وداعاً أيُّها السَاحِر

أنا الكلام وآخر الكلام
وأوَّل ضرب على صدر الحياة
وسوف تُفتح لكم الحياة
سوف تُفتح الخزائن
لأنّ ريشة صغيرة من عصفور
سُتكلّل رأسي
وشجر البَرْد سيحويني
وامراة باقية بعيدة ستبكيني
وبكاؤها كحياتي جميل
(أنسي الحاج)
بعض ٌ من سَحَرة الحياة وكشافو ينابيعها اليانعة الخضراء، ممن غادروا عالمنا إلى عالم آخر من عوالم المحو والذوبان في المجهول، كانوا يُشفِّفون حضورهم من خلال الرؤى الشافيّة والاستبصارات الكاشفة لوجوه الحياة المُلغزة ولأحوال الوجود الخفيِّة، فلا نلمحهم في وجودهم اليومي الحي والملموس إلاَّ وقد استحالوا إلى غلالاتٍ من الشفافية والنور، بل أشفَّ وأشفَّ وأشفَّ من ذلك، إلى بروقٍ ولِمَعٍ يترَقَرق منها كل ماهو ممتلىء وحميم فلا تتفهرَّس إلى خاناتٍ وجودية شاغرة لنماذج نهائية أو أنماط غَارْة وجوهرانية.
ووحدها ابتسامة الطيور المثقوبة بالنور الخافت كانت تغار منها فراشات بوذا البيضاء. ففي بحر ابتسامته الرائق الرزين، والتي كانت ترنو أمواجها الزرقاء إلى بدر تمامه كل مساء، كان الشاعر الراحل رماح عبد القادر يحيل مشافهته الحميمة معك إلى مرسمٍ من البريقِ والصحو والزهو الطليق. ولأنه من أحلى بنات وأولاد حرام هذه البلاد، الذين استحالوا إلى أطيافٍ من شبح الوجود السوداني الملعون، كان رماح يتجلَّى عارياً كالكلمات، يسمو ويدنو حتى تتقمَّص روحه حالات الوجود الشريِّدة الأنيقة لكي تمحو الأثر في هاويةٍ من الرموز والدلالات والصور.
لقد غادر ساحر الابتسام المُنير، لأننا لمحناه طليقاً ولم نُعمِّده زوالاً قبل أن تحلِّق روحه إلى الماوراء لكي تفرد أجنحتها التي لم تحتمل سعتها الطليقة أرضٌ ضاقت بالبشر قبل أن تضيق بنفسها، صاعداً إلى الأعالي الزرقاء لكي ترتشف خانات الوجود الشاغرة من صفو صفحات كتاب الأبدية. لقد حلَّق خفيفاً خفيفاً، موارِباً ضفاف ابتسامته المُنسرحة بين البراري وتحليقات الطيور. لم يُحلِّق رماح عالياً إلا لأن جسده الهش الظليل لم يحتمل رائحة أشجار الصفصاف التي كانت تتخلَّل برِّقتها الباهرة روحه وأنفاسه ونظراته. كان يُكالم الكلمات، يُشافهها فتشافهه، يهمسها فتتنفسه حتى تذوب فيه طائعةً مختارةً بكل جسارة محوها الخاطف لكل أثر أو إحالة أو دلالة. من كان هشَّاً لا يموت، بل يلهو مع حنكة الوجود حتى يسمو بكل خفِّة لكي يتلاشى في النور. إن الموت لا يقتنص من تحيل رائحته الشجرية المكان إلى حديقة من الأنفاس والرؤى والمشافهات النيِّرة، وإلى أطفالٍ من قطرات المطر ورذاذه الراقص على حواف طرقات تخونها خطوات المارة ولا ترسمها. فمن يمشون على حياتهم ولا يعبرون إلى ضفاف وجودهم المغاير والمختلف يخونون حياتهم وذواتهم، مأسورين ومذعنين لكل أشكال الوجود الداجن والمُدجِّن.
ولم تُشكِّل الثورة لرماح إلا أرض الحياة الجديدة التي يصفو شرابها الملوَّن من تدنيس الثوري بالشعري. ولم يكن انخراطه في براري الفعل الثوري برهان قداسة على إثباتٍ سياسي أو تحقِّقٍ كياني، أو تعاليٍّ معكوسٍ يطِلُ مُقطَّراً من شُرفات الشاعر المحفوفة بعزلته الليلية، بل إثمار إنساني ووجودي طالع من وهج الانغمار في دنس اليومي المُبحر بين حواف المبتزل والهش والمنبوذ والمقصي والزائل. وبقدر ما اختمر بجوانيات اللحظة الثورية بكل تقلباتها وانعطافاتها الحادة، وهو الذي سَفَه ذاته الشعرية إلى يوميات أخذت تُدوِّنها اجتياحات لجان المقاومة الضارية والشرسة، راهِناً الحس الثوري الوخيم مُجنَّحاً وطليقاً، بقدر ما أدرك أن لغة الشاعر من لغة الحياة الطليقة المُنسرِحة. لم يُداني الثمرات، أو يتشابى لقطوفها المتدليِّة من شجر الرؤى المُستبصرة، بل كان كاليمامة التي تُهازز الغصن ولا تقطف الزيتون. فما الشاعر في عُرفه الثوري الباذخ إلا وعد المناعة ونصل الوجود الحافي الذي يحز ولا يقطع لغته من لحم التجربة الثورية الحيِّة. لقد عاش شعرية التجربة الثورية بكل اندفاقاتها وخواءاتها وانجراحاتها، حتى استحال إلى حالة شعرية تُجسِّد ما لا يُدوَّن. لقد احترق بالمس اللاهب حتى تلاشى في شعر العالم وقصيدة الوجود. لقد تاخم جمال المحو الحارق وعَبَر مُشجَّراً بالحدوس والانزياحات والبياض. أنتَ أنثى اللامرئي التي خَنَّثها المرئي طويلاً في كل جسدٍ ذكوريٍّ جارح ومجروح.

رأيتك بين الحواف والظلال، فلم أخاف أن يصطادك سهم الندى الجارح يا رماح. رأيتك تُنادم الظلام الكثيف، تقرأ طالعه الجريح والمتعالي على الخطيئة والندم حتى يُثمر الفجر عارياً، بينما أسراب المرض الفتاك تنسَّلُ من أعشاشها كالحمائم البيضاء وتنسربُ إلى حدائق جسدك الهش الظليل، ناهشةً منه اخضرار الحياة اليانع وتجسُّداتها الموحيِّة. رأيتك يا شَرَك الحياة الفسيح، وأنت توِّزع عطاياك وهباتك لجوعي المستقبل المظلم الضرير. رأيتك تُلوِّح لمن لا يرى، ترسمُ عين البصيرة في يقين الرائي فتمحو فراغ المحو بالإمتلاء الطليق. ففي أبهى حالاتك وأنتَ في نَزَعِك الأخير، كُنت تلوِّح للفكرة، ترسمُها في الفراغ ولا تناديها بل تموِّج إليها بقاياك الراقصة بين خلجات النور الموِّحي. وأنتَ تعبُر إلى غيابك العالي، كُنت تؤرشف المسافات فتدنو رفوف الكون لكي تحزفُ من الجسد وتضيفُ إلى الروح. لتبقى شاهقاً في الأعالي، زاهيّاً ومُكلَّاً بورود حدائق قوس قزح، كأنك أنثى الكون التي تقطع رَحَط شَوقها العابر إلى الأعالي بأزهى قرمصيص الروح.
مساء 22 – فجر 23 أغسطس 2020
أركويت – الخرطوم