ثمار

الغضب والرخام

” والتاريخ يسخر من ضحاياه ومن أبطاله

يلقي عليهم نظرة ويمر”

محمود درويش

على أرض يانكي شمالي الولايات المتحدة الأمريكية، كي ينفذ شرطي عملية اعتقال روتيني في الخامس والعشرين من مايو في مدينة مينابوليس، ولاية مينسوتا حيث يعبر الميسيسبي جرياً نحو مصبه في خليج المكسيك، وأبعد آلاف الأميال جنوباً عن يوكناباتوفا، المقاطعة الخيالية والمسرح الأسطوري حيث تدور أحداث روايات وليم فوكنر، جثا لتسعِ دقائق بركبته رجل شرطة ذو بشرة بيضاء على عنق جورج فلويد الأفروأمريكي، الرياضي الموهوب والجنوبي المنتقل من تكساس متسبباً في وفاته.

 “لا أستطيع التنفس” كان اَخر ما قال فلويد وهو يموت.

وأنا أكتب الاَن: لا أعرف ولا أستطيع أن أتخيّل شيئاً عن الولايات المتحدة إلا من منظورين:

أعمال وليم فوكنر وسينما هوليود، عن ما قرّ في وعيي عن النسخة الأمريكية لهوليود صورة واحدة:

يكفي المرء فقط سوء حظه لوجوده هناك مصادفةً في أي ناصية من أمريكا، ليلقى مصرعه في تبادل إطلاق رصاص بين سوبرمانات ضاحية بيفرلي هيلز ورجال الشرطة.

اَخر أنوار نهار صيفي في جفرسون ستتلوَّن بعد قليل بحمرة الشفق الداني، في درة فوكنر الروائية نور في آب، جندي أبيض اَخر، بيرسي غريم، تكفل على حساب تعصبه العرقي الخاص به، بتنفيذ رغبة أهل البلدة المسعورة في رؤية جو كريسماس مشنوقاً كونه على علاقة محرمة مع امرأة بيضاء، منبوذة تأوي في بيتها زنوجاً، انتهت بقتله إياها. ولفعل ذلك لم يكتفِ بإفراغ رصاصه على جسد ضحيته وحسب، بل غاصت سكينه حتى خصيتي كريسماس الذي طالما عدّوه زنجياً، من أجل، وبكلمات غريم: الآن ستترك النساء البيضاوات وشأنهن، حتى في جهنم.

 قد نسمع من يحتج مستاءً: إذن فالأدب بشعاً أكثر من الواقع. لنأخذ ذلك معنا ونواصل:

في اَخر سنوات أسرة كمبسن انحداراً، الصخب والعنف، بعد وفاة الأم يقوم جاسن كمبسن بتسوية الأمر الذي طالما أراده: إخصاء شقيقه الأصغر بنجامين وإرساله إلى مستشفى مجاذيب الولاية بذريعة كونه معتوهاً يعاني من قصور عقلي.

إخصاء: في عالمه الروائي، يتنقل فوكنر بين أعماله بصورة مدهشة وفريدة، فيستعير أحداثاً وموضوعات من أحد كتبه، ليبني منها قصص أخرى بتنويعات مختلفة في أعمال لاحقة. تهرب كونتن حفيدة اَل كمبسن، الصخب والعنف، مع عامل سيرك متجول حلّ بالبلدة، جفرسون أيضاً، فيغدو موضوع الهروب نور في آب بذر رجل سيرك مكسيسكي بدماء زنجية في رحم فتاة من البلدة نواة جو كريسماس.

فما الذي بتنويعاته على ثيمة الخصاء أراد فوكنر إضاءته؟

ظاهرياً يبدو أن سبب إخصاء كريسماس هو علاقته بالمرأة البيضاء، واعتداؤه يوماً على فتاة صغيرة، في حالة بنجامين. تسويةً لمسألة شرف. لكن المرأة البيضاء لم تكن تعني لأهل جفرسون شيئاً وأغلبهم لم يتعامل معها أو رآها يوماً وهي من عداد الناس المنبوذين في مجتمع البلدة، ولن يعنيهم في كثير أو قليل من تعاشره، وكريسماس ذاته عندما أقام معهم في البلدة لم يكن بالنسبة إليهم ليس أكثر مما انتهوا من حسم أمر زنوجة دمائه. وإذا لم يكترث جاسن كمبسن لشرف أسرته أولاً وذلك بما ستثيره من فضيحة رغبته المعلنة دوماً في إرسال أخيه إلى مستشفى مجاذيب الولاية فلن يكترث مطلقاً لما يمكن أن يفعله أخوه بأي امرأة بيضاء كانت أم زنجية. لكن مجتمع البيض في البلدة بدأ كراهيته لابنة عرقهم قبل أن تولد لماضيها العائلي كشمالية أبوها مناصرٌ لإلغاء العبودية، وجاسن الذي لا يحب أحداً كان يعتبر بنجامين بقصوره العقلي أكبر مصادر إزعاجه وعبئه الأكبر في الحياة.

 ما أراد فوكنر إضاءته صورةً عن حالةٍ من الكراهية العمياء حُفرت عميقاً واستقرت في الوعي الإنساني، كراهية لما وجد الإنسان نفسه يكرهه هكذا بداهةً، ولا يتسطيع أن يكف عنها ولا أن يقف حتى للتساؤل حولها وبحث أصلها وجذرها. كراهية انفجرت دماءً في وجهي ضحيتين معدان سلفاً لها.

 ليس لبنجامين من حيلة لمجابهة تلك التجربة الفظيعة التي عرضوه لها إلا أن يكثف كل حواسه في أنينه، اللغة الوحيدة التي يعرفها، فسباقه على حلبة الوجود انتهى باكراً يوم جاءوا به إلى هذا العالم وقد يظل وعيه قاصراً للأبد من إدراك ما فعلوه به. والآخر، كريسماس بالتجائه إلى بيت القس هايتاور، قابعاً وراء طاولة بعد مطاردة غريم له، كان يحمل في يده مسدساً محشواً ما يسهل عليه أن يطلق على أي أحد: المتربص به غريم، المتفرجين على قتله، لكنه لم يفعل، يطلق الرصاص، يقاوم، لم يقل لا أستطيع التنفس، لم ينطق بجملة فلويد. بل هازئاً من نفسه، من العرقين الأسود والأبيض، منهكاً من الجري عبر شوارع البلدة وحياته التي لم تكن إلا هروب دائم من شيء ما، استمر قابعاً خلف الطاولة ومسدسه بيده منتظراً نهايته، ختام مأساة دامت ثلاثين عاماً.

ولما يمضِ بعد أسبوع على مقتل جورج فلويد حتى طُبعت على قمصان ولافتات مئات الاَلاف في شوارع مائة وأربعين مدينة بالولايات المتحدة الجملة الأيقونة والتي على ظلالها بلا اكتراث بالوضع الوبائي العالمي والتدابير الصحية لمجابهة جائحة كورونا سار الناس في تظاهرات غاضبة منددين بعنصرية الشرطة والمؤسسات الأمريكية ومطالبين بحفظ واحترام حيوات السود، ففي سانت بول ومدن أخرى وفي فعل رمزي لتصفية الجذور التاريخية للعنصرية حطم المتظاهرون تماثيلَ لمكتشف أمريكا كريستوفر كولومبوس، تجار رقيق تاريخيين وجنرالات من الحرب الأهلية الأمريكية. وسرعان ما صار تحطيم وتشويه التماثيل موجة عالمية: بريطانيا، بلجيكا، فكتبوا في فرنسا تحت قاعدة تمثال لشارل ديغول بعد طلوه بالبرتقالي: تاجر رقيق.

فما الذي يعنيه هذا الغضب وأكوام الرخام المكسر؟ أانتقام وسخرية من التاريخ بعد أن انتظم العالم على ما هو عليه أم اتجاهٌ مستقبليٌّ لإعادة ترتيب صورة جديدة له؟

لنسمع من مكتشف العالم الجديد حيث يرقد محتضراً بانتظار وصول قس الاعتراف، الوتر والظل، لأليخيو كاربنتيه:

“إني أرقد فوق لوح حجري منتظراً مَن سأتحدث إليه حديثاً طويلاً غاية الطول، مدخراً قواي لأتكلم ما شاء لي الكلام، فقد أنهكتني وطأة العمل أكثر من ما أنهكتني الأمراض التي قاسيتها. يجب أن أقول كل شيء. كل شيء. أجل”.

“لكنني في هذه اللحظة التي ما زلت فيها حياً بانتظار رجل الدين، نحن اثنان في واحد. الراقد ويداه مضمومتان كأنه في وضع الصلاة، والآخر الذي يجهد ليتحرر مني، أنا، أنا الذي أحيط به، وأحبسه وأسعى لخنقه”.

يجب أن أقول كل شيء. كل شيء. أجل! في كتابه الإحساس بالجمال يقول جورج سانتيانا إن اقتراب الموت يجعلنا فلاسفة. قول البحار المحتضر كل شيء يعني ساعة الجردة النهائية أن الروح وقد انكشفت لها الطريق الأخيرة، ستتخلى عن الرغبات والآمال، الأشياء والأعمال، المجد والخلود، الأعمال التي كانت تعني الكثير للإنسان وهو يسعى طول خط حياته لتحقيقها، والتي يُكتشف عند اكتساب حكمة وسلام الموت النهائيين أنها لم تكن سوى أوهامٍ زائلة.

في الجزء الأخير من الوتر والظل بعد أن تحول إلى طيف وهو يشهد رفض مجمع الطقوس الفاتيكاني إصدار قرار بتطويبه قديساً، لاقترافه شانئتي النخاسة والسفاح، تلاشى حزيناً بين روائح البخور وأضرحة البابوات لأنه ” متهم غائب، وشكل متخيل، رجل من ورق، وصوت تحول إلى فم الآخرين للدفاع عنه أو إدانته. ولكنه سيبقى على بعد أربعة قرون تقريباً ممن يفحصون أدق التفاصيل في حياته المعروفة، مقررين ما إذا كان يمكن اعتباره بطلاً رفيع الشأن، كما يراه مؤيدوه، أو كائناً خاضعاً لكل نواحي ضعفه البشري، كما يصوره المؤرخون العقلانيون الذين قد يعجزون عن إدراك شاعرية أفعال تقع وراء أسوار وثائقهم ومؤرخاتهم وبطاقاتهم”.

إن الحقيقة الشعرية لمقولة محمود درويش ليست هناك بين أكوام رخام التماثيل المحطمة، إنها هنا في الوتر والظل حيث ينجز الآن البحار العظيم آخر أعماله.

 اليوم لم يعد كولومبوس ولا فلويد أحياءً بيننا، وقد يجد قاتله ديريك شوفين في سجنه فرصة للنزول إلى المطهر، وربما ستمر على الإنسانية أزمنة لن تجد العنصرية طريقاً فيها إلى مؤسساتها، فلنتوقف لنسائل أنفسنا نحن الأحياء الأحرار: أيمكننا إنهاء العنصرية حقاً؟

فلا لون العرق، الدين، الجنس، وكل ما يتعصب له الناس؛ يبقى جذراً يتيماً لها. العنصرية توتر وجودي من الدرجة الأولى، يتغذى على شعور باطني من أن آخرَ اعتدى علينا بوضعنا في حالة وجدانية مقيتة من القلق والتهديد.

غافلين نواصل رعاية ذلك الشعور إلى أن يتفجر كراهية ودماً في وجه ضحية ما، وما كان ليحدث ذلك لو كنا قد وعينا به مثلما فعل مالدرورو في واحد من أناشيده وهو ينصح فتىً بالشروع في التخلص الفوري من أي شخص سبب له ضيقاً أو إزعاجاً. بالطبع لا ينادي لوتريامون حرفياً بتسوية الأمر بالقتل، إن ما كشفه هو ميل في الطبع الإنساني إلى إنهاء هكذا أوضاع بتلك الطريقة.

عبد الله مضوي

كاتب من السودان
زر الذهاب إلى الأعلى