الموسيقى والمقاومة

المقدمة
المقاومةُ إحدى الصور التي تجلّت بها الموسيقى في حياة الشعوب، من خلال تطوّر أنماطها اللحنية والإيقاعية والنغمية، بوصفها لغةً تخاطب وجدان الناس وتعبر عن أحلامهم وآمالهم وأفراحهم وأحزانهم.
فالموسيقى ليست ترفًا فنيًا، بل فعلٌ اجتماعي وجمالي في آن، يعبّر عن رؤية الإنسان لواقعه ومعاناته. إنها عملٌ جماعي، وكل إنتاجٍ فنيٍّ يحمل في جوهره قيمة اجتماعية تعبّر عن زمنها.
تهدف هذه الورقة إلى دراسة التأثير الاجتماعي للأعمال الموسيقية المقاومة في حياة الشعوب، بوصفها شكلاً من أشكال الوعي الجماعي والنضال الرمزي ضد القهر والاضطهاد.
البعد المفاهيمي
يتفاوت موقع الموسيقى في علاقات القوة والسيطرة باختلاف موقف الفنان من الصراع الاجتماعي والسياسي.
فالفن قد يُوظَّف لخدمة السلطة، فيتحوّل إلى أداة للاحتفاء بالحكام وتجميل النظام القائم، مروّجًا لثقافة الطاعة والتبجيل، أو لما يسميه بيير بورديو «الغرس الرمزي للقيم السائدة».
وفي المقابل، تظهر موسيقى المقاومة كفعلٍ مضاد، يُغذي الذاكرة الثورية للشعوب، ويعبّر عن الثقافة الفرعية المناهضة، تلك التي تنتج أعمالًا فنية تسعى لتغيير الوضع القائم وتفكيك رموز القهر.
إن جوهر الموسيقى المقاومة لا يقتصر على رفض تحويل الفن إلى ترفٍ استهلاكي، بل في استمرارية أدائها لوظيفتها الاجتماعية والنقدية، من خلال بثّ الوعي الجمعي، وشحذ إرادة الشعوب في مواجهة الظلم وانعدام المساواة.
فالموسيقى هنا ليست مجرد ترفيه، بل قوة روحية تمنح الناس طاقة الرفض، وتبشّر بمستقبلٍ خالٍ من الاضطهاد العرقي والنوعي والطبقي.
بهذا المعنى، تصبح الموسيقى المقاومة لغةً جمالية وإنسانية في آن، تؤدي وظيفتيها الأخلاقية والفنية في خدمة التحرّر.
الوظائف الاجتماعية للموسيقى المقاومة
التضامن الاجتماعي
مثّلت موسيقى المقاومة أداةً أساسية لبناء التضامن الوجودي بين الشعوب، وجعلتها أكثر تفاعلاً وتواصلاً مع قضاياها المشتركة.
ويُعدّ ظهور موسيقى الريغي (Reggae) مثالًا بارزًا على ذلك.
فقد نشأت في أحضان حركة الراستافاريا، التي انبثقت بين السود ذوي الأصول الإفريقية في جامايكا، كردّ فعلٍ على الرقّ والاستعمار والتمييز.
اتخذ أتباعها أسلوب حياةٍ يجمع بين الطقوس الدينية والهوية الإفريقية، وجعلوا من الموسيقى وسيلةً روحية للتعبير عن الرفض والأمل.
من رحم تلك الحركة خرجت موسيقى الريغي لتصبح صوت الأحياء الفقيرة في كينغستون، تنادي بالكرامة والعدالة والوحدة.
وحمل لواءها فنانون مثل بيتر توش، وجيمي كليف، وبوب مارلي، الذين جعلوا من فلسفة «الحبّ الواحد – One Love» شعارًا للإنسانية المشتركة ورسالةً للسلام والتحرّر.
الموسيقى كذاكرة للشعوب
تلعب الموسيقى دوراً جوهرياً في توثيق الأحداث التاريخية وتحويلها إلى ذاكرة حيّة. قالت مغنية الجاز الشهيرة نينا سيمون: “واجب الفنان أن يكون مرآةً لزمنه.”
وقد جسّدت هذا المعنى في أغنيتها الشهيرة «ميسيسيبي غودم»، التي كتبتها عام 1963 بعد مقتل ناشط الحقوق المدنية ميدغار إيفرز وتفجير كنيسة في ألاباما، لتصبح نشيدًا غاضبًا ضد الفصل العنصري في أمريكا ،وفي سبعينيات القرن الماضي، كتب جيل سكوت هيرون أغنيته الخالدة «الثورة لن تُنقل على التلفاز»، التي مزجت الشعر بالجاز في نقد الإعلام والسياسة خلال حرب فيتنام، لتتحول إلى صرخة ضد الخداع الجماهيري. أما في إفريقيا، فقد صاغ فيلا كوتي موسيقى الأفروبيت لتكون سجلاً للألم والمقاومة في نيجيريا. في أغنيته «الحزن والدموع والدماء» صوّر مشهد القمع بواقعية مذهلة:
“شخص يموت، شخص آخر للتوّ مات، الشرطة والجيش في كل مكان، والارتباك يعمّ.”
فكانت موسيقاه بمثابة تأريخ شعبيٍّ ضد القهر السياسي.
إرادة التحرير
كما وصفها غسان كنفاني، فإن إرادة التحرير هي النتاج الطبيعي للثقافة المقاومة، والموسيقى واحدة من تجلياتها الأصدق.
في جنوب إفريقيا، كانت الأغاني أداة مركزية في إسقاط نظام الفصل العنصري، فشكّلت استراتيجية مقاومة جماعية وظيفتها شحذ الهمم وتوحيد الصفوف.
من الأغاني الزولوية الشعبية إلى أناشيد ماما ميريام ماكيبا ولاكي دوبي، كانت الموسيقى هناك “رصاصة الوعي” التي سبقت البندقية.
وفي فلسطين، لعبت الأغنية الشعبية دوراً حيوياً في تعبئة الجماهير ضد الاحتلال، مثل أغنية «يا طالعين عالجبل»، التي شكّلت رمزًا للنضال الجمعي والذاكرة الوطنية.
أما في إريتريا، فقد مثّل الفن الثوري وسيلة للتعبئة وغرس القيم الوطنية، من خلال أصوات مثل محمد عثمان محمد علي وهيلين ملس، اللذين جعلا من الفن “سلاحًا قبل الرصاص”.
رؤية عامة للموسيقى المقاومة
كانت موسيقى المقاومة، ولا تزال، شكلًا أساسيًا من أشكال التعبير السياسي والاجتماعي.
في أزمنة الاضطراب، تتحول إلى ملاذٍ للروح ومنبرٍ للوعي؛ فهي متنفس للفنانين، وصوت للمهمشين، وصرخة جماعية في وجه الظلم.
تتعدد أنماطها وأدوارها، من أناشيد العمال إلى أغانٍ نسوية في حركة الفيمنزم بانك روك، ومن إيقاعات الهيب هوب التي واجهت عنف الشرطة والعنصرية في أمريكا، لكنها تشترك جميعًا في جوهرٍ واحد:
تحويل الألم إلى إيقاع، والمقاومة إلى جمال.
فالهيب هوب، على سبيل المثال، عبّر فرق مثل Public Enemy وGrandmaster Flash والمغني Tupac Shakur عن غضب السود الأمريكيين من عنف الشرطة والتمييز الطبقي، لتصبح موسيقاه لغة احتجاجٍ عالمية.
الخاتمة
تُظهر دراسة الموسيقى المقاومة أن الفن ليس زينة للحياة، بل أحد أشكال الوعي الإنساني فحين يعجز الخطاب السياسي عن التعبير، تتكلم الموسيقى بصدقٍ أعمق هي الذاكرة التي لا تُحرق، والصوت الذي لا يُكمم.
ولهذا ستبقى الأغنية المقاومة شاهدًا على أن الإيقاع يمكن أن يهزم الرصاص، والنغمة قد تفتح درباً للحرية.
المراجع
- موسيقي الريغي اهازيج الم السعادة العالم وثقت معاناة المجتمع الجامايكي والهمت شباب الستينيات القتال من اجل الحقوق أشرف الحساني
- الوضع الثقافي لعرب فلسطين المحتلة بقلم غسان كنفاني مجلة لوتس
The history of American protest music, from “Yankee Doodle” to Kendrick Lamar How protest music evolved from Civil War refrains to viral Trump videos . by Bridgett Henwood
- https://www.nytimes.com/2020/06/10/arts/music/fela-kuti-afrobeat-playlist.html