رغائب الألم
يحدثُ أحيانًا أن ترتابَ في زخاتِ المطر، والطرقِ المتلاحقِ على الأبواب، وصفيرِ الريحِ في جوفِ الليل، ولكن أن ترتابَ أن الصفحةَ تخبئُ لونها خلف الأبيض، والحاشية ينكرها المتن؟!
في الوسواس؛ جاء الرجل ليلًا والناسُ نيامٌ وبدَّل كلماته، نعم الرجلُ الذي كنت أقرأ له جاء وسرقَ الحاشية، فقدتُ فيه الثقة ، لدرجة أنني فكرتُ في حراسةِ النص، لا أرغبُ في تجديد مأساتي والآن أتحفزُ للكتابة، جاءتِ الحواشي، هو التلبّس مرة أخرى، إنها الحواشي ،لكنها استبقت المتن.
بدا لي الأمر كجماعة عددهم أربع، يقفون تحت بناية تقابلُ البناية التي أسكنها، وجدتني قادمًا من ناحية الشمال، اقتربت منهم، كانوا يتحدثون كمن ينتظرُ خطابًا من الحاكم ،والتوقعاتُ تقفزُ من ألسنتهم، جزمًا بأنه سيحسم الجدل الدائر في الرؤوس، لم أخطط لقولي، فجأة خرج صوتي كأنه يسحبُ معه حنجرتي مرددًا: ” إنه هراء، إبتذال”، ادّعيتُ بأنني مطلعٌ على ألواحِ الحكمِ بل رأيتُ بأمِ رأسي أن الحاكمَ يدسُّ يده خلف ظهره ويتظاهر بأنها بيضاء خالية. لم أنتظر ما نطقت به وجوههم، يمّمتُ وجهي ناحيةَ الأشجارِ في ناصيةِ الشارع التالي لأُخرِجَ ما تلبّسني وأتوجه بعدها إلى شقتي لأكتب، لم أفلح ،فلحاءُ الشجر لم يكُ داكنًا، كان كالخشبِ المقشورِ وبه نقطةٌ سوداءُ مستديرة، كدتُ أبكي لكن خشيتُ أن يتعاطفَ معي المارة ،لأن البقعةَ السوداء والشجرةَ تذكرانني بما جاء لصديقي في المنام، قال أنه تدحرج من حلمٍ إلى حلمٍ آخر، رأى فيه عشبًا أخضرَ وفتاةً ممدةً وتلالًا نائية، يسيرُ الناسُ عليها ولونهم أخضرُ كالزرعِ تتخللهُ ألوانٌ متناثرة، بدوا له حقولًا يحركها النسيم، كانوا يولون وجوههم نحوالأفق ،ويسيرون ناحية قمرٍ أخضرٍ تعلوه ابتسامة .أفقتُ من ذكرى صديقي، أسرعتُ الخطى ناحية الشقة، لم أصدق أنني بلغت الغرفة ،لكن الذي أفزعني حقًا أني كنت مبتلًا بالعرق؛ كيف حدث أن أتصببَ عرقًا وأنا لم أكتب بعد؟!؛ أحضرتُ الورقةَ ووضعتها على المنضدة، أحكمتُ وضعَ ذراعي الأيسر على زاويتها اليسرى، وتركتُ لأصابعِ يدي اليسرى أيضاً حرية العبث بخاتمي الفضي، كتبتُ :”رغائب الألم”، دونتُ بالحبرِ الأسودِ ماجرى أو ما سوف يجري.
“الجنودُ الشرفاءُ يفضلون الإنتحارَ في ذاتِ الثانية التي تُسرَق فيها أحلامهم، لأن تأخرهم عن أداءِ واجبِ الموت، يحرمهم نيلَ الشهادة، ويضعهم في مرمى رغبةِ الألم، لأنهم سيشاهدون كيف يقتسمُ القادةُ الغنائمَ وقد يبرّرون لهم أفعالهم بعد أن دفنوا الأصدقاء”.
كان الوخزُ كدقاتِ القلبِ منتظمًا وكافيًا، ضاغطًا لتركنَ نفسهُ إلى أن الذي يجري معه، سلسلةٌ تتناسلُ من أحاجٍ قديمة تختزنها جدته الأولى في جوفِ ابنتها، جدته التالية، وتناقلت عبر ألسنةِ الأجنّة لتستقر تحت إبطه الأيسر؛ لم يستطع نسيانَ قصةِ الحيوانِ الذي يسير تحت الأرض ويخرج بغتةً ليفترسَ من ظهرها الأطفال، وأن إسماعيل الراعي، كان يرسل له أبنائه الذين يعصونَ أمره ليفترسهم، والبئرُ النائيةُ ماؤها ليس ماءًا، بل هو من درنِ الحيوان، يتساقطُ، إن شرِبتْ منه الماشية ويموتُ الأطفال أو يصابون بالعمى؛ تحت إبطِ المغني يرقدُ وخزٌ يدفعه ليغادرَ صوته، يحتفظُ في سريرته بقصةِ الصوتِ الذي سينزلقُ إلى باطنِ الأرض ،وسيلتقطهُ الحيوان الذي يتقاطرُ الدرنُ من جسده كالماء، ليس له بدنٌ، أليس البدنُ هو الروح؟!
النبلاءُ لا يموتون لأنهم يبنونَ المعابدَ للرعية. قال العرّابُ مرة: “أنه يأتي على الناسِ حينٌ من الدهر تضطربُ فيه الأحرف ،حتى تحترقُ الكتبُ جميعها، وينتهي تاريخُ القراءة، بعدها سيرتفع حرفانِ إلى السماء يختبئان عن أعينِ إبليس خلف شجرةِ الخلود، لن يراهم هو وقبيله؛ وتقول الأقصوصةُ التي روتها لي أمي عن جدتها أن أحدَ أبناءِ إسماعيل الراعي بادرَ أباهُ وباغتهُ وطلب منه أن يسمحَ له بالخروج للحيوان، هرول وقفز إلى البئرِ التي يتساقط فيها الدرن كحباتِ الماء .قالت أمي؛ عن جدتها : سيعودُ ابن إسماعيل الراعي بغصنين لن يعرفَ الناس ألوانهما. قال العرّاب تلك هي الحروفُ التي هجرتِ الأرض، سوف تعود لتلتقي بالأصواتِ التي هجرتها الأبدان، سيكونُ اللقاءُ في وادي الأتقياءِ الذين لن يراهم من ليس منهم.