الفزاعة
نحو مدىً بعيدٍ خطى أبي يومها، كان الوقتُ ما بين عتمةٍ وضوءٍ يحاولُ أن يجاهرَ بالمكان ، لكن ابتلعتِ الظلمةُ أبي، كنا نقف أنا وأمي على النافذة، ونُلَوِح حتى بانَ الضوءُ كخيوطِ دُخانٍ تتبخرُ من تحتِ خُطاه. بصمتٍ ذَرَفتْ أمي الكثيرَ من الدمع، أما أنا فكنتُ لا أفقهُ ما يعني السفر حينها بالضبط ، سوى أنه سوف يأتي في نهارٍ ما، كما تقول أمي؛ كلما ألححتُ بسؤالي عنه. والنافذةُ ملجأي الوحيد، ظللتُ أُحدِق في البعيدِ ربما يأتي وفي كتفه يحملُ هدايا أو شيئاً ما يُفرِحني، لكن طال انتظاري.
حلَّ الشتاء في البلدة، وبدأ الفصلُ الدراسي. دوماً أتسكع، أسترِقُ النظرَ لمحطاتِ الباصات، وبين العائدين أبحثُ عنهُ بوجههِ الصارم. وعند كل خيبةٍ أركض ُمسرعاً للبيت وأُعِيد تكرار سؤالي. أحياناً أمي تقول لي:
“ذاكر وادرس، ليجدك فالح وناجح عندما يأتي.”
كنت أَمَلُ من تلك الردودِ الباردة، وقد ألحظ أحياناً سهواً في عينيها.
يوماً ما أتيتُ أركضُ هلعاً، وفي معيتي حديثٌ متداول؛ أن هناك لصاً ليلياً، طالت أخباره البلدة، وهو محترفٌ السطو على المنازل وسرقة أهلها، وقد يؤذي من يقف في وجهه. لصٌ مجهول، كثُر الحديثُ عنه في مجالس الرجال وثرثرات النساء، وفي حكاوي الصبيةِ في المدرسة. لم تهتم أمي لحديثي.
خيمَ الليلُ ليغطي بسكونه علينا، لم يرِف لي جفنٌ ليلتها، وأمي بما تعانيه من إرهاقٍ يومي نامت مبكراً، وتركتني أحكي ما طرقَ من قصصٍ عن اللص، إلى أن سكنَ توجُسي واحتلَ حواسي، وبدأتُ أراقب كل شيء: صفيرَ الريح، اهتزازَ النوافذ ،وكانت تتهيأ لي الأشياء وكأن شخصاً ما يستعدُ للسطو علينا، بدءا من نقاع الزير، إلى صريرِ الصراصير، ونقنقاتِ الضببة على الجدار. ينزُ العرق من جسدي، وبدأت أُحدق بتمعن في الإتجاهات، وألتفت لكل شيء، أرتجفُ وأفكر فيما يمكن فعلهُ إن أتى، وما قد يحدث من هذا الكائن المخيف.
طرقتْ رأسي فكرة، وببطءٍ قلتُ يجب أن اُنفذها. فتحتُ غرفةَ أبي، أنَرتُ المصباح، سحبتُ الردايو الخشبي من الدولاب، ووضعتهُ بجانب سريره وأدرتُ الموجة إلى أن ضبطتها على إذاعة إخبارية ما؛ كما يفعلُ هو دوماً، ثم جمعت وساداتٍ ورصصتها ورميتُ عليها غطاء أبي الشتوي، وحملت عكازه المدببة، أرتجف، وبحذرٍ أتحركُ قبل أن يراني اللص، الذي لم أره. هو ذو شكلٍ ضخم وأعينٍ فاغرةٍ مضئية، رجلٌ بلا قلبٍ كما قال جد صديقي حسان، أسنانهُ بارزة، تخرجُ من أنفهِ نار، صوتهُ كزئيرِ أسدٍ جائع، يداهُ كمعولِ مزارعٍ قديم، خطواته تحطمُ السياجَ والجدرَ المتينة. ياللهولِ إن أتى. بدوتُ عاجزاً ، وجلستُ أتوسلُ الفزاعةَ أن تؤدي دورَ أبي بالتمام، وأنفاسي ترتفعُ وتهبط. ركضتُ إلى سريري، سحبتهُ بجانبِ سرير أمي، وأحكمتُ الغطاءَ على جسدي ووجهي، أغمضتُ عيني حتى يداهمني سباتٌ عميق، لكن حاصرتني الحكاوي والثرثرات عن اللص، وكأنها طنينٌ مزعج، مُربكٌ اختلط بموسيقى منبعثة من الراديو، وزاد ذلك حدةً إنبعاثُ الريح بين شقوقِ الباب.
كانت أطولَ ليلةٍ وأبطأَ وقتٍ يمر علي، وكأن عقاربَ الساعةِ تزحفُ على جسدي. الهلعُ يعتصرني، أصابني ألمٌ في بطني. كتمتُ ما أحسه، وبدأتْ الفزاعة وكأنها تستجيب لتوسلاتي، اهتزتْ من مرقدها، ثم بدأتْ بالجلوسِ بقامةٍ تشبه أبي، أمسكتْ بالعكاز، دارتْ بشيء يملؤه الحماسة وتممت على الأركان، النوافذ، حتى الباب الخلفي، ثم بعد هذا التحري الباعث للطمأنينة، اقتربت مني واتكأت بحنوٍ بجانبي، لمستُ فيها شيئاً من الدفء، هدأتْ أنفاسي، توسدتُ برأسي مقامَ صدرها، وتحدثتُ بأشياءٍ كثيرة، متداخلة، وهي بصمتٍ يشق ذاكرتي وفيه تقودني مخيلتي للبعيد من الأيام الجميلة التي جمعت أباـ بوحيدهِ المُدلل، ضحكاتي تعلو بصدىً يقارعُ النجوم، ظللت منتشياً غيرَ آبهٍ بلسعاتِ البرد، إلى أن ركلتني أمي بقوة، كنت أتمتم لها: دعيه يجالسني، أرجوك يا أبي لا تغيب ثانية من البيت، نحن نحبك ودونك البيت أصم لا يصغي لنا. هزتني أمي بعنفٍ أكثر قائلةً: “قم للمدرسة لقد تأخرت، ثم ماهذا الذي فعلته، لقد أثرت هلعي عندما صحوتُ ووجدتُ سرير أبيك به شخصٌ والراديو ينهق بصوتٍ مزعج ، يا الله عليك.”
حكيتُ لها ما حدث، ضحكتْ أمي ورمقتني بابتسامةٍ قائلة: ” أنت رجل البيت، أتهابُ اللصوص؟ لالا لم أتوقع” ثم مردفةً : ” أرجوك يابني لا ترخي أذنك للترهات، اللص مجرد إختراع وشائعة اعتادها أهل البلدةِ من قديم الزمن ” قلت لها :” ما أدراك يا أُماه؟ حسان صديقي أخبرني أن جدهُ حكى له عن حوادثٍ وسرقاتٍ ومداهماتٍ لهذا اللص عند كل موسمٍ شتوي، حيث ينام الناس وهم ولا يشعرون وهذا موسمه “
قالت :” إذاً هيا الحق المدرسة ثم نرى فيما بعد ونتحقق من ذلك، إن لم تكن تصدق ما أقوله لك سوف يأكلكَ الخوف. أريدك مثل أبيك. وأردفت قائلة: اللص ماهو إلا شخصٌ يخاف من ظله “
هرولت لأحكي لأصدقائي كيف يمكن التخلص من اللصِ ببساطة، بإضاءةِ الطرقاتِ حتى يبزغُ ظله بصورة مخيفة تنزعُ سطوته على هلعنا، إنه يخاف ظله” هنا تكمن المواجهة السحرية والتخلص من توجسِ أهل البلدة ليلاّ، وعودة الطمأنينة لنا لكن أبي!! ياليت ظله يفزعه ليهرول باتجاه البيت.
أتيتُ قادماً ببشرى لأمي؛ اللص تم ضبطهُ وعقابه وأن ذلك حقيقي، وإذا بي أفتحُ الباب فأجدُ أمي بكاملِ زينتها وعطرٌ يفوحُ منها، جدائلهاَ مرتبة؛ لم تكن كما كانت مهملةً لشكلهاَ حيثُ البؤس والصمت كانا يحتلانِ ملامحها، أذكر همس خالتي عند زيارة ما لنا ناصحةً لها: أصبحتِ كلوحةٍ خشبيةٍ بهتتْ ألوانها التي فيها.
أقفُ جامداً خلفها، أعيدُ التفكير في أشياء لم أنتبه لوجودها، لملامحِ أمي التي تبدو وكأن شيئاِ ما يداهمها. وجدتهاَ تجثو أمام الفزاعة بعد أن ألبستها جلبابَ أبي وتضعُ أمامه كوبَ شاي، منثوراً حوله حبات فول محمص كما يشتهي أبي؛ وتتمتم بحديثٍ لم أفهم مغزاه .