ثمار

رسالة الثورة إلى مهدي عامل

 

مهدي عامل
مهدي عامل

التاريخ ليس ببعيد، تاريخ اغتيالك الغادر: الموافق 18 مايو 1987. فمنذ استشهادك الفاتن، والزمن يعود ولا يجري إلا في صيرورة كل ثورة فلا يبلغ منتهاه أو يموت تلاشياً، وإنما يسري مُتجدِّداً في نهر عوده الأبدي إلى روح المقاومة. أنت هنا وهناك  في آنٍ واحد، تُحييِّ بروحك الثورية الوَّثابة لهبة المقاومة، وكأن المقاومة هي الجمرة التي أضرمتها الحياة من جذوة نارك المشتعلة الخضراء في كُوَّة عقلك. لقد أحيَّتك مقولتك المُلهمة ’’لست مهزوماً ما دمت تقاوم‘‘، وبعثتك مُجدداً على جدارٍ مُهملٍ ومهجورٍ لم تعود له الحياة إلا في لحظة من لحظات الحراك الاحتجاجي لثورة ديسمبر/كانون الأول، عندما لم يتوانى ثوار وثائرات ضاحية جبرة جنوب الخرطوم العاصمة مربع (18) في استلهام مقولتك الجذرية الكاشفة بصبغها على جدارٍ حنون ومنفتح القلب على ميدانٍ فسيح. فعلى هذا الجدار ألهمتنا مقولتك الباذخة ’’لست مهزوماً ما دمت تقاوم‘‘ نشيد الثورة والأمل والحياة.

على هذا الجدار استعدنا ذكرى ’’حسن حمدان‘‘ و’’مهدي عامل‘‘ معاً، فلا فرق بين الإسمين طالما اللهبة الحيِّة تآكل من طرفيهما وتضيء دروب السالكين إلى مواطن الحرية الرحبة والعيش الطليق. لقد عبَّرت مقولتك عن اللحظة الثورية بشكل مضاعف، وذلك من خلال تجريدها فكرياً وتجسيدها عملياَ معاً لروح المقاومة. فها هنا، وفي ضرب من ضروب المزاوجة الغريبة والفريدة من نوعها بين الحدث النظري بوصفه فعلاً ثورياً معيَّوشاً، أنبعثتَ مجدداً يا مهدي لتحيَّا في الخضم الثوري كما لو أنك تولد لأول مرة، مُفكِّراً ومقاوِّماً بداخل كل روحٍ ثائرة في الميادين والساحات والجمهرات والمواكب. لقد عشنا مهدي عامل الثائر والمفكر معاً. فلكل مُفكِّر جذري وأصيل شجرة وارفة الاخضرار وعامرة بالثمار التي سرعان ما تغادر فروع شجرتها الأم لتبذر روحها وتتفتح من جديد في مناخاتٍ أخرى مغايرة ومختلفة. نحن هنا والآن في لبنان والسودان، نصطلي بشمس البراكسيس التي تشرق من اللاجهات على كل الأمكنة والأزمنة. بهذه الكيفية العامرة بالنزوح الفكري الخلاَّق، عشناك يا مهدي عامل وعشتنا بدورك، هادرين صوب ماركسية بلا ضفاف أو منتهى أو خواتيم. ماركسية من نوعٍ آخر تتحول جذرياً وتأنف شكلها المُتمَّركس المؤدلِّج للواقع الحي، كأن يتحرَّر الفكر من صليب الجمود الماركسي المعقوف فينزلق مسكوباً طليقاً في جسد التَحوَّل والممارسة، دون أن يصطك ويتجمَّد في براديغما أو يوتوبيا للحالمين الأحرار.

عشناك يا مهدي في رمزيتك الكامنة في مقولتك الجذرية الجوالة ’’لست مهزوماً ما دمت تقاوم‘‘. رمزيتك التي تنبعُ من التلاقح الخاطف بين الحركة الاحتجاجية اللاحقة في لبنان ونظيرتها التي سبقتها وخرجت من صلبها ثورة ديسمبر/كانون الأول في السودان. وبالطبع قد تتماثل الثورات في أهدافها ومطالبها، من حيث نشدانها الحرية والانصاف والمساوة، ولكنها تغاير بعضها البعض وتنال خصوصيتها في طرائق الاحتجاج واستراتيجيات إنتاج الفعل الثوري. فهنا وهناك، أطبقت عصابة المصارف والمضاربة بالمعايش والأرزاق على رقاب الناس. فبقدر ما تحوَّل لبنان في العقدين الأخرين إلى بازار رأسمالي كبير، قابض وخانق، تحوَّل السودان إلى ثكنة عسكرية لمافيات الإسلاموية التي غوَّت بالدين الرأسمال الكاسر والمتوحش الذي جوَّع الناس وشرَّدهم بالسمسرة في القمح والخبز ونهب الأراضي والساحات العامة.

لقد لاقح شعار الثورة في لبنان ’’كلهن يعني كلهن‘‘ شعار الثورة هنا في السودان ’’تسقط بس‘‘ . فلبنان التي صار فيها الجائع يخطف سندوتش الشاورما من الكافتيريا ويفر هارباً، وآخر يدخل المصرف حاملاً فأسه مطالباً برصيده المالي المودع في البنك، وثالث انتحر بعد أن عجز عن شراء منقوشة لطفلته الصغيرة بقيمة 1000 ليرة، أخذ يتحوَّل منذ إكتوبر إلى قوس قزح جماهيري هادر خرج من كل الأمكنة والطوائف والأجيال ضد موت الحياة والأمل والمستقبل، بعد أن اختطفته البرجوازية الطائفية رِدحاً من الزمن.

مهدي عامل

لقد أعادت الماركسية اكتشاف نفسها، نازحة خضراء من أفواه الفقراء والكادحين والمسحوقين إلى آياديهم العاريِّة وأقدامهم الحافيِّة، وهي تتموًّج في الفعل والممارسة الدؤوبين والدائمين طوال مراحل احتجاجات ثورة ديسمبر/كانون. ’’لسنا حوارييِّك أو اتباعك يا مهدي، ولن نتأدلَّج بعد اليوم خاضعين خانعين لعاطفة اليسار التقليدي، ومسربلين بمقولات ماركسية أو لينينة أو تروتكسية منزوعة السياق ومقطوعة قطعاً جائراً من شجرة الواقع الوارفة الخضراء التي تخلَّقت بين فروعها وأوراقها مضامين هذه المقولات أولاً ‘‘: هكذا كانت الشابات والشباب يمتشقون حضورهم النقدي الُمجسَّد في براكسيس الحنان الثوري فيتخلقون في الشوارع  والساحات والأزقة، هادرين ضد كل أبوية ووصائية كامنة في حرزها الاجتماعي الأمين، في بطون البيوت وعقول صغار الآلهة البطاركة، مجبرين تجمع المهنيين والحزب الشيوعي الذي دجَّنه الجمود الفكري وجفّفَّت ينايبعه انتهازية برجوازيته المتُمَّركسة زيفاً والمتدَّثرة بالنيوليبرالية المُعوَّلمة التي حوَّلت عملائها إلى مُبشِّرين ودلاَّلين وبائعين لأرواح فقراء المجتمعات المحلية وضحايا النزاعات والحروب: مُبشِّرين لا يكفون عن التجوَّال في ردهات المنظمات غير الحكومية مُنعمين آمنين سالمين، يحركهم وحش الأرزاق فيتكسبون منها ويمخرون عباب تمكينهم البرجوازي المضاد للتمكين الإسلاموي الذي ابتلع في جوفه المجتمع والدولة معاً لثلاثة عقود حسوماً. فبينما كان الحزب الشيوعي يكابد كهولته النظرية وتعاليِّه البرجوازي على الجماهير، باحثاً عن أخر بروليتاري منقرض تحت أنقاض القطارات والمحطات والمصانع والحقول الجرداء العجفاء، انبثقت البلترة الشاملة التي ابتلعت في جوفها الجائع الشرِه كل فقراء الريف والحضر وكادحي الطبقة الوسطى والفئات الشبابية المعوَّلمة العاطلة عن العمل وفئات العمالة غير المُهيَّكلة من ضحايا النزاعات والحروب وغيرهم. ففي كل مكان، وفي كل مرحلة من مراحل التحول، كانت تتجلَّى البلترة الشاملة بطرق متنوعة وأشكال مختلفة، وبوصفها نسق طبقي أوسع وأكثر تعقيداً من النسق الطبقي الكلاسيكي للبروليتارية.

ويا مهدي، لقد نسف طلاب وطالبات الثانويات العامة والفنية، من بادروا باشعال جمرة الاحتجاجات في مايرنو والدمازين وبورتسودان وعطبرة ومناطق أخرى، خرافة ’’المناضل السياسي‘‘ سادن الأحزاب وحارس حِمى نخبتها المتعاليَّة على الواقع. فجُّلَّهم طالبات وطلاب اكتشفوا سياسة اليومي والممارسة الثورية الحرة المعيوشة جسداً وروحاً خارج حواضن الحركة الطلابية التي ظلت تُهيمِّن على الفضاء الحركي والثوري في الثانويات والجامعات منذ ثورتي إكتوبر 1964 وأبريل 1985. لقد بلوروا تجربتهم كقوى ثورية قادرة على ابتدار الفعل الاحتجاجي والثوري دون طليعة حزبية ودون قيادة نخبوية متعالية على غمار الناس.

ويا مهدي ستحيا فينا دوماً، عامراً بالتساؤلات الجريحة وبالغد المُشرع على كل الاحتمالات الثورية. لقد قاوَّمنا حتى بلغنا مصاف استلهام رمزية الكنداكات التاريخية والحضارية، مُحررَّين من أوهام التنميطات الجندرية ومن هواجس المجايِّلة التصنيفية. لقد حرَّرت الثورة نفسها باستلهامها ’’الكنداكة‘‘ بوصفها أفق تاريخي وجمالي مفتوح ومتحوِّل، فكلنا صرنا ’’كنداكة‘‘ بلغة الجمع التي جسَّدت الثائرات والثوار ككائن موَّحد ومقاوِّم لكل أشكال التمييز والنبذ والاقصاء. لقد أحيَّت الثورة السودانية مجدداً الإرث الجمالي والروحي للكنداكات، لتتسع دلالة الرمز وتنفتح على غمار الناس وتنخرط في تحولاتهم، ولتغدو الكنداكة تلك الملكة المحاربة، في زمنها النوبي القديم، التي تحولت الآن إلى فاعل شعبي ـ ثوري، لتسمو بما هو أبعد وأرفع من اختزال الكائن البشري في ثنائية مغلقة قوامها رجل ــ و ــ إمرأة. فالكنداكة، بمحمولها الرمزي الجديد، هي ذلك الإنسان الرحب والمشرع الآفاق، أي الإنسان العابر لحدود النوع الاجتماعي الضيقة وتابوهات التنميط الثقافي والمجايلة والتمييز العنصري.

الدبيبات ــ جنوب كردفان

ليل 20 يناير 2020   

معز الزين

كاتب ومترجم من السودان

تعليق واحد

  1. “لست مهزوماً ما دمت تقاوم”، يا لها عبارةٌ تقاوِمُ وقد مضى قائلها في الماضيين منذ عقود، لا لم يمضِ ما دامتْ عبارتُه العصيَّةُ على الموتِ تقاوِم إلى يومِنا ذا.

زر الذهاب إلى الأعلى