ثمار

سُعاة أفريقيا وحداثاتها: صور التعافي من روشتة الحداثة*

قرأتُ الأفروعمومية – بحكم تحيُّزاتي الجمالية المعرفية – من منظور تفكيك نصّ افريقيا، كما قاله المثقف المناهض وهو يراجع مقولات وممارسات الاستعمار. كما تحرّيتُها على الأخص في أدب المقاومة الافريقية بمقارباته المختلفة. لكن مسائل إدارة التنمية والتكنولوجيا، والتاريخ الحميم لنشأة وتفعيل الحركة الأفروعمومية، وأقدار تنظيرها وممارساتها، ومكان النساء في هذه المخاضات ظلّت مناطق مغلقة لديّ إلى أن شرحها هذا الكتاب، الذي استعاد جزءاً مُسقَطاً من مادية الصراع في افريقيا وتنزُّلاته الأرضية.

سَعْيُ كتاب قصي همرور في هذا الشأن يبني على ويُعاضد قراءات سابقة راجعَت استصغار تاريخية ومادية التدافع في القارّة. فقد عابت الناقدة بينيتا باري ـ وهي صوت قويّ في دراسات مابعد الاستعمار ـ على النظرية الفرنسية تراخيها في قراءة تاريخية الواقع الذي فرضته الإمبريالية العالمية، واستجابات المستعمَر الخصيصة وفقاً لتاريخه وثقافته منتِجاً ما سَمَّاه المؤرخ هاري هاروتينيان «الحداثات الهامشية»، وأُفضِّل وصفها بحداثات الفروع. وشمل نقد باري أصواتاً مؤثرة مثل غياتري سبيفاك وهومي بابا، حيث قالت:

«إنّ إهمال الحجّة التاريخية والاجتماعية لا تخطئه العين في أعمال بعض نقّاد دراسات مابعد الاستعمار، الذين حلّوا وثاق الاستعمار من الرأسمالية التاريخية وأعادوا بسطها للتدارس بوصفها حدثاً ثقافياً. على ذلك، رجحت كفة وجود إرادة للسلطة، إرادة ما غير متعيّنة المصدر، واستُبعِدت الدوافع المحسوبة.»[1].

في المقابل، مع التغيّرات الجيوسياسية والاقتصادية المتسارعة، وبلبلة الليبرالية الجديدة في إدارة نفسها، والتعريفات الجديدة لثورة الاتصالات وديموقراطية المعرفة، تعالت الشكوك حول صلاحية مفاهيم الوحدة الافريقية كما تصوَّرَها الافروعموميون الآباء، وما إن كانت الأطر النظرية للآفروعمومية مستجيبة لواقع متحوّل وشديد السيولة. هذه المنازلات مجدية في فهم أطروحات معاصرة مهمة مثل الأفروبوليتانية، وهي قراءة أشيل مْبيمبي لاستشرافات فرانز فانون – مع إسقاط غضبه وجذريته – لإفريقيا عالمية، افريقيا عبرت وتعافت من صورة القارّة القاعدة العاجزة التي أنتجها الخيال الاستعماري.

يدفع هذا الكتاب بمشروعية فكرة افريقيا موحّدة، لكنه لا يتراخى في نقد الحركة الافروعمومية وفي تغذيتها بالهموم التي يفرضها الواقع الإقليمي والعالمي، وباستجابات المجتمعات الافريقية في حركتها الداخلية. في ذلك تقاسمتُ مع الكاتب، خارج نص هذا الكتاب، الفضول حول صدور أول صحيفة جنوب سودانية في عربي جوبا، وما الذي يعنيه ذلك في سياق الخارطة اللغوية للإقليم والتبادل الثقافي بين المكونات المختلفة في القُطر، وما إن كان ثمة تقليد أدبي جديد يتخلّق من داخل فعل التدوين، وثمة وحدات ثقافية عابرة للإثنيات تتشكّل، وكلها أسئلة تختبر سعة ومرونة الأطر النظرية للأفروعمومية.

يراجع قصي همرور موقف الأفروعمومية من الثقافة في سياق عمليات التحرّر وما تلاها، وحرّضني ذلك، في هذه المحاورة، على استدعاء لحظات أوقفتني فيها شراسة المؤسسات الأكاديمية والبحثية الاستعمارية في تمكين الإمبريالية الثقافية، وشراسة المقاومة الافريقية في كبح جماحها. وفي ذلك ذكر نشر المذكرة النارية «إبطال شعبة اللغة الإنگليزية» التي حرَّرَها ورفعَها إلى مجلس إدارة جامعة نيروبي عام 1968 الكاتبان تعبان لوليونق ونقوقي واثينقو، والمؤرخ هنري اأنيومبا، الذين كانوا يعملون وقتها بالتدريس في شعبة اللغة الإنگليزية بالجامعة. طالَب ثلاثتُهم في وثيقة مشتركة بإلغاء الشعبة وتكوين شعبة الآداب واللغات الافريقية لدراسة الشعر والرواية في الأدب الافريقي، والأدب الكاريبي الذي لا يمكن إغفال صِلاته مع القارّة. في عرض حُجّتهم على خطل الابتهال للمركزية الأوروبية بقصر الدراسة على آدابها دفعوا بسؤال «إن كانت هناك حاجة لدراسة الاستمرارية التاريخية لثقافةٍ مفردةٍ ما، فلِمَ لا تكون الثقافة الافريقية؟»[2] وساق المحتجّون اللغة السواحيلية وأدبها دليلاً على تقصير الجامعة في توقير المعارف الافريقية: «هناك كمّ هائل من الآداب الكلاسيكية الرفيعة في اللغة السواحيلية، مكتوبة وشفاهية، كما أن الأدب السواحيلي المعاصر في نموّ مضطرد.»[3] حادثة مذكرة إلغاء شعبة اللغة الإنگليزية يمكن أن تُقرأ بالتوازي مع جهود المؤسسات الاستعمارية في إعادة تخطيط وجدان الأفارقة كما تظهر في حادثة أخرى وقعت قبل عقود قليلة من رفع المذكرة الغاضبة.

في عام 1925 قرّر الحاكم العام البريطاني في كلّ من كينيا، وتنجانيقا، وزنزبار، ويوغندا توحيد اللغة السواحيلية في إقليم شرق افريقيا وذلك بتشكيل لجنة توكل لها مهمة انتخاب لهجة معينة من بين لهجات اللغة السواحيلية العديدة لتكون اللغة الرسمية الموحدة في الإقليم. إن أحد الجوانب التي انخرط فيها المبشّرون، والمستعمرون الأوروبيون، ولاحقاً القوميون الأفارقة، هو هندسة اللغات في افريقيا. بالنسبة للغة السواحيلية، يقول أوفاهي، بدأت بعض الأصوات تنادي بوضع نظام لكتابة اللغة السواحيلية في الحرف اللاتيني عوضاً عن العربي لفك الارتباط بين اللغة والدين الإسلامي- رغم أن هذا الهدف لم يُصرَّح به على أيّ نحو- وهو تغيير تجنبته سابقاً إدارة المستعمرة الألمانية في شرق افريقيا إذ لم تجد له مسوّغات كافية. في عام 1930، بمصادقة وزير المستعمرات البريطانية أُسِّس ما يعرف باللجنة المشتركة بين الأقاليم للّغة (السواحيلية). عقدت تلك اللجنة أول اجتماعاتها في لندن:

«من الأمور الحاسمة في هذا الاجتماع اعتماد لهجة كيونقوجا (لهجة زنزبار، التي لم تكن شكلاً له ثقل في الأدب السواحيلي الكلاسيكي) بوصفها «اللغة السواحيلية الموحّدة»، من قِبل لجنة اللغات التي أُنشِئت في عام 1930 مفضِّلين تلك اللهجة على لهجة كيامو (لهجة لامو)، ولهجة كيمفيتا (لهجة مومباسا)، ولكلاهما قدح معلى في كتابة السواحيلية الكلاسيكية. (…). سنوكسل؛ مؤلف القاموس السواحيلي/الإنگليزي وعضو اللجنة المشتركة بين الأقاليم، قدّم هذا المسوغ: أولاً وقبل كلّ شيء [في اجتماع]، سُئلتُ لماذا تم اختيار لغة كيونجوجا أو لهجة زنجبار لتكون هي اللغة الموحدة بدلاً من الأشكال الأخرى، مثل كيمفيتا؟ أجبت أن السبب هو شيوع استخدامها في التجارة أكثر من الأنشطة الأخرى، وكانت قيمتها التجارية تملي اختيارها الشكل الموحد للغة.»[4]

 يشكّك أوفاهي في هذا التفسير قائلاً: «إذا كنا نتحدث عن أواخر العشرينيات، عندما أصبحت مومباسا المنفذ الرئيسي لشرق أفريقيا، لا تبدو هذه الحجة مقنعة للغاية.»[5] إن اللغة السواحيلية هي أكبر لغات افريقيا اليوم (يُقدَّر عدد المتحدثين بها بـ100 مليون شخص)، ومن الواضح أن توحيدها سهّل مهمة بناء وعي قومي تحرري خصوصاً في تنزانيا حين سارع نَيْريري إلى تسميتها اللغة الرسمية للبلاد. عدا أن الاستعمار في تسويغه الأخلاقي لوجوده في افريقيا احتجّ بعوز القارّة إلى الحضارة، وسمَّى حملاته الاستعمارية «ابتلاء الرجل الأبيض» الذي أخذ على عاتقه تنوير الظلام الروحي لقارّة فاتها التدوين والفلسفة. لم يَفُتْ على متخصصي اللغويات الأوروبيين معرفة أن السواحيلية لغة تَعتبر الشعرَ منجزَها الأساسيّ والأكثر تطوراً، لكن هذه الحقيقة الساطعة تطعن في منطلقات المشروع «الروحي» الأوروبي الذي أراد هندسة الثقافة بقطعها عن موارد إلهامها ليس فقط لصالح قاموس تجاري عالمي بل لإفقار الضمير الجمعي تمهيداً لكسر شوكته. هكذا اجتمعت ثلة من الرجال البريطانيين في قاعة نائية ليقرّروا بشأن تقاليد تعود إلى مئات السنين قاصدين ترويض لغة تعتبر «موطناً لتقليد أدبي فريد»، تقليدٌ يمكن مقارنة تطوره «خاصة فيما يتعلق بالشعر مع الفارسية (إيران) والأوردو (الهند) والتركية»، وإنجاز ثقافي تتحاور عبره الشعوب حول «موضوعات مشتركة بين عدة ثقافات حول المحيط الهندي، ما يعكس موقف السواحيلية الفريد باعتبارها الثقافة البحرية الحضرية الوحيدة في أفريقيا».[6]

إنّ هذا المستوى المتواري من عمليات إفقار الثقافة في افريقيا سار بالتوازي مع تعظيم صورة ومنجزات الحداثة الغربية التي لم يملك المستعمَر سبيلاً سوى التفاوض معها. وكتاب قصي همرور الحالي فيه تحريض على قراءة استجابة الثقافة الأفريقية الساخرة والقلقة لمعارض السلطة، التي حرص الغرب بدأب مؤلم على جعلها مرئية. ورغم أن فرانز فانون أنكر الاختزال الذي يأويه قولنا «الثقافة الافريقية»، لتعذُّر تحليل الثقافة على المستوى القارّي، فهي لازمة لبيئتها المباشرة، مستجيبة لها، إلا أن الحداثات الفروع هي في الأصل استجابة لواقع مشترك هو الإمبريالية العالمية، كما أوضحت باري، «من الضروري ملاحظة مدى ودرجة الإكراهات التي أُوقِعَت على مجتمعات استُهدِفت لمواردها الطبيعية وموارد العمل أو لأسباب مادية وسياسية. هذه المحددات أسبغت على كلّ حداثة فرعية فرادتها في هذه المواقع المختلفة، وسجّلت وعياً بإمبريالية عنيفة لن نتوقع وجوده في أوروبا الشرقية على سبيل المثال.»[7] إن محاولة المستعَمر تحجيم هذا العنف عن طريق استئناسه وتأويله في مجازات محلية، هو أحد الاستجابات الشائعة التي أنتجتها ثقافات سودانية مختلفة في السودان الإنگليزي المصري وفي السودان المستقل، وأتصوّر، توافقاً مع قراءة باري، أنها استجابة تخصّ تجربة فرض النفوذ بالقوة الصريحة في افريقيا عموماً. ففي التفاوض مع سلطة المفتش الإنگليزي في السودان ذهب مغني الرزيقات إلى تشبيه محبوبته «حوّة أم رقبة» بمفتش بريطاني يجوب النهر صعوداً هبوطاً في نواحي الدينكا. أما «حوّة الكورة» فتشبه في سطوتها مأمور شندي، وفي أغنية أخرى يخبرنا العاشق أن لـ «حوّة الكورة» سلطان مدير الفاشر سيفيل بيه Savile Bey. يبدو أن المعالجة التي تجمع بين المفتش الإنگليزي والمعشوق تتجاوز الإعجاب الكظيم بالخصم محل السلطة، فمغني الرزيقات أجرى معايرة سريعة لهذه السلطة وحكم بتقييدها فهي ليست مطلقة وليست داهية إدَّة. قول عاشق الرزيقات تمييز لسلطة المفتش، بمعنى إخراج الزيف منها: إن السلطة معك، نعم، لكن السلطة مبذولة، وها هي حبيبتي «حوّة» تقاسمك إياها ثم تجعلني من مبجّليها. وفي شيوع السلطة تقول نياجاك بينين، وهي مغنية من قبيلة النوير، في أغنيتها (جون كيندي): «حبيبي اسمه جون، جون كواك ريو. ورغم أنه ليس جون كيندي، إلا أن شهرته طبقت الآفاق.»[8] ويدافع مغني النوير بيتر بال كونج عن فلسفته عن طريق الإزراء بفلسفة الحداثة ساخراً من العبَّارات البخارية التي أجلستها سدود النيل الأبيض في مناطق النوير قائلاً: «سيبقى ذكري في النواحي، ولأسباب وجيهة: قولي رمحٌ نافذ، ولا تراني عالقاً في الوسط مثل نواعير العبَّارة.»[9] هكذا يُقيَّد التفوق التكنولوجي إلى الواقع: الأشياء الغامضة البرّاقة لا تبرق للأبد.

أورَثَ عنف الاستعمار حركات التحرر أعباء سيكولوجية معقدة. لقد أدرك منظرون من أمثال فانون ووالتر رودني أن افريقيا خضعت لعمليات تجريف وجداني يضاهي في حدّته استنزاف مصادر المواد الخام والإدخال القسري في نظام السوق العالمي. ولذلك شاعت عندهم «ثيمة» استعادة الفرد من الوضاعة، وأخذت هذه «الثيمة» شكلها الأكثر جذرية عند فانون: «على الحكومة القومية، قبل أن تُعنَى بمهابتها الدولية، أن ترُدّ الكرامة إلى كلّ مواطن، أن تجهّز العقول، أن تملأ الأعين بأشياء إنسانية، أن تملأ الأفق بنظر إنساني،»[10]. لقد وجبت استعادة الافريقي من عقل الاستعمار الذي عرقَنَ المعرفة. إن إنفاذ إرداة المستعمر في نسيج الثقافة، مثل توجيه دفة اللغة السواحيلية، تُكرَّر في أشكال مختلفة في كلّ مكان وطِئه المستعمر. إنها قصة السلطة التي تعمل في اتجاهات متضاربة، بحيث تقوِّض نفسها أحياناً. وهكذا ظلّ حقل السلطة مكان تفاوض مستمرّ بين الاستعمار والمجتمعات المحلية، مفاوضات مباشرة حول أشد المسائل حساسية مثل ملكية الأرض والحدود، نزولاً إلى أصغر مظاهر التعافي والانتباه.

تكشّفت في هذه المفاوضات تشوّهات العقل الاستعماري المرتعد والمضطر إلى اتخاذ ردود فعل متطرفة إزاء المقاومة. لم يتردد المستعمر البريطاني، على سبيل المثال، في محاولة السيطرة على أندية شاي البرامكة، التي انتشرت مثل النار في الهشيم من ديار بقارة كردفان ودارفور إلى ديار المسيرية والحمر وأولاد حميد والهبانية وقبائل النوبة في جنوب كردفان في السودان الإنگليزي المصري. وورد في مدونات السودان، وهي أرشيف استعماري بالغ الأهمية، أنه في عام 1930 قاوم مفتّشا رشاد والدّلَنج بالتعاون مع النُظّار هذه الظاهرة التي لم يجد لها أحدٌ تفسيراً منطقياً، لكن كان شكل تنظيم الأندية الهرمي، ودستور النادي، ونظام انتخاب وانتساب الأعضاء، ودفع الاشتراكات الشهرية، ونظام الغرامات، وجداول أعمال أنشطة النفير الزراعي وبناء البيوت بشكل جماعي، علاوة على طرق التمويل المختلفة مثل تخصيص أراضي معينة لزراعة القطن، في مناطق «اللِّيري» بجنوب كردفان، ثم بيع المحصول لصالح تمويل أنشطة النادي، كان كلّ ذلك بمثابة كابوس للمفتشين البريطانيين الذين توطّنوا على التحسُّب من جيوب التمرد الديني على غرار الثورة المهدية، لكن يبدو أن فكرة تنظيم علماني يجمع بين الفن والاشتراكية والشاي كانت شيئاً مريعاً لا يمكن التعايش معه. إن محاربة أندية شاي البرامكة استبطنت القلق من تشكُّل بنيات اجتماعية تزدهر فيها إرادة المقاومة، لكن كان فيها تهديد آخر يخص إرادة المستعَمر في توطين الحداثة الاوروبية بالطريقة التي تناسبه. فهذه النوادي كانت مخصصة للشباب الذكور بشكل حصري لكن لها فروع مخصصة للنساء، وكان منطقها الداخلي قريباً من مفهوم النقابة، لأن النادي، ضمن التزامات أخرى تجاه عضويته، كان مسئولاً عن مساعدة الأعضاء الذين يتعرّضون لمشكلات صحية أو اقتصادية. فوق ذلك صارت هذه الأندية ممكنة لأسباب من صميم الحداثة: افتتاح خط سكة حديد الأُبيّض عام 1914 وتأثير ذلك على تقليل تكلفة نقل السلع الكمالية مثل الشاي والسكر، والسبب الآخر هو التوسع في زراعة محصول القطن في الإقليم.[11]

من المقبول عند فانون أن الاستعمار هو البداية الحقيقية لفكرة توحيد افريقيا، لأن افريقيا بوصفها فضاءً غامضاً منطبقاً على نفسه إنما هي فكرة استعمارية بامتياز. إذ أن ما جمع افريقيا في باب الجروح السيكولوجية هو تجربة الاستعمار نفسها لأن المستعمِر يكرّر عنفه، يكرّر نفسه في كلّ مكان يذهب إليه، يطبق السياسات نفسها، ويحلم الأحلام نفسها، ويعاني كوابيس متشابهة. لكن وجب تخطّي الاستعمار (رغم أن ذلك لا يعني التوقف عن قراءة صوره) واعتناق مشروع حداثي متحرِّر من شروط معادلات القوى الحالية:

«علينا أن نمتلك القدرة لأن نتجاوز حزازاتنا مع الاستعمار لنرى هامشيته بالنسبة للحقيقة الأساسية: الحداثة مسألة مطلقة تتعلق بفكر الإنسان وحريته. وبالتالي علينا أن لا نخجل وألا نشعر بالتعارض ونحن نرتبط مع أصول هذه المسألة في أوروبا ونقاوم الاستعمار بكل السبل الممكنة في نفس الوقت. وهذا التوجه كان دائما الأساس الحقيقي لمحاربة الاستعمار. أن يُنظر للاستعمار باعتباره انحرافاً عن مشروع الحداثة الذي يتوجب على المستعمَرين في العالم الثالث استعادته. فرانز فانون في «مُعذَّبو الأرض» تحدث منذ البداية عن مشروع العداء للاستعمار كمشروع لإعادة صياغة العالم.»[12]

هذه النظرة المشْرِفة بلا حدّ على المستقبل هي أساس الكتاب الذي بين أيديكم الذي يسائل- في إشراقات وتراسلات فكرية مع كُتّاب ذوي ثقل معرفي- مسائل تحرُّر وتنمية القارّة، ومسألة وحدة افريقيا التاريخية، عبر قراءة متأنّية لجوانب مهمة في تاريخ الآفروعمومية التي هي بمثابة القصة الموازية. ففي الوقت الذي انعقدت فيه جلسات مؤتمر تخطيط اللغات الافريقية بلندن، كان مطعم السيدة آمي قارفي في شارع أوكسفورد يشهد سلسلة اجتماعات ستلعب دَوراً محورياً في مستقبل تحرُّر افريقيا: لقاءات المثقفين الأفارقة الذين حوّلوا الافروعمومية من أشواق إلى نظرية وممارسة. هذا الكتاب يقدم سرداً متأنياً لهذه اللحظات الفارقة في تكوين وميلاد، ومن ثم خروج فكرة الآفروعمومية إلى حيز التاريخ. كما يراجع ميراثها بحساب، واضعاً في الاعتبار سيولة التواريخ وتشابكها، وتحيّزات أو ممالاة الأطراف المختلفة، إلى جانب ما استجد من قضايا؛ على الأخص الهوة التكنولوجية التي تفصل افريقيا من العالم وكيفية التعامل معها في ظل تحديات كبيرة من بينها هجرة العقول والأيدي العاملة.

إن لحظة الحركة الآفروعمومية، كما يعيد الكاتب بناءَها في هذا الكتاب، هي لحظة تمتدّ وتتشعب في الماضي والحاضر والمستقبل لأنها، وقبل كلّ شيء، حركة تثوير مكانها الوعي. يضع قصي همرور هذا التعريف الثاقب المحيط متجاوزاً به أمر الجغرافيات الضيق: «الحركة الآفروعمومية حركة وعي نقدي بالواقع، وعمل وفق ذلك الوعي». على ذلك فهذا كتاب يمكن أن يُقرأ على خلفيات مختلفة. فهو مماس بين أفرع التاريخ، ودراسات ما بعد الاستعمار، وأنثروبولوجيا التنمية. ويناقش أسئلة جديدة طرأت ويتعيّن على الآفروعموميين تمحيصها مثل مسألة هجرة العقول، والانتفاع والانتماء للحداثة خارج أطُر الشعور بالدونية، ومكان مؤسسة الدولة الافريقية الحديثة، وتأهيل دراسات التنمية الافريقية، وانخراط النساء والرجال في صياغة مفاهيم وممارسات جديدة للمقاومة حسّاسة للنوع الاجتماعي وقضايا العدالة الاجتماعية. كما هو تحريض على تعريض التجربة الافريقية لأنوار أفق دائم التجدّد ودائم القلق ودحضٌ كامل لفكرة خروج مشروع الآفروعمومية من التاريخ، لأن مسوِّغ وجودها ما زال يتململ في قضايا شائكة مثل امتيازات الإرث الاستعماري التي تجلّت منذ شهور قليلة في قضايا التنازع على ملكية المَزارع في جنوب افريقيا، حيث يستمرّ الرجل الأبيض في الاستفادة من امتيازات أتاحها نظام الفصل العنصري.

ستلاحظون عند قراءة هذا الكتاب أن مكان المرأة في الحراك الأفروعمومي من المسائل الشائكة التي توقف عندها قصي همرور. لم يبد الكاتب تردداً في انتقاد ضعف أدوات قراءة وجود ومساهمة المرأة في حراك الأفروعمومية معترفاً بموقف الحركة المبدئي المتقدم تجاه النساء، وفي الوقت نفسه منتقداً التقصير في إبراز وقراءة هذه الأدوار المتخفية لكن الحيوية في دعم مسار الحركة منذ بدايتها كما يؤكد. إن أية قراءة سديدة لهذا التواريخ المتوارية تتطلب استراتيجيات بحثية تفارق المنظور الدارج الذي يبحث عن التاريخ في سرديات ذكورية مغلقة مثل سردية مثقفي الحراك الافروعمومي الذين فازوا، تحت ظل الاستعمار، ببعض الامتيازات التي لم تكن متاحة بالتساوي لرفقائهم من النساء. قالت هيذر شاركي في دراستها للسيدة غريس كراوفوت، وهي سيدة بريطانية رائدة في معارف أركيولوجيا النسيج، قضت بعض الوقت في السودان في مطلع القرن العشرين، قالت بإمكانية إعادة قراءة التاريخ عبر تقصي الآثار الحميمة للّقاءات غير الرسمية، والمداولات الشفاهية وطقوسها، والعلاقات العابرة للعرق التي جمعت بين المستعمِر والمستعمَر.[13] وثقت غريس كراوفوت أعمال مجموعة من النساء السودانيات العاملات في غزل ونسج الأقمشة السودانية التقليدية، وتحاورت معهن حول حياة وتطور الحرفة، والمواد الخام، والقرارات الفنية التي يتخذنها لزخرفة المنتجات. دوّنت كراوفوت هذه المعارف مصحوبة بصور فوتوغرافية في توثيق نادر ومبكر لهذه الزمرة الفنية المنسية. وعلّقت شاركي أن المؤرخين المختصين بالسودان، رغم تسلحهم بالمعارف، يفتقرون لمنظور كراوفوت، لأنهم يبحوث عن التاريخ في سردية الأحداث والتفاعلات السياسية الصفوية.[14]

هذه الملاحظات أعادتني إلى مسألة تعليم المرأة السودانية، وفرية أفضال المستعمِر عليها بإدخالها جنة التعليم الحديث، وهي لازمة لاحظتُها تتردّد على ألسنة أشخاص منخرطين في تمكين المرأة وسَدّ ذرائع استضعافها. إن قصة الاستعمار كما هو معروف هي قصة هجرة فائض رأس المال الأوروبي إلى مناطق استثمار جديدة. يرى محمد يوسف المصطفى[15] أن إدماج السودان في الإمبراطورية البريطانية هو، بالضرورة، توغّل وتوسّع لرأس المال الاحتكاري البريطاني داخل البلاد. ويحدِّد يوسف هدفاً عاماً للمستعمِر في السودان هو تطويرُ اقتصادٍ فلّاحيٍّ مرتبطٍ بمراكز رأس المال الغربية عن طريق التجارة الخارجية. كان السودان بحكم تضاريسه ومناخه مناسباً لإنتاج القطن بعمالة زهيدة، فقد كان القطن مطلوباً بأيّ سعرٍ تقريباً. على ذلك، نشأ مشروع الجزيرة تلبية للضغوط المتصاعدة لتوفير السلعة عالمياً. وكان نجاح مشروع الجزيرة رهيناً بقدرة المستعمر على خلق مجتمعات فلاحية مستقرة منتجة لمحاصيل نقدية، وقد وُضعت تشريعات وسياسات تضمن عدم مغادرة الفلاحين لمجتمعاتهم.

حُجّتي أنّ خلق مجتمعات فلاحية مستقرة منتجة للنقد كان هو الإطار العام الذي حكم عملية إجلاء المرأة السودانية من الفضاء العام الاجتماعي والسياسي، لكن، بطبيعة الحال، سُوِّقت هذه المحاولة نفسها بوصف الانتشال الحضاري. باستفتاء سياسات التعليم الاستعمارية، كما قرأتها جانيس بودي في مادة متنوعة من النشرات والمراسلات والوقائع الموثقة، سنرى إلحاحاً على تفادي توفير تعليم نظامي للمرأة السودانية. كانت السياسات البريطانية إزاء التعليم والصحة مؤرَّقة بتأسيس بنية اقتصاد إمبريالي يستغلّ الموارد ويساعد على خلق استدامة استعمارية على المدى البعيد. وقد بُذلت جهود لوجستية وبحثية كبيرة «لخلق شعب صحيح جسمانياً وقادر على الإنتاج.»[16] وتنكشف هذه النوايا في قصة تعليم الفتيات السودانيات حيث نرى بوضوح أن المستعمر الإنگليزي تحرّك تجاه المرأة السودانية من محل رعبه إزاء الانخفاض الرهيب في عدد السكان. وتقول شاركي إن «سنوات الحرب أثناء المهدية، والنزاعات مع أطراف داخلية، والمعارك مع أطراف خارجية مثل البريطانيين، والمصريين، والإثيوبيين، وحتى الإيطاليين، دمّرَت السكان. وما زاد من وتيرة الانخفاض في عدد السكّان موجات من الأوبئة خلّفت في إثرها الموت والخراب. لقد مات الرجال والنساء، أحراراً ومسترَقّين، بالآلاف، ما جعل مهمة إعادة البناء بعد المهدية أشدّ صعوبة في القطاع الزراعي».[17] كانت الإمبراطورية في حاجة إلى أيدٍ عاملة لتشغيل مشاريع القطن والمشاريع الزراعية الأخرى. وأظهرت تجربة توفير أيدٍ عاملة لمشروع الجزيرة التحديات الكبيرة في مواجهة استدامة العمل، حيث يرى يوسف أن عملية اجتذاب أيدٍ عاملة كافية من داخل مجتمعات الفلاحين برهنت على صعوبتها، سواءٌ أكانت هذه الأيدي من منطقة الجزيرة أم من مجتمعات أخرى، لأن الفلاحين في تلك السنوات الباكرة أبدوا ممانعةً في بيع قوة عملهم. على مستوى الحلول العاجلة لجأت الإدارة البريطانية إلى استجلاب عمال مصريين حيث وصل في ديسبمر 1913 ألفٌ وثمانون محكوماً من سجنَيْ طرة وأبو زعبل (بمصر) للعمل بمشروع الجزيرة في أعمال الري بمدينة سنار. على مستوى الحلول بعيدة الأمد لمشكلة الأيدي العاملة السودانية الزهيدة في سياق المجتمعات الفلاحية المستقرة بدأ الاتجاه إلى التفكير في زيادة عدد السكان. ففي ملاحظة المستعمِر لنسبة وفيات المواليد والأطفال خَلُصت بعض الدراسات الباكرة إلى أن الخفاض، وانخفاض الوعي الصحي لدى الأمهات، من الأسباب الرئيسية في موت الأطفال. وبناءً على هذا التحليل قُرِّر المضيّ قُدماً في بعض الخطوات التي من شأنها محاصرة أسباب المشكلة. من بين هذه الحلول محاربة الخفاض، وتأهيل الدايات وزيادة عددهن، وتلقين الأجيال الجديدة من الفتيات؛ أمهات المستقبل، قواعد الصحة العامة والنظافة الشخصية وفنون التدبير المنزلي. هذه هي باختصار طموحات الاستعمار حيال المرأة في السودان في بداية القرن العشرين.

كانت سياسة المستعمر، المبنيّة بشكل تامّ على مراعاة مصالحه، تريد وتعمل على توفير بعض فرص التعليم المحدود للفتيات السودانيات لتزويدهن بمهارات أساسية في رعاية الأسرة وإنجاب أطفال أصحاء. وكانت تفضّل، مع استثناءات وتردّد، سياسة الحد الأدنى من المعرفة أيضاً في تعليم الأولاد، خصوصاً بعد ثورة 1924. لكن مسألة توفير تعليم نظاميّ حديث للمرأة لم تكن واردة. أحياناً كانت العوائق تُقام لمنع إنشاء المزيد من المدارس للبنات تحت ضغط المدارس الإرسالية. فقد رفضت الحكومة في عام 1906 «عريضة مرفوعة من جانب آباء سودانيين ومصريين يطالبون فيها بتأسيس مدرسة حكومية للبنات، ليُعاد النظر في العريضة عندما أُعلن في صحيفة قاهرية أن «المدارس الإرسالية في الخرطوم تحاول نشر المسيحية بين الفتيات المسلمات».[18] للتغبيش على الاتهام تمت إضافة فصلين للفتيات في مدرسة الخرطوم الأولية للصبيان. «وجدت هذه الخطوة معارضة من مديرات التعليم الإرسالي في العاصمة، ووجد ونجت باشا نفسه مرغماً على التراجع، وأغلق الفصلين في مساومة مُنح خلالها بابكر بدري الإذن بفتح مدرسة مستقلة للفتيات السودانيات (بعيداً عن العاصمة) على حسابه الخاص في مدينة رفاعة بالنيل الأزرق».[19] بشكل عام، اقتصرت فرص تعليم الفتيات، حتى عام 1912، على المدارس الإرسالية الأولية، ومعظم طالباتها غير سودانيات، حيث «كان الهدف من المقرر مساعدة (الفتيات) ليصبحن زوجات وأمهات أفضل». بحلول عام 1928 كانت هناك سبع عشرة مدرسة كُتَّاب (أولية) يتولى فيها التدريس شيوخ الدين وتتعلّم فيها الفتيات السودانيات «الخياطة والقراءة والكتابة، ومادة الحساب متى سمحت ظروف نُظّار مدارس الصبيان.»[20] وفي العام ذاته افتُتحت مدرسة عليا في الخرطوم هي مدرسة الاتحاد «اليونتي» حيث «أُوليَت عناية كبرى للتدريب المنزلي، إذ أننا نرجو الكثير من جيل الزوجات والأمهات الجديد». في مطلع الستينيات من القرن الماضي؛ القرن الذي انقضى نصفه الأول كاملاً تحت المشروع الحضاري الاستعماري، أمكن إلقاء نظرة عامة على وضع تعليم البنات؛ نظرة تلخص منظور الإمبريالية البريطانية لنساء السودان: «في 1960 لاحظَتْ ليليان ساندرسون، التي عملت بالتدريس في سودان ما قبل وبعد الاستقلال «أن 30 بالمائة من السكان الذكور متعلمون (بينما) 4 بالمائة فقط من النساء يمكنهن القراءة والكتابة،»[21] محصول فقه الكروشيه والتدبير المنزلي.

في جملة كاشفة قالت جانيس بودي إنّ صورة المرأة الموجودة خارج المنزل وفي ساحة الحرب مع الرجال كانت صادمة للجنود البريطانيين في سودان نهاية القرن التاسع عشر. فقد توقّعوا رؤية نسخة داكنة قليلاً للحريم المصري والتركي لكنهم وجدوا النساء يقفن خلف الرجال في ساحة المعركة مزغردات. وكانت هذه الصورة صادمة لأنها قورنت بصورة النساء الأوروبيات حينها، «النساء الإنگليزيات النموذجيات، من جهة أخرى، جوهر الجمال الأنثوي: رقيقات الأجساد، حساسات، محاطات بالخدم، لكن فوق كلّ شيء آمنات وقابعات بالبيت.»[22] لقد كان فقه الكروشيه ضرورياً، ضمن إجراءات الحرمان من التعليم الحقيقي والإجراءات الاستعمارية الأخرى لإجلاء المرأة السودانية من الفضاء السياسي العام/أرض المعركة. وفضّلت الإدارة البريطانية دائماً التفكير في المرأة السودانية بوصفها تابعاً يجب استغلاله في بناء مجتمعات مستقرة منتجة للنقد. واتخذت في هذا الاتجاه سياسات تنتقص من مكانة المرأة ومن استقلاليتها مُبديةً استعداداً كبيراً للتحالف مع قوى اعتبرتها رجعية بهدف السيطرة على النساء.

هذه هي قصة تحويل السودانيات إلى أرحام صانعة لمزارعي قطن أصحّاء، لكنها صورة مملّة قليلاً ولذلك كان على المستعمر المفتون بصورته إسقاط ظلّ مجتمع البرجوازية السخيف الذي ضاقت به روايات العصر الفيكتوري على المرأة السودانية. فالكروشيه، الذي هو جزء من حزمة كاملة من مهارات تزجية الوقت وتسهيل اصطياد الأزواج، لم يكن يتفق مع القسوة التي حفلت بها حياة نساء السودان بوصفهن المستعمَر ذاته الذي تَعيّن عليه توفير قطن التنورة. الكروشيه، هذه الهواية اللطيفة، هي جزء من الذاكرة المكانية للبرجوازية الاستعمارية الأوروبية. حوّل الكروشيه المرأة السودانية، كما أريد له، إلى صورة متدهورة من نظيرتها الإنگليزية؛ صورة حافلة بالسخف والسخرية. فلطالما مثّلت رغبة المستعمِر في خلق نسخة متدهورة من المستعمَر حاجة ضاغطة لتمرير صورة الأوروبي المتفوق. وفي تجارب الاستعمار المختلفة أُرغم المستعمَر دائماً على محاكاة الأوروبي «وصار محطّ السخرية» جرّاء تلك المحاكاة.[23]

لقد قرأتُ المخطوط الباكر للكتاب الذي بين أيديكم على خلفية متشابكة من ظلامات كثر وانتصارات شحيحة في واقع افريقي متشرذم، ومن تهالك وحدات جيوسياسية وفلسفية مقابلة هما منظومتا الاتحاد الأوروبي، وثقافة حقوق الإنسان؛ الثقافة الحاضنة للوعي السياسي الغربي ما بعد الحرب العالمية، تحت ضغط مهاجري العالم الثالث. حلّت بريطانيا وثاقها مع الاتحاد الأوروبي، وتكاثفت دعوات الانقسام عنه في إيطاليا، وفرنسا، وألمانيا، والسويد. كما انطلقت أشرِعة العنصرية وصعد يمين قومي قحّ في بقاع إسكندنافية كانت العنصرية الصراح فيها طاعوناً أخلاقياً يفرّ منه الصحيح. ورغم أن هذه الدول هي من أكبر الدول إسهاماً في تمويل المنظمات الإنسانية إلا أنّ أنظمتها السياسية والاجتماعية لا تتحمل التعامل المباشر مع اللاجئ: «إنّ الفصل بين العون الإنساني والسياسة الذي نشهده اليوم هو المرحلة القصوى من فصل حقوق الإنسان عن حقوق المواطن، في التحليل النهائي، ومع ذلك فإن المنظمات الإنسانية – التي تدعمها اليوم اللجان الدولية أكثر فأكثر – لا يمكن لها إدراك الحياة البشرية إلا بوصفها حياة عارية أو مقدسة،»[24] أي يمكن قتلها لكن لا يمكن التضحية بها كقربان.[25] لقد حذّر الكثير من المفكرين أن الأسس التي تقوم عليها المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، وهي حصاد مخاضات الثورة الفرنسية، لم تعد ذات صلة بالتاريخ الحديث خصوصاً بعد الحرب العالمية الأولى التي حوّلت أعداداً مهولةً من البشر إلى لاجئين. وحذّرت حنّا آرنت وجورجيو أغامبين من تبعات ارتباط حقوق الإنسان بمفهوم المواطنة لأن اللاجئ يتحرّك خارج التعريفات. يقول أغامبين:

«يجب فصل مفهوم اللاجئ (وشكل الحياة الذي يمثله هذا المفهوم) بحَزْم عن مفهوم حقوق الإنسان، ويجب علينا النظر بجدية في مقولة حنّا آرنت إنّ مصير حقوق الإنسان والدولة القومية مشتبكين بحيث أنّ تراجُع وأزمة أحدهما يعني بالضرورة نهاية الآخر. يجب النظر إلى اللاجئ بوصفه ما هو عليه بالفعل: لا شيء أقل من مفهوم حَدِّيّ يشكّك على نحو جذريّ في التصنيفات الأساسية للدولة القومية، في علاقة التحوّل من القومية بالميلاد الى الإنسان المواطن، الشيء الذي يجعل من الممكن التمهيد لتجديدٍ طال انتظاره لتصنيفات تخدم سياسةً لا تسمح بفصل واستثناء الحياة العارية، سواءٌ أفي نظام الدولة أم حقوق الإنسان.»[26]

على مراكب متهاوية، جعل المهاجرون، الأحياءُ منهم والغرقى، وجُلّهم من افريقيا، الضمير السياسي الغربي في محنة. لقد نَفدت عقود التعافي من النازية واستأنفت أوروبا بناء سياستها على خطاب الخوف من الافريقي المُجوَّع، من الجموع المستضعَفة التي داست بأقدام مبتلة على ركائز الفلسفة السياسية الغربية التي ما بقيت قائمة وفي فلاح إلا لأنها ظلَت محمية من قوة المستضعَف الذي أراد هذه المرة أن يكون أمره كوزموبوليتانياً كوكبياً، بالقوة. هذا الواقع الذي يستدعي عنف الإمبريالية العالمية يضع الكتاب الحالي في قلب النقاش السياسي والفلسفي حول ما إذا كانت افريقيا هي، في حقيقة الأمر، الفرصة الأخيرة للإنسانية لتشييد نظام اجتماعي وسياسي ينقذ الجنوب الكوكبي، وينقذ الغرب الإمبريالي نفسه من نفسه.

 

الهوامش:

[1] Benita Parry. 2004. Postcolonial Studies: A Materialist Critique. New York: Routledge

[2] Ngugi, Liyong, Owuor- Anyumba: “On the Abolition of the English Department”, “The Norton Anthology of Theory and Criticism”, general edition (2001), Ed. Vincent Leitch, Norton and Company, p. 2095

[3] Ibid

[4] Sean O’fahey. 2005. “Arabic Literature in the Eastern Half of Africa” in Arabic Literature of Africa: Project and Publication. The Institute for the Study of Islamic Thought in Africa, p. 28

[5] Ibid

[6] Ibid

[7] Benita Parry.2009. “Aspects of Peripheral Modernisms.” ARIEL: A Review of International English Literature, 40(1): 27-55.

[8] Terese Svoboda (translator). 1985. “Cleaned the Crocodile’s Teeth: Nuer Song.” Greenfield Review Press. P (21).

[9] Ibid. p (15)

[10] فرانز فانون. 1961. معذبو الأرض. ترجمة سامي الدروبي وجمال الأتاسي. مدارات للأبحاث والنشر 2015 ص. 166.

[11] H.B Arber.1940. Sudan Notes and Records, volume xxiii, p. 148

[12] محمود المعتصم، 2016، «ما هي الحداثة؟»، مجلة الحداثة السودانية، العدد الرابع.

[13] Heather Sharkey. 2016. “Mover and Shaker: Grace Mary Crowfoot, Intimate Conversations, and Sudanese History”, Égypte/Monde arabe, 2016/1 (n° 14).

[14] Ibid.

[15] Mohamed Yousif El-Mustafa. 1983. Capital Accumilation, Tribalism, and Politics in a Sudanese Town (Hassaheisa): A Case Stduy in the Politcal Economy of Urbanization. University of Hull. PhD Dessertation.

[16] Janice Patricia Boddy. 2007. Civilizing Women: British Crusades in Colonial Sudan. Princeton, N.J.: Princeton UP. p.187.

[17] Sharkey, H. J. “Luxury, Status, and the Importance of Slavery in the Nineteenth- and Early-Twentieth Century Northern Sudan.” Northeast African Studies, New Series, Vol. 1, No. 2/3, Conference Proceedings of the 12th Annual Sudan Studies Association Conference: 15-17 April 1993. Michigan State University, East Lansing, Michigan (1994), pp. 187-206.

[18] Janice Patricia Boddy. 2007. Civilizing Women: British Crusades in Colonial Sudan. Princeton, N.J.: Princeton University Press. p.187.

[19] Ibid

[20] Ibid

[21] Ibid

[22] Ibid

[23] Boehmer Elleke. 2005. Colonial and Postcolonial Literature Migrant Metaphors. 2nd ed. Oxford University Press, p. 111.

[24] Giorgio Agamben. 1995. Homo Sacer: Sovereign Power and Bare Life. Stanford, CA: Stanford University Press. p. 79.

[25] الحياة العارية أو الحياة المقدسة هي تحليل أغامبين لشخصية عرفها قانون المملكة الرومانية بوصفها الرجل/الإنسان الذي ارتكب جرماً معيناً يعاقب إزاءه بالطرد من المجتمع ويجرّد من حقوقه كمواطن ويمكن لأي شخص قتله لكن لا يمكن التضحية به في طقوس القربان.

[26] Giorgio Agamen. 1995, Ipid.

أكتوبر 2018

هارنوساند، السويد

 

(هذا المقال كتب كتمهيد لكتاب “سُعاة أفريقيا: مدخل إلى تاريخ وآفاق الحركة الأفروعمومية”، للكاتب قصي همرور. الكتاب قيد النشر عن دار رفيقي.)*

نجلاء عثمان التوم

نجلاء عثمان التوم ، كاتبة وشاعرة ومترجمة سودانية مقيمة في السويد.
زر الذهاب إلى الأعلى