الاشتراكية في السياقات الصُغرى
من اللافت حقاً أن تبتدر رابطة الأطباء الاشتراكيين (راش) حملتها الصحية التوعوية والوقائية من جائحة كورونا باللغات السودانية المحلية، مُنتجة بهذا الابتدار اللمَّاح شكل من أشكال التفكير السياقي ــ التواصلي حول العديد من القضايا والإشكالات، وممُهدة بهذا المنحى إلى المزيد من التفكير المغاير في الاشتراكية في سياقات ’’المرض‘‘ و’’اللغة المحلية‘‘، وهي سياقات لم تكن مكتشفة من قبل أو غير مطروقة على أقل تقدير. لقد ظلت سياقات الواقع الحي لعقود طويلة مسجونة في أضابير عقل حضري ـ نخبوي يساري مُتمرَّكس حول محفوظات الماركسية التي حولَّته إلى تابع سلفي يُدين بالوفاء الأعمى لراتب مهديها اللينيني المنتظر الذي أخذ يستمد خلاصاته المجتزأة من تجارب ثورية وتحررية مختلفة من حيث سياقاتها البنيوية والتاريخية والسياسية. ولولا محاولات السكرتير العام السابق للحزب الشيوعي السوادني، عبد الخالق محجوب، البائنة في كراساته التهجينية الخلَّاقة والمُستمِّدة تفاكيرها من علاقته الديالكتيكية الحيوية والمثمرة بالواقع المحلي، إلى جانب تأويلاته ومقارباته لمفاهيم وأدوات المنهج الماركسي أيضاً، لكانت وثيقة المؤتمر الرابع الفكرية ’’الماركسية وقضايا الثورة السودانية‘‘ حبر على بياض الجمود الذي لا يأتيه الباطل لا من أمامه ولا من خلفه. وذلك لأن عبد الخالق محجوب هو نتاج عقله الديالكتيكي الخاص، ذلك العقل الذي ظلَّ يتشكَّل ويتغَّذى من جذور شجرة الواقع الخضراء، قبل أن تتفتح على أفرعها اليانعة ثمار التثوير السياقي ــ المحلي للنظرية الماركسية التي لم تنضج أبداً في عقول متمركسين سوادنيين سلفيين كما نضجت بشكل خلاق ومبدع في عقل عبد الخالق محجوب. لقد ظل عقله الجدلي يتطور ويتعمق في المدى البعيد غير المنظور، حافراً مسار نهره الماركسي الخاص والمبحر بعيداً عن ضفاف النظر الماركسي ــ اللينيني الحسير والمتكلس.
إن هذا الابتدار اليساري المغاير، مُمثَّلاً في حملة راش التوعوية الصحية، قد يُشكِّل نزوع ابيستمولوجي يذهب في اتجاهات التفكير المغاير والمُنتج لمعرفة تواصلية جديدة حول ’’المرض‘‘ من خلال لغات محلية أخرى غير اللغة الطبية المعيارية، وهي لغة العقل الحضري ــ النخبوي بامتياز يسارياً كان أم غير ذلك، مما يسهم ذلك بدوره في إنتاج خطاب جديد حول المرض بوصفه ظاهرة اجتماعية في حالة بناء وتشكُّل مستمر، حيث العدوى بالفيروس لا تتنشر إلا من خلال سياق ثقافي حاضن ومُحِّفز لهذا التفشي، إذ تتداخل وتتقاطع في هذا السياق تأثيرات علاقات القوة والهيمنة الإثنية والقبلية والطبقية مع الحرمان من الوصول إلى الموارد وارتفاع معدلات الفقر والنزوح والعنف الجنوسي في كل مجتمع ريفي ــ طرفي متأثر بالنزاعات والحروب. ومن شأن هذا المنحى التفكيري المغاير في المرض، والمنتج لمعرفة تواصلية جديدة حوله أيضاً، أن يعيد تعريفه بوصفه ظاهرة سياقية ـــ تواصلية وليس مرضاً فحسب بالمعنى الطبي الوظيفي الضيق والمحدود، لنجد أنفسنا مدفوعين إلى التفكير في الإشتراكية خارج أطرها المؤدلجة ودوائرها المغلقة بوصفها نظام اجتماعي ـ اقتصادي يروم تحقيق الإنصاف والعدالة والمساوة.
لقد ظلَّ الخطاب السائد حول الإشتراكية في الفضاء اليساري السوداني، المتمحور حول الماركسية ــ اللينينية والممهور بالكثير من الجمود النظري اللاتواصلي حيال واقع محلي مخُضر بتنوعه الإثني والقبلي ومتجدد بتحولاته البنيوية، مسجوناَ لعقود طويلة في سياقات تجريدية ومتعالية ومفارقة للتجربة التاريخية الحيَّة وللتحولات البنيوية للمجتمعات المحلية السودانية. إذ أن انحصار التفكير في الاشتراكية في السياقات الكبرى ذات الطابع الأممي (يا عمَّال العالم وشعوبه المضطهدة اتحدوا) والتأميمي (الملكية العامة لوسائل الإنتاج) والدولتي (ديكتاتورية البروليتاريا)، أي الدولة بوصفها جهاز مركزي ــ تخطيطي لتنزيل مبادئ الإشتراكية وقيمها المتمحورة حول العدالة الاجتماعية، لم يحجب الآفاق المحلية المتنوعة والمتعددة السياقات أمام العقل الحضري ـ النخبوي اليساري فحسب، ولكنه أسهم أيضاً في تجزئة النضالات وجعلها معزولة عن بعضها البعض ومن ثم محضها طابعاً أكثر فئوية وبلا خطاب سياسي ودون أدوات تحليلية فعَّالة. إذ سرعان ما تجزأت النضالات المتمحورة حول قضايا الفقر والعطالة والعنف الجنوسي والنزوح وأصبحت عرضة للتفكير السياسي المؤدلج والمجرَّد من سياقاتها الحضرية والريفية. وذلك لأننا ظللنا عاجزين لعقود طويلة عن التفكير التشريحي في عمليات إعادة الإنتاج المتبادلة للإفقار الاقتصادي المُركَّب والمقرون بالعنف البنيوي الكامن في سياقات المجتمع المحلي الصغرى، من جهة، وفي سياق الدولة الكبير بوصفها جهاز معطوب نتيجة لفشل عمليات تحديثه المؤسسي والهيكلي، من جهة أخرى، لنحصد في نهاية المطاف عقل حضري ــ نخبوي يساري غير قادر على التفكير مع الناس بشكل تواصلي وعاجز عن الانخراط في سياقاتهم الإثنية واللغوية والثقافية الصغرى، ودون أن يدرك الكيفية التي تعيد بها النزاعات والحروب الأهلية إنتاج الصراع الطبقي متمفصَّلاً مع الصراعات حول الهيمنة الإثنية والقبلية والجنوسية على مورد محلي تستمد منه الجماعة المحلية كل أسباب سلطتها السياسية الرمزية المضادة للسلطة المركزية نتيجة لحرمانها التاريخي من الأدوار الوظيفية لجهاز دولة ما بعد استعماري ظلت موارده المادية والرمزية مقصورة على نخبة حضرية ــ نيلية صغيرة.
وبوسع التفكير في سياق ’’المرض‘‘ عبر ’’اللغات المحلية‘‘ أن يُقرِّب العقل الحضري ــ النخبوي اليساري من واقع المجتمع المحلي ومن نظامه التفكيري ــ السياقي، حيث تخلق جائحة كورونا بتفشيها الأفقي ضرباً من ضروب المساوة المجازية بين ’’الغني‘‘ و’’الفقير‘‘، وبين ’’الرجل‘‘ و’’المرأة‘‘، وبين ’’المدينة‘‘ و’’القرية‘‘، وبين ’’الجعلي‘‘ و’’الزغاوي‘‘، وبين ’’النازح‘‘ الهائم المُشرَّد و’’المقيم‘‘ الهانئ السعيد. إنها إشتراكية المرض العادلة التي تدفعنا دفعاً إلى أن نتعلَّم التفكير في واقع الناس ومعهم، من داخل سياقاتهم وعبرها، متخللين نسق التفكير الريفي ــ الطرفي ومنشبكين مع مستوياته العميقة والمتنوعة، وذلك قبل أن ننخرط معهم في عملية من التجذير القاعدي ــ الموَّسع لأي نظام اشتراكي مُتعدِّد السياقات. ولا يستوي هذا الوجه من مجاز المساوة المذكور آنفاً إلا بمعكوسه الذي يكشف عن أن جائحة ثورية بحجم كورونا سُتعمِّق معاناة الفقراء والمعدمين والكادحين وضحايا النزاعات والحروب أكثر من الفئات الاجتماعية الأخرى ذات المنعة المادية والاقتصادية المُمسكة بزمام السلطة السياسية الرمزية المُستمدة من احتكار جهاز الدولة وتكريسه لصالحها الحضري، مستغلةً الفوارق الاقتصادية والتفاوتات الطبقية والهشاشات الاجتماعية الأخرى، لتتعَّمق من ثم هذه الفوارق والتفاوتات والهشاشات أكثر بفعل هذا التفشي الحاد.
أحياناً يحاول دعاة الاشتراكية المؤدلجة والمجتزاءة من سياقتها الحيَّة اقناعنا بأن للنظام الاشتراكي جذور ثقافية ومجتمعية في السياقات المحلية السودانية، مستدلين بنماذج ’’النفير‘‘ و’’المآتم‘‘ و’’الأعراس‘‘ وغيرها. وهي نماذج لممارسات طقسية يتم اقتطاعها قسراً من سياقاتها البنيوية والوظيفية التي تربط الإنسان المحلي بلغته وثقافته ورؤيته لذاته وللآخرين، متناسين تماماً أن كل جماعة محلية هي بمثابة مشروع لمجتمع له كيانه الجغرافي واللغوي والسياسي المُتخيَّل، أي بكونه مشروع لدولة يتم إجهاضه باستمرار أو إعادة إنتاجه من داخل جهاز دولة ما بعد الاستعمار الحضري ـ النيلي القديم.
وفي أزمنة ثورة ديسمبر، التي خلقت واقعاً جديداً ومغايراً، تكون محاولات تثوير واقع المجتمعات المحلية قائمة على التفكير من الداخل في هذه المجتمعات، من خلال محاورة سياقاتها البنيوية والرمزية، حيث يشكل كل سياق من السياقات الصغرى نموذجاً للتفكير التثويري في واقع الناس ومعاشهم. فسياق اللغة المحلية لا يقل أهمية عن سياق القاعدة الاجتماعية ــ الاقتصادية الواسعة لفقراء الريف وضحايا الحروب والنزاعات. وذلك لأن اللغة تمثل بنية رمزية لنسق التفكير الريفي ــ الطرفي، حيث يحدد هذا النسق علاقة الناس بنمط السلطة السائد وبالكيفية التي يفكرون من خلالها في خياراتهم التي تحدد طبيعة النموذج الاشتراكي الذي لا يؤطر لتدخلات الدولة في مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية فحسب، ولكن حتى في المجالات الثقافية والرمزية أيضاً. إن بنية اللغة المحلية ليست مغلقة ومعزولة عنى البنى الاجتماعية والاقتصادية والسلطوية الأخرى، بل تتداخل وتنشبك معها بطرق ومستويات مختلفة تجعل الصراع الطبقي ذو طابع دائري وليس خطي. لقد ظَّلت اللغة المحلية، طوال عهود الصراعات والحروب الأهلية بين السياق الكبير والسياقات الصغرى، أي بين الدولة والمجتمعات الريفية ــ الطرفية، تُمثِّل ساحة حرب رمزية وسلطوية لقمع وتذويب المجموعات الإثنية والقبلية الأقل وصولاً للموارد وطرق توزيعها واستخداماتها داخل المجتمع المعين. ومن هنا، فإن الحرمان من الموارد يتقاطع مع حرمان الجماعة المحلية من التعبير عن وجودها الجماعي السياسي المُتخيَّل ومن علاقتها بالآخرين بلغتها المحلية، لينعكس هذا الحرمان التعبيري من اللغة سلباً على نسق تفكير الجماعة المحلية، لتصبح غير قادرة على تصور خياراتها وتحديد طبيعتها لكي تتناسب مع أي تدخلات اقتصادية وتنموية تهدف إلى إعادة توزيع الموارد والثروات والمداخيل والفوائض والخدمات الأساسية بشكل عادل ومتساوي. وبالمثل لا يقل تأثير التغيرات المناخية على علاقات القوة والهيمنة الإثنية والقبلية عن تأثير الحرمان من اللغة على توسيع قاعدة الخيارات الإشتراكية، بعد أن تأثَّرت كل المجتمعات الواقعة في النطاق الزراعي ــ الرعوي المطري بعوامل الطقس والمناخ المتطرفة والحادة، والتي أثرت بدورها في معدلات الإنتاجية والوفرة، مما عمَّق ذلك بدوره من الصراعات القائمة على الهيمنة على الموارد والتحكم في استخداماتها.
لأكثر من ستة عقود عَبَرت منذ استقلال السودان في العام 1956، ونحن نتحدث عن فقراء الريف والمسحوقين والكادحين، أو بصيغة أخرى أقل طبقية، وإن كانت ذات مسحة ما بعد كولنيالية غامضة بعض الشيء، صرنا نطلق عليهم المُهمَّشين والمقصيِّين والمنبوذين، لنصل إلى الصيغة الهيكلية ذات الطابع البيرقرواطي، من خلال تصنيفنا لهم كصغار مزارعين ومنتجين ونازحين وضحايا نزاعات وحروب، بعد أن أصبح الخطاب الأكاديمي النيوليبرالي السائد المتحالف نخبوياً ومصلحياً مع المنظمات الغير الحكومية الوطنية والأممية والإقليمية العابرة يختزلهم على هذا النحو.
أكثر من نصف قرن ويزيد، ونخبة عاطلة كاملة من أنصاف الأكاديميين والمثقفين والمستنيرين والسياسيِّين الحزبوييِّن والناشطين المعوَّلمين، بعد أن سادت أدلوجة المجتمع المدني وخرافته المُنبَّتة عن واقع الناس وعن حيوات وعوالم وتحولات المجتمعات المحلية التي تعيش الآن أطوار انتقال مشوهة جعلتها بين ـــ بين، لا هي مجتمعات ريفية أو ما دون ذلك ولا هي بدأت تسلك مسار التحضُّر الرقمي والشبكي الزائف والمنقوص. أقول أكثر من نصف قرن وما يزيد بعقد وأكثر، وهذه الطبقة المخصيِّة تمارس التفكير في قضايا الناس من مكاتبها الوثيرة، آمنة حالمة طي مؤخراتها المرتاحة السعيدة في رواقات الجامعات والمنظمات ودور الأحزاب وأوكار المثقفين، ذات التفكير الذي لن يذهب أبعد من قَدَحهَم الذهني العنين، وهو قدح نخبوي غبَّش وعي الناس وأبَّد عمليات العنف الممارس من قبل جهاز الدولة ورسخ لعمليات الإفقار والاقصاء والتهميش، حتى أصبح الناس عاجزين عن تمثيل أنفسهم ذاتياً بكامل مكابدات وعيهم الخارج من رحم واقعهم وسياقاتهم، ودون أن يكونوا أيضاً قادرين على التحرُّر معرفياً وسياسياً من التفكير في ذواتهم ومشكلاتهم من دوائر النخبة وممارساتها الفكرية والسياسية العنينة.
إذ لا تزال النخبة الأكاديمية، المختصة في العلوم الاجتماعية والإنسانية، تجتر معارف وأدبيات أكاديمية ظلَّت أطرها المنهجية والمفاهيمية والبحثية الميدانية خاضعة لمنظومات شاملة من الإنتاج المعرفي ومن الخطابات التي ظلَّت تفكر إقليميًا وكونيًا في الظواهر والمشكلات من داخل سياقات تجربة الحداثات الغربية وما بعدها. لقد حوَّلنا الوله بالبراديم الغربي إلى حورايين وأتباع لجان جاك روسو ولوك وهوبز وأميل دروكايم وآدم إسميث وماركس وفرويد وفيبر ونيتشه وهايدغر وألتوسير وفوكو ودريدا وشتراوس ولاكان وسلافوي جيجيك وديفيد هارفي وآلان باديو، وغيرهم من أغانيم الفكر القاري المُعوّلم، لتحلَّ علينا في نهاية المطاف لعنات الاقتصاد النيوكلاسيكي والتنمية الاقتصادية المكبوحة العمياء التي تقودها ساحرة مشعوذة تطلق علي نفسها مسمى “السوق الحُّرة” المتخفية بأقنعة “النيوليبرالية” وبرامج الإصلاح والتكيف الهيكلي ذات الرواج الأرثوذكسي المحموم من قبل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، والتي سرعان ما التهمت كل نماذج التنمية الدولية وأطرها البديلة كالأهداف الإنمائية للألفية (MDGs 2000-2015) وتوأمها السيامي الكسيح ممثلًا في أهداف التنمية المستدامة
(2030 (SDGs 2015-، ونماذج وبرامج زائفة أخرى تحت مسميات مختلفة وهي لا تؤسس إلا للنهب الرأسمالي المتوحش وللهيمنة النخبوية المُمنهجة، كنماذج وبرامج “الاقتصاد الأخضر” و”الاقتصاد الاجتماعي- التشاركي” و”ريادة الأعمال” و”التمويل الأصغر” … إلخ.
ألم يحن الوقت بعد؟ ألسنا في أمس ما يكون لتجارب حية وملموسة من الإنتاج المعرفي الجذري الشامل من داخل سياقات وخصوصيات مجتمعاتنا المحلية، ونحن غارقين في هذا الخضم الثوري الذي سينتج فكراً ثورياً حُرَّاً بدوره؟
فبدلًا من الإمعان في إدمان استخدام نماذج بحيثة وأطر منهجية ومفاهيمية جاهزة ومعزولة عن خصائص وشروط وبنى مجتمعاتنا المحلية، الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية والإيكولوجية، والتي ظلَّ همها الأول والأخير الخلوص بمؤشرات ونسب ومعدلات كمية عن انتشار وأوضاع الفقر والبطالة والنزوح والأمية وختان الإناث وزواج القُّصَّر، وغيرها من الظواهر والمشكلات، أليس من الأجدى دراستها من داخل سياقات وبني المجتمعات المحلية عبر نسق التفكير الريفي ــ الطرفي، أي من خلال تجارب الناس وتصوراتهم وتكويناتهم الإثنية والعشائرية والقبلية والطبقية والأيكولوجية، وارتباط كل ذلك بالعنف البنيوي الكامن في جهاز الدولة في كل أطواره الما قبل كولنيالية وما بعد الكولنيالية؟
فليس الفقير هو من يكون دخله اليومي أو الشهري أقل من حد الفقر الكمي المصكوك والمعمم من قبل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي فحسب، ولكن هو أيضاً من يتشكلَّ داخل حاضنة الفقر الثقافية والرمزية التي تجعل الحرمان حالة نفسية وذهنية داخلية قد لا تزول حتى بعد خروج الفقير من دائرة الفقر؟ ففي منطقة ألبان جديد، بشمال كردفان، تُعبِّر ظاهرة الفقر عن نفسها بنيويًا في سياق ثقافي. إذ نجد أن تعدد الزوجات يلعب دوراً كبيرًا في مفاقمة الفقر والأوضاع المعيشية. إن تجربة الفقر عندما تتعمَّق في الواقع وتتأبد في النفوس تتلبسها الأقنعة والحالات والتجليات التي تتنوَّع بحسب تنوع السياق البنيوي الشامل للمجتمع المحلي. وبالمثل، فإن مرضًا مثل الآنيميا المنجلية يتحول إلى ظاهرة تتشكَّل وتنمو في سياق إثني وليس سياق مرضي وراثي فحسب، وذلك عندما تنتشر وسط مجموعة إثنية معينة في ذات المنطقة، ذات المجموعة التي يتحكم الانغلاق الإثني أو الزواج الداخلي أو التزاوج التداخلي- البيني في دينامية انتشار هذا المرض وسطها، وذلك بعد أن ’’تأثن‘‘ دون أن يتخلَّى عن كونه مرضاً وراثياً أيضاً. ففي المجتمع المحلي تنبجس الظاهرة أو المشكلة كالمنشار الدائري الحاد والمزدوج والذي يأكل من كل الأطراف، أحيانًا بشكل خطي عامودي أو رأسي، وأحيانًا بشكل دائري لولبي أو أفقي، مما يجعل المرض ظاهرة متعددة الأبعاد تنتمي لأكثر من حقل معرفي ومجال بحثي، أي يكون ظاهرة برؤوس متعددة: إثنية وثقافية ومرضية ونفسية واقتصادية… إلخ. وبالمثل يكون الفقر بمثابة هيدرا متعددة الرؤوس، كل ما قطعت رأس الدخل المادي، نبت رأس تعدد الزوجات، وكلما قطعت هذا الرأس الأخير نبت رأس الحرمان من الخدمات الصحية والتعليمية نبت رأس الاستعلاء العرقي والإقصاء الثقافي، وكلما قطعت كل الرؤوس نبت رأس الحرمان النفسي ــ الجمالي الخفي والدفين….إلخ
أليس من الأجدى أن ندرس طقوس السِبِر في مناطق جنوب كردفان، من خلال مضامينها الإثنية والإيكولوجية والرمزية وعلاقاتها الُمعَّقدة بتجربة الحرب والنزوح، فحقل معرفي كامل، كأيكولولوجيا الأسبار أو أنثروبولوجيا الأسبار، بإمكانه أن يغير أجندة واستراتيجيات التفاوض بين الحركة الشعبية ــ شمال وحكومة الفترة الانتقالية العالقة بين حدي العلمانية وتقرير المصير، وبالتالي يحدث تحولاً تاريخياُ جذرياً من خطاب المظالم التاريخية الخطي بين مركز وهامش، وهو خطاب مؤدلج ومأزوم ومسدود الآفاق، إلى خطاب مشحون انثربولوجياً وسوسيولوجياً بحقائق الواقع وطبيعة الصراعات والتحولات على مستوى الأرض؟
وليس بعيدًا عن طقوس السِبِر، فهناك طقوس الكجور التعويذي التعذيمي الذي يحوي بداخله حقل معرفي كامل من الاقتصاد السياسي الرمزي الذي بإمكانه أن يُشِّرح أوجه وأبعاد العلاقة بين الحرمان الروحي والنفسي والاقتصادي من الحياة والدولة، من جهة، وعلاقته بالعنف والنزاعات والحروب والاقتلاع والنزوح؟
لدينا الآن ترسانة كاملة ومتأججة وعلى أهبة الانفجار اسمها الجندر: لكن ماذا عن الدولة كغول ما بعد كولنيالي عظيم ابتلع في جوفه كل أنماط الهيمنة الإثنية والعشائرية والقبلية والجنوسية والطبقية، منتجاً بنية الذكورية الأشمل من ذكورية المجتمع المحلي؟ إن من أعظم الملامح الجذرية لثورة كانون الأول/ديسمبر أن نساء السودان ورجاله، في الأرياف والحضر والبوادي والضهاري، خرجوا لإسقاط غول الذكورية الذي تُمثِّل رأسه الدولة وبطنه المجتمع وأطرافه الرعاشيِّة المعرفة الأكاديمية والممارسات الحزبية النخبوية المخصيِّة والعنينة. لذلك، فإن ذكورية المجتمع المحلي ليس ذكورية الفرد الواحد وإنما ذكورية الجماعة الخارجة من أرحام الإثنية والقبيلة والعشيرة والطبقة التي دجنها جهاز الدولة النخبوي العنيف إلى مسوخ وأشباح في شكل رجل ــ و ــ امرأة. ففي كثير من الحالات تكون المرأة أكثر ذكورية من الرجل، موغلة في إعادة إنتاج بنى الهيمنة الذكورية وعلاقات الخضوع والإذعان والإمتثال. إن خطاب الجندر الأكاديمي السائد وسط الناشطين والفاعلين في منظمات المجتمع المدني اختزل كل تجربة الهيمنة والخضوع الذكوريين بين عدويين أبدييين هما رجل ومرأة، حيث ظل هذا الخطاب عاجزًا عن تشريح ختان الإناث كظاهرة سوسيو- ثقافية دون اختزاله إلى ’’عادة اجتماعية ضارة‘‘؛ ففي قرية نبق، بشمال كردفان، لم يكن أمام مجموعة البرنو إلا أن تكتسب ظاهرة ختان الإناث وتتمثَّلها ثقافيِّاً بذات الكيفية التي تمثَّلت بها لغة المجموعة الهيمنة على الموارد وعلى السلطة الرمزية والسياسية للمجتمع ككل. إن ظاهرة ختان إناث، وفق هذه الحالة السياقية المخصوصة، هي بمثابة ميكانيزم للتكيف والإندماج الإثني في ثقافة وعادات وتقاليد المجموعة القبلية المهينمة. ومن المعروف أن البرنو من المجموعات التي لا تمارس ثقافيًا ختان الإناث.
ما من خيار استشرافي ومستقبلي بعد الآن، سوى الانخراط في عمليات إنتاج معرفي شاملة من داخل سياقات مجتمعاتنا المحلية. فدون ذلك، لن تجد دولتنا المدنية المنشودة أو المولودة سفاحاً من نموذج الدولة القديم أي موطئ قدم ثابت لكي تمد شُباحاتها ودعاماتها إلى ما رواء شِراك القبلية والعشائرية اللذان أفرزهما العنف النخبوي والحضري الممنهج الذي مارسه جهاز الدولة بأيدي فئات نخبوية صغيرة لم يكن همها الأول والأخير سوى النهب والتبديد الهدَّار للموارد والثروات القومية. لقد أحدثت ثورة كانون الأول/ديسمبر تحوَّلًا جذرياً، فنقلتنا من مرحلة التفكير للناس إلى التفكير مع الناس، أي الانخراط في عملية واسعة نقدية ومشتركة من التفكير القاعدي في واقع المجتمعات وسياقاتها ككل، دون اختزالها إلى طبقات أو فئات قاعدية أو مجموعات لا مُمثَّلة حقوقياً وهيكلياً في برامج الأحزاب واستراتيجيات الدولة ومشروعاتها الوطنية.
الإزيرقاب ــ ضهاري بحري ــ الخرطوم
نهار 28 أبريل 2020
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*استندت الخطاطة النظرية لهذا المقال على خلاصات مستمدة من مدونات العمل البحثي الميداني بين شمال كردفان وجنوبها في الفترة ما بين 2020 ــ 2018، وهو عمل بحثي ميداني يروم ذلك الضرب من الإنتاج المعرفي الذي يُغذيِّه ويوِّجه مساراته نزوع تطوير نماذج بحثية محلية في مجالات دراسات تحليل علاقات النوع الاجتماعي والنزاعات، ومن ثم التأسيس لمشاريع بدائل محلية للتنمية.