحقاً بين فني القص والمقال، وتحكي القصة عن كاتب فرنسي متخيل، يكرس نفسه في القرن العشرين لكتابة رواية سيرفانتس (دون كيخوته) التي نُشرت لأول مرة في القرن السابع عشر، وفي سبيل هذه المهمة كان عليه ابتكار طرائق عدة، يتخلى عنها الواحدة تلو الأخرى، ليصل أخيراً للحظة تتيح له كتابة (الكيخوته) بلا محاكاة أو نسخ حرفيّ، وإنما ابتكاراً يُغيِّر دلالة كل عبارة من العمل، والقصة وإن بدت عن الكتابة، فهي في جوهرها عن فعل القراءة المتعدد بتعدد القراء ومواضعهم في الزمان والمكان- يقول: “لقد أثرى مينار (ربما دون أن يدري) فن القراءة المسكوك والخلق بواسطة تقنية جديدة: تقنية المفارقة التاريخية المتعمدة والإسنادات الخاطئة. وهذه التقنية التي لا حصر لتطبيقها، تدعونا إلى تصفح (الأوديسا) كما لو كانت قد ظهرت بعد (الإنيادة)، وكتاب مدام هنري باشوليي كما لو كان كتاب مدام هنري باشوليي. إنها تقنية تعمل على إعمار الكتب الأشد هدوءاً بالمغامرات. ألا يعتبر إسناد كتاب (محاكاة المسيح) إلى لوي فردينان سلين أو جيمس جويس كافياً للنصائح الروحية الهزيلة التي يتوفر عليها هذا الأثر؟”. ويختم مقاله (مترجمو ألف ليلة وليلة) -من مجموعته (قصص)، ترجمة: محمد أبو العطا- بالعبارة التالية: “إن لألمانيا أدباً فانتازياً، بل إن لها أدباً فانتازياً فقط على الأحرى، سواء في الفلسفة أو الرواية. وثمة عجائب في (ألف ليلة وليلة) كنت سأبتهج لو أعيدت صياغتها بالألمانية… كم من الأشياء كان بوسع رجل مثل كافكا أن يقدم عليها من أجل أن يرتب ويضيف إلى تلك الألعاب، كي يعاود كتابتها طبقاً للـتشويه الألماني، طبقاً للكآبة الألمانية”.
2- في مقالها (كافكا: إعادة تقييم في الذكرى العشرين لموته) -من كتاب (إضاءات لفهم الواقع) ترجمة: إبراهيم العريس- تقارب حنة أرندت كافكا وفقاً لمفهوم (الضرورة والحتم)، وهو مفهوم سائد حينها، في منتصف القرن العشرين، لتبرير أفعال الدول والجماعات، تجاه غاية مستقبلية وتعريف للإنسان، يقتضي فعل أي شيء للمضي نحوه، ويفسّر كل فعلٍ بحسبانه ضرورة في سبيل مثالٍ مبتغى للإنسان. ترى أرندت أن كافكا في أعماله الروائية، حاجج ضدَّ هذه (الضرورة)، وضد الآلة البيروقراطية المستقلة والمبررة لشتى الفظاعات في سبيل غايتها، وتقول إن كافكا حاول في أعماله كشف البنية الجوانية أو الغورية لهذه الآلة، محللاً لا متنبأً بما ستؤول إليه الأمور في حال اتخذ الإنسان مأخذ الطبيعة (الحتم) لتبرير أفعاله، حينها سيغدو الإنسان -حسبها- جزءاً من الطبيعة، لا كياناً عاقلاً منفصلاً عنها، وواضعاً لقوانين مُخضِعة لها، وإنما جزءاً من منظومتها الماضية نحو التدمير، نحو الانحلال؛ مصير كلّ ما هو منتمٍ إلى الطبيعة. فغاية أعمال كافكا كانت بيان خطل هذا التصور وعواقبه، عواقب عايشها من عاصروا عقد الأربعينيات من القرن العشرين. تصف حنة أعمال كافكا بأنها -وللمفارقة- لا تتخذ سبيل غيره من الكتاب الحداثيين، في ابتكار أساليب وتقنيات جديدة للتعبير عن مشاعر واعتلاجات جديدة، بل هي تُنقّي وتُصفّي اللغة الألمانية لتغدو بمثابة الدارجة، متخلّصةً من كل البنى والتعقيدات الأسلوبية، نحو أسلوب لا يفجؤك بجدته وإنما بمعناه الكلي، فليست كل جملة ذات قيمة عند كافكا كما يشير بورخيس في حواره، ولكن العمل ككل هو حامل للمعنى، وهو المعهود في كل أمثولة أو حكاية رمزية، لا بناءها الأسلوبي وإنما معناها الكلي، حينها يتضح أثر كافكا وقيمته، فالعمل كله جملة واحدة متصلة تشير لدلالة أو مبدأ يشمل كافة عباراتها.
3- إحدى قصص خوليو كورتاثار الذائعة، اختارها بورخيس للنشر في مجلد مُعد لقصص الفنتازيا حول العالم (كتاب الخيال). وكتب عنها في العام 1985 في تقديمه لمجموعة قصصية لكورتاثار:
“خلال عقد الأربعينيات كنت محرراً لمجلة أدبية كانت “سرية” بشكلٍ أو بآخر. وذات ظهيرة لا تختلف عن أية ظهيرة أخرى، أحضر لي شاب فارع الطول لا أذكر ملامحه جيداً، مسودة لقصة قصيرة. أخبرته أن يعود بعد عشرة أيام وحينها سأطلعه على رأيي. فعاد في الأسبوع الذي يليه. أخبرته أن قصته راقتني للغاية وأنني قد بعثت بها إلى المطبعة.
وبعدها بقليل طالع خوليو كورتاثار الحروف المطبوعة لـ(منزل تحت الاحتلال)؛ يصحبها رسمان بقلم الرصاص لنورا بورخيس. مرت الأعوام، وذات ليلة في باريس ذكر لي أن هذه كانت أول مرة ينشر له فيها. ويشرفني أنني كنت ذا جدوى.
موضوعة تلك القصة هي الاحتلال التدريجي لمنزل من قبل قوى خفية. في قطع لاحقة يوظف كورتاثار هذه الثيمة بشكل أكثر مواربة وأكثر تأثيراً.
عندما قرأ دانتي جابرييل روزيتي رواية (مرتفعات ويذيرنج) كتب لصديق له: “تجري أحداثها في الجحيم، لكن في أماكن -ولا أدري لأي سبب- لها أسماء إنجليزية.” شيء مشابه يتكرر وقوعه لدى كورتاثار. شخوص الحكاية تافهون عمداً، يحكمهم روتين من علاقات الحب العابرة والخلافات العفوية. وهم ينضوون ضمن أشياء تافهة: ماركات سجائر، نوافذ متاجر، واجهات عرض، ويسكي، صيدليات، مطارات، محطات سكك حديدية. وتستهلكهم المحطات الإذاعية والصحف. الطبوغرافيا تماثل تلك التي لبوينس آيريس أو باريس، ولأول وهلة تلوح لنا هذه كتقريرية مجردة. وشيئاً فشيئاً يتكشَّف لنا أن الأمر ليس كذلك. فالراوي قد جذبنا بخفة إلى عالمه المريع، حيث السعادة أمر محال. إنه عالم يفتقر للحواجز وتختلط كائناته؛ وعي رجلٍ قد يحلّ بوعي حيوان، أو وعي حيوان بوعي رجل. كما أنه يتلاعب بالمادة التي تُشكّلنا: الزمن. في بعض هذه القصص ينساب تتابعان زمنيان معاً ويمتزجان. لا يبدو الأسلوب حذراً، إلا أن كل كلمة قد اختيرت بعناية. ليس بوسع أحد أن يعيد حكاية حبكة قصة لكورتاثار؛ فكل واحدة تتألف من كلمات محتمة في تتابع محتم. إن حاولنا اختصارها ندرك أن شيئاً نفيساً قد ضاع” المترجم.
4- سيكتب بورخيس بعد عدة سنوات من هذه المحاورة -في العام1979- مقدمة لمجموعة قصصية لفرانز كافكا، صدرت تحت عنوان إحدى قصصه (طائر الرخمة)، وفيها سيتحدث عن الروح الدينية لأعمال كافكا وعن حبكات وموضوعات عدد من أعماله:
“من المعروف جيّداً أن فيرجيل وهو يموت طلب من أصدقائه أن يحيلوا رماداً المخطوطة غير المكتملة للإنيادة، والتي كان قد كرس لها أحد عشر عاماً من العمل النبيل والمحكم؛ لم يخطر لشكسبير أبداً أن يجمع مسرحياته في كتاب؛ وكافكا عهد لماكس برود بتدمير الروايات والقصص التي ستتسبب في شهرته. التشابه بين هذه الحوادث العرضية الشهيرة –إن لم أكن مخطئاً- وهميّ.
عرف فيرجيل أنه بإمكانه الاعتماد على عناد أصدقائه البار، كما هو حال كافكا مع ماكس برود. أما حالة شكسبير فتختلف بالكلية. يخمن دي كوينسي أنه بالنسبة لشكسبير فإن الجمهور كان يتعاطى مع الأداء المسرحي لا مع النشر؛ العرض المسرحي هو ما كان يهمه. على أية حال، فالرجل الذي يرغب بالفعل في اختفاء كتبه لا يوكل هذه المهمة لآخرين.
كافكا وفيرجيل لم يسعيا لتدمير عملهما؛ بل أرادا فحسب أن يحررا نفسيهما من مغبة المسؤولية المتأتية عن تأليف كتاب. فيرجيل، كما أعتقد، حرَّكته دوافع جمالية: أراد أن يراجع بعض الإيقاعات والنعوت. أما حالة كافكا فأكثر تعقيداً، إذ بوسع المرء أن يعرّف أعماله بأنها أمثولة أو سلسلة أمثولات ثيمتها الوشيجة الأخلاقية بين الفرد والإله والكون العصي على الفهم.
وبرغم هذه الخلفية العصرية، فإن كافكا أقرب لسفر أيوب من قربه لما يُدعى “الأدب الحديث”. تقوم أعماله على وعيٍ دينيّ، يهوديّ على وجه التحديد؛ بحيث أن محاكاتها في أي سياق آخر تغدو بلا معنى. رأى كافكا في عمله فعلاً إيمانياً، ولم يرد أن يفل من عزيمة الجنس البشري. ولهذا السبب طلب من صديقه أن يدمره، ولنا أن نشتبه في دوافع أخرى.
لم يكن بوسع كافكا أن يحلم بغير الكوابيس، والتي عرف أن لها مدداً لا ينقطع من الواقع. وفي ذات الوقت حقق العواقب المثيرة للشفقة للتسويف، حققها تقريباً في كل كتبه. كلا الأمرين، الأسى والإرجاء، استنفداه بلا ريب. كان ليفضل لو خط بضع صفحات سعيدة، لكن شرفه ما كان ليسمح له بهذا التزييف.
لن أنسى مطلقاً قراءتي الأولى لكافكا في دورية بعينها حداثية على نحو احترافي في عام 1917. محرروها الذين لم تعوزهم الموهبة على الدوام، كانوا مكرسين لإلغاء علامات الترقيم، وإلغاء الحروف الاستهلالية، وإلغاء القوافي، وللمحاكاة المثيرة للتوجس للمجاز، والاستخدام المفرط للكلمات المركبة، ومهام أخرى كانت ملائمة للشباب حينها، وربما للشباب في كل الأحيان.
وفي خضم هذا الصخب فإن أمثولة أخلاقية بتوقيع من يُدعى فرانز كافكا، قد بدت لقراءاتي الشابة سهلة القياد، فاترة على نحو لا يتسنى تبريره. وبعد مضي كل هذه الأعوام، أجسر على الاعتراف بعوزي الذي لا يغتفر للحس الأدبي. لقد تبدى أمام ناظري إلهام ولكنني لم أتبينه.
يعرف الجميع أن كافكا أحسَّ على الدوام وعلى نحوٍ غامض بالذنب تجاه والده، على ذات عادة إسرائيل تجاه إلهها؛ يهوديته التي فرقت بينه وبين بقية الجنس البشري، أثرت عليه بطريقة معقدة. لا ريب أن الوعي بدنو الموت وأن التسامي المحموم الذي يبعث عليه السل قد أرهفا من هذه الملكات. وهذه الملاحظات غير ذات صلة؛ ففي الحقيقة، كما صرح ويسلر: “الفن يحدث”.
فكرتان -أو بالأحرى، هوسان- تحكمان أعمال كافكا: الخضوع واللانهاية. على نحو التقريب ثمة تسلسل هرمي في كل خيالاته، وهذا التسلسل دوماً لا نهائي. كارل روسمان، بطل أولى رواياته، صبي ألماني فقير يشقّ طريقه وسط قارة مستغلقة؛ وفي النهاية يدخل مسرح أوكلاهوما الطبيعي؛ هذا المسرح اللا نهائي ليس أقل ازدحاماً من العالم ويحاكي الفردوس قبل وقوعه. (ملمح شخصي للغاية: ولا حتى في صورة الجنة تلك يحقق البشر السعادة، وثمة العديد من الإرجاءات الوجيزة).
بطل روايته الثانية، جوزيف ك. الذي تستنفده على نحو متنامٍ محاكمة بلا معنى، لا يتبين مطلقاً الجريمة التي هو متهم بها، ولا يقابل مطلقاً الهيئة الخفية التي تقضي عليه بلا محاكمة بالإعدام بالمقصلة. وك. بطل الرواية الثالثة والأخيرة مسَّاح يدعى إلى قلعة لا يسعه دخولها، ويموت دون أن تتعرف عليه سلطاتها الحاكمة.
موضوعة الإرجاء اللا متناهي تحكم قصصه بالمثل. إحداها تتناول مبعوثاً إمبراطورياً لا يصل أبداً لمبتغاه جراء أناس عدة يعرقلون مسيرته؛ وأخرى عن رجل يموت دون أن يتمكن من زيارة القرية المجاورة؛ وأخرى عن جارين لا يتمكنان أبداً من أن يلتقيا. وفي أكثرها رسوخاً في الذاكرة “سور الصين العظيم” (1919) – فاللا نهائي متشعب: لإيقاف تقدم جيوش على بعد لا نهائي، يصدر إمبراطور متناء على نحو لا نهائي في الزمان والمكان، أمراً لأجيال لا نهائية أن تُشيّد بلا نهاية سوراً لا نهائياً لإمبراطوريته اللا نهائية.
وأكثر فضيلة عند كافكا لا يتطرق إليها الشك هي ابتكار مواقف لا تُطاق. وتكفي بضعة أسطر لتوضيح جازم:
على سبيل المثال: “ينتزع الحيوان السوط من يدي سيده ويضربه في سبيل أن يغدو سيداً، دون أن يعي أن هذا لا يعدو كونه وهماً تسببت به عقدة جديدة في السوط”.
أو: “تغير الفهود على المعابد وتحسو النبيذ من كؤوس القربان؛ يقع هذا فجأة؛ وفي النهاية فإن النبوءات قد قالت به قبل وقوعه ويضحي جزءاً من طقوس القربان”.
التصريح عند كافكا أقل إثارة للإعجاب من التلميح: ليس في أعماله سوى رجل واحد: الإنسان الأليف homo domesticus، إنسان ألماني للغاية، يهودي للغاية، متلهف لموضع -مهما كان متواضعاً- في نظام ما، في الكون، في مؤسسة، في مصحة عقلية، في سجن.
تكمن الأهمية في الحبكة والمزاج، لا في تطور الحكاية أو العمق النفسي. ومن ثم تفوقت قصصه على رواياته؛ ومن ثم الحق في اعتبار أن مجموعة القصص هذه الماثلة أمامنا تتيح لنا تماماً أن نقدر هذا الكاتب المتفرّد حق قدره”. المترجم.