غصنٌ تحت المجزرة
لماذا تنقضّ علينا هذه الحمائم الجائعة كل يوم، تنقد دماءنا و تبصق على ألواننا كُرهها، و تنشب أنيابها و مخالبها في قمح لحومنا. ماذا جنيتُ على الرب؛ أي نبيٍّ شنقتُ ليهجم ربي عليّ بهذا الامتحان؟
منذ اليوم الأول من الشوق الدهري، و قلوبنا تسير متجاورةً و طرية. تتقافز من قلبي لقلبٍ مجاورٍ له زبدةٌ عسليّةٌ، تغلّفهما ،و ليس ثمة فرفرة غضبٍ تخرج من احدهما مهما اختنق .و كان أن لم يكن ألمٌ في الأرض، و كُنّا قد صُنِعنا من طينها المُر. و بينما كانت طينتنا الأزلية نائمةً تحت شجرةٍ مقدّسة، كانت الشمس تزور في اليوم مرةً واحدةً لتطهو الشجرة ثم تذهب، تراقبنا و لا تلمس جلودنا أبدًا. نهرٌ من الرعشاتِ مرّ فجأةً بالأرض التي تحتنا، كان أول ما شعرنا به: نعاسًا كثيفًا، و طعنةً في الأجناب، ثم تقيّأنا عسلًا مُرًّا ، ثم نهضنا ، لم نكن نرى كنا نحس بروائحٍ زكيةٍ داخل صدورنا، ثم انفتحتْ أعيننا؛ فإذا بغشاوةٍ، ثم الضربة الأولى العنيفة للشمس، ثم جرينا بسرعةٍ إلى الزير المُسكِر، جرعنا منه قليلًا مُطَمْئنًَا، ثم بدأنا نسير بصعوبة، إلى أن وصل حشدنا إلى شبحٍ واقفٍ على تلةٍ من نار. نظر إلينا منقِّبًا فينا جيدًا، ثم قال سيروا ورائي، لا تختلطوا بدبابيسِ النمل التي تعمر هذه الأرض لئلا تَنفَقوا. مشينا ربما لدهرٍ أو دهرين، بدأتْ نقطٌ من الماء تهمي من السماء على أجسادنا و أسمائنا، أخذت الشرارات تنطفئ على جلودنا، رويدًا رويدًا حتى صرنا باردين:ثلوجًا، و قادرين على السير بالموعظة: أن كيف سنقود غابات أعصابنا الغضة بين هذي الصخور الجبال الحديد.
*
و بعد قرنين من ذلك الميلاد، ها نحن نقود بهائمنا إلى عروشها الليلية، ها نحن نخوض طين الذهب، نشق جداول الشوق، نفلح أرض الحنان بينما رؤوسٌ كبيرةٌ تذهب منّا، و أخرى صغيرةٌ تأتي بيننا على بساطنا العشبي هذا؛ مراتٍ نفرح و في أخرى قد نحزن و نبكي و لكن في حدود عقلنا السهل المطمئن حينها.. إلى ذاك اليوم:أول ايام القتل، يوم هجم علينا الحمام الجميل، قُطِّعتْ رؤوسٌ و افتُرِستْ جثثٌ دون عناية؛حمائمُ كنا نسقيها خمرنا حتى تثمل، و تنال من حبوبنا كل يومٍ حتى تمل.
*
في تلك الليلة العمياء، انقضّت الصاعقةعلى جبل الدم الحجري اليابس، و حين دكتّه تمامًا، سال بين أرجلنا، كنا نائمين، حلوقنا جافّةٌ، لكن قلوبنا كانت تنبض برقةٍ، و كانت الروح جارةً لي في الفراش، كنتُ أعانقها، و كان التفافي عليها رخوًا، شاملاً و شديد السطوع -كنتُ مطبوخًا على كل ثلجٍ و نار- ثم سال هذا المشروب الأحمر تحتي. كان مظلمًا و كانت الظُّلمة أيضًا مُظلمة، لم يكن ممكنًا أن أرى من كثافة الحنان في رئتي، فنهلتُ جرعةً منه، انفجرتْ شمسٌ صفراء أمام عينيّ، كان ذلك أول يومٍ أراها فارتجفتُ، و زمجرتْ قطّبتْ جبينها، وأخافتني أكثر بعيونها الشرسة الحمراء، و دون أن أقصد و أنا أرتجف طعنتُ جارة الروح، صرختْ و انفكّت من عناقي الكثيف، هربت لمضارب أبيها، و منذها بدأتِ الحرب.
*
عن جَمال الراعية؛ في ليلة الجَمال و الرمال، و هذا القمرُ الناعمُ المستديرُ الجالس بيننا، ما زلتُ أذكر كيف كان الهواء يلمسنا و يفر، كنا نسرد الأحلام قبل حدوثها، كنا نلمع تحت مقام الحنان هذا، لم أكن أعلم أن خنجرًا ينتظرني خلف تلك الهشابة. لم أعلم أن المدفعية ستقصف ناقتنا الوحيدة، لم أعلم أن سيلًا من الذخائر سينهمر علينا، و لم نكن نعلم أننا لن نموت أبدًا، و أنّا سنبقى ظلالًا شاحبةً لهذي الرمال، نبقى أحياء معذبين فيها، نسكن في خوفنا الذي لا يهدأ ، الذي لا يموت.
*
في هذه الستين قِتلة، سترتاح الأدمغة التعِبة من أعبائها، و تتوقف الدماء عن الجريان تمامًا فتهدأ العروق، و تخلد الأغاني للنوم في الأعصاب، و تعود العيون لعماها الطبيعي القديم، فقط تكون هناك عضةٌ في الروح، تزعج نومتها الأخيرة، إنها عضة الظُّلْم المُرّة التي لا يمكن قتلها بأي سلاح .
*
يحق لي امتلاك حقلٍ كاملٍ من زجاجٍ رخيم، أرعى فيه أسرابًا عديدةً من أنوارٍ باردةٍ بهيجة، تنمو ببسالة في مخملها، و أقودها بثقةٍ إلى الخارج الحار، و معها ديدان رقيقةٌ مبتسمة تأكل الحرارة، الشمس و الضغينة، و تُبقي المحبّات التي تطفئ كل مجزرةٍ وقتْل.
*
لم أكن أعلم أن الأرض تقتل أيضًا، و أنها قبرٌ كبير، و أن هذه السماء جاسوسٌ و كفَن، و أن هذه الأمطار الغزيرة الشفافة/ البيضاء مراتٍ رشاوى سياسيّة وثمنٌ لنا في المزاد.
*
هذه الورقة البيضاء الرقيقة الباردة، منتصبةٌ بثباتٍ أمام هذا النشّاب،طنٍّ من الوقود، و كتلةٍ هائلةٍ من النار، و كل هذه النوايا الحديدية الشريرة المصوّبة إليها؛ ستحترق كلها و توضع جنازة رمادها في الفتيل، لكن هذه اللغة القديمة المكتوبة فيها ستبقى، هذه الأحبار السرية الشريفة سيحملها الهواء، ستمتصها التربة، و تحملها الوديان لمستحقيها، و ستنبت عشيرتها النباتية في هذه الأرض لا محالة.
*
نحن الوديان الهائجة، الأراضي البور المتوحِّدة، الغابات غير المطروقة، السحنات الشوكية المتداخلة ، النياق التي أتعبها السفر من خريفٍ لقحل، مللنا هذه الرحلات و الطعنات، كاد صبرنا يفجّر أحشاءنا،و حتى لو أوقفنا الموت نفسه، ستظل جمرة عشقنا الرمليّة هذي قويّة، ثابتة و تتنقّل من أرضٍ لأرضٍ، لا يوقفها الألم.
*
قُطّيتي التي أُحرِقتْ، لم ألمسها أو أدفع النار عنها، محصولي الذي أُبيدَ لم أرجُ نجاته، كل ثمينٍ مفقودٍ لم أكترث له، كنتُ أطوّق شرارة روحي و أحرسها كي لا تفر من هذه المعرفة،و كي لا تُذهِب جلَدَها قنابل الطائرات؛ و احتفظتُ بجثتي في مكانٍ آمِنٍ هو النسيان، أعلم أنها ستنمو يومًا، لكن أين؟ أرجو أن تزاحم جذوعها القوية الّسُّحب، و أن تحتل بذورها المعدنية تربة السموات.