ثمار

لجان المقاومة كحالة ثورية

إن الثورة التي قامت ماهي إلا سلسلة مستمرة من الإنتفاضات الصغيرة في وجه الشمولية ، كل فعل كان ضد السلطة وممارساتها  في لحظته (إنتفاضة ) فمقاومة بائعات الشاي و الفريشة ، ومقاومة الطلاب كل صباح أمام بوابات الجامعات كان( إنتفاضة) ،صراخ الأمهات في وجه التجار حين زيادة الأسعار كان (إنتفاضة) وتشييع جثمان إحدى النازحات في معسكرات النزوح كان (إنتفاضة ). كل هذه الانتفاضات كانت تهيئ لميلاد ثورة انطلقت من أقاصي القرى البعيدة حملتها مدن السودان التي انتفضت ، محطمة بذلك وعياً مركزياً ما كانت السياسة السودانية لتخرج من نفقه مالم تنقذه الثورة بترتيب شروط فعلها . لذلك لابد لنا من دراسة هذا الأمر وتفحصه ويبرز سؤال عريض هنا (كيف نجحت الثورة ؟) وعندما أتحدث عن نجاح الثورة فإنني أتحدث عن مستوياتها الاجتماعية (الأفقية ) .

المشاهد لواقع السياسة في السودان يرى أن البنى السياسية أبطأ في الاستجابة للأحداث  سواء أكانت جزءاً من  السلطة أو خارج السلطة فمن البديهي أن تفرز الثورة أجساماً قادرة على تحريكها وحمايتها متوافقة شكليا مع ضروراتها ومع تصورات هؤلاء الشباب ، لذلك جاء النموذج في الفعل الثوري يعتمد على فكرة ( اللجان ) وإذا ما شاهدنا اللجنة فهي عبارة عن مجموعة شباب يربط بينهم واقع اجتماعي واقتصادي وثقافي وجغرافي – حي ،قرية ، مدينة – معين يفكرون فيه بصورة مشتركة وبأنساق متعددة (ومنها يمكن أن نقول بأن اللجنة قد حطمت التصورات الهيكلية للحزب السياسي أو الحركة المسلحة فلا وجود فيها لتراتبية تخضع لسكرتير عام أو أمين عام أو رئيس ) والأكثر من ذلك والأبعد هي شبكية العلاقة بين اللجان المختلفة والترابط الأفقي الذي يجمعها فلا وجود فيها لنخبة تقرر الفعل أو توجهه ، فدائما ما كانت هنالك “نخبة هي التي تقرر عن الجميع ماهو صالح وما لايجب التعرض له ، هذه النخبة تراعي مصالح غامضة تؤدي إلى نتائج غامضة بالنسبة إلى السواد الاعظم “[1] هكذا نجت هذه اللجان من الفخ الذي كان يمكن أن يعقد حركتها ويفكك نسيج عملها ، لم تصنع لها قائدا بل كانت القيادة ميدانية وهذا المصطلح – القيادة الميدانية – لم يظهر في منشورات التجمع إلا بعد فبراير وهو الوقت الذي بدأت فيه خلايا الشارع بالتشكل و التكون تحمل كروموسومات الثورة ، إن هذه الثورة قتلت رمزية البطل أو المنقذ عندما كان الشارع هو الفيصل الذي يجعل منك أيقونة للحائرين وزينة للساهرين.

أهم ما قامت به هذه اللجان هو إعادة تشكيل الذات التي لعبت الدولة على تشكيلها على مر الثلاثين سنة الماضية عبر برامج التعليم و الوسائل التي تمتلكها السلطة فسيطرت على عملية التفكير كأولى المراحل التي يمكن لها عبرها التسلل إلى داخل كل فرد كما يتسلل الماء عبر فجاج الصخر ،ومحاصرة عملية التفكير هي مهمة نظام التعليم “الذي هو على علاقة معقدة بنظم أخرى ومقولات في غاية القوة مثل : التربية ، الأسرة ، المجتمع ….الخ .”[2] بما أن نظام التعليم في الثلاثين سنة الماضية قد أخذ مفهوم الرقيب على عقول المواطنين وأفقدهم ذاتهم التي من خلالها قد يعبرون عن (رفضهم) تجاه ممارسات النظام عليهم ، ويبرز السؤال الذي قد يكون بسيطًا في ظاهره معقدا في التفكير حوله (كيف استطاع هؤلاء الشباب الهروب من شرك السلطة تجاه ذواتهم ؟) يمكن الإجابة على هذا السؤال في مجلدات بآلاف الكلمات ولكني سأقوم باختصارها في كلمة واحدة (الخيال) “بقوة الخيال فقط ، استطاع نظام التفكير أن ينفلت مرات من رقابة السيطرة المطلقة للنظام “[3] أتاح الفضاء الأزرق الهروب لهذا الجيل بخيالهم نحو فضاء لم يكن ليظهر لولا تلك المساحة الاسفيرية ، فالمبادرات الفردية و الجماعية التي تنفذ وجدت حظها الوافر في المتابعة و التفاعل فكانت الثورة عدداً لا متناهياً من المبادرات الفردية و الجماعية خلقت حولها حالة إجماع وطني ، وبلورة مشروع ثوري لربما نشهد ميلاده في السنوات القادمة تتويجاً لتلك الانتفاضات الصغيرة .

 

المصادر:

[1] تأملات في العمل والسلطة – محفوظ بشرى – مشروع الفكر الديمقراطي – يونيو 2016 – ص30

[2] نفس المصدر السابق ص 29

[3] نفس المصدر السابق ص 31

حسان الناصر

كاتب من السودان
زر الذهاب إلى الأعلى