ثمار

الفَشَل الخلاّق

(حول تجربة ملف تخوم الثقافي)

إن المفارقة الجذريَّة التي تُواجهنا ونحن نطرح موضوع الملفات الثقافيَّة في الصحف للنقاش، كإحدى قضايا استمراريَّة العمل الثقافي في السودان*، أو بتعبير عبد الله أبسفَّة (الدوام لله)؛ هي أن الصحافة السودانيَّة بأكملها إنما وُلِدَت على يَدِ المحررين الثقافيين في مجلات (الفجر) و(النهضة) وغيرها كأول شكلٍ صحفيٍّ ظَهَرَ، وتكمنُ المفارقة في أن ذلك الشكل أصبح قضيَّةَ تهميشٍ واستبعادٍ واضحٍ للعيان حتَّى لتطُرح في منبر. ولكن، إن نظرنا إلى تلك المرحلة الحالمة ـ والتي استمرَّ حلمها عبر الأجيال إلى أن تشكَّلت الملفات الثقافية ـ نجد أن الإيمان الأصيل للمثقفين في ذلك الوقت كان يكمن في نشر المعرفة كسلاح أساسي ومبدئي لمكافحة الاستتباع والاستعمار الذي لم يتوقَّف إلى يومنا هذا، نسبةً بالتأكيد لهيمنة كوابيس الذين استلموا السلطة من بعد “جلاء الاستعمار” المزعوم، كذلك فإن الاستتباع والاستعمار هما السمات التي سَعَت وتسعى الدول، بما فيهم دولتنا السودانية، على الإبقاء عليهما، وسلاحها الأساسي هو التجهيل. وللأسف، حُمِلَ هذا التجهيل على يدِ من يُطلقون على أنفسهم صفة السياسيين، والذين خلقوا لنا، مشكورين، ما يُسمَّى اليوم بـ”الصحافة”، والتي تستبعد وتُهمِّش أصحاب أحلام نشر سلاح المعرفة دون وصاية على عقول الناس؛ تمليكهم سُبل المعرفة والمعلومات التي تستفز التفكير النقدي، والذي سيقود صاحبه، بأيّ حالٍ من الأحوال، لاتخاذ موقفٍ ما، بغض النظر عن محتوى ذلك الموقف. يُعيدني ذلك إلى بعض تعريفات إدوارد سعيد للمثقف بأن: (إحدى مهام المثقف هو بذل الجهد لتهشيم الآراء المقولبة والمقولات التصغيرية التي تحد كثيرا من الفكر الإنساني والاتصال الفكري). و أن (المثقفين هم تلك الشخصيات التي لا يمكن التكهن بأدائها العلني أو إخضاع تصرفها لشعار ما أو خط حزبي تقليدي أو عقيدة جازمة ثابتة) كذلك (ويعني تبني القيم الأشمل، إقداما على المجازفة في سبيل تجاوز اليقينيّات السهلة التي توفرها لنا خلفيتنا ولغتنا وقوميتنا، وهذه كثيرا ما تحجب عنا واقع الآخرين) ويقول: (مثل هذه الأفكار التي يمثلها المفكرون لن تجعلهم أصدقاء لذوي المراكز الرفيعة ولن تكسبهم الحفاوة والتكريم من الرسميين).

(1)

بعد هذه المقدّمة، ندخل مباشرةً في أسباب نجاح تجربة (تُخوم). أعتقد أن (الحب) هو السبب الأساسي في نجاح تلك التجربة، ولا شيءَ آخر سواه. الحب بتعدّد أشكاله ومستوياته واتجاهاته؛ حب المعرفة ونشرها، حب شعوب السودان وثقافاته المختلفة، حب الآداب والفنون، وأخيراً، والأهم، وبالتأكيد: حب الذات ..

الذي فاجأنا، وظلّ يوالينا بالمفاجآت، هو إقبال الكتاب والفنانين والمترجمين على الملف بطريقةٍ كثيفةٍ بعد توسّعاته إلى أن بلغ الثمانِ صفحات. ربما تضمنت الأسباب التي جذبت هذا الكم الهائل من المشاركين، والذين هم من مَنَحوا (تخوم) قيمته، المساحة التي أفردها رئيس تحرير صحيفة الأحداث، الأستاذ عادل الباز ـ وهي مساحةٌ مُستَحقَّة بجهدهم ومشاركاتهم ـ ومستوى التصميم والاهتمام بالنصوص والتحرير، ذلك ربما طمأن قلوب المشاركين المُحبِّة؛ المناسبات التي تناولها الملف والقضايا والتَذَكُّرات، الانتقال عبر ما يسمونه “الأجيال” المختلفة، الأسماء التي برزت بقوة ما تكتب عبر الملف .

هنالك عنصرٌ آخر وهو أن الفترة الزمنية التي صدر فيها الملف كانت فترة تجمّعات سبقت وجود الملف بسنواتٍ قليلة. وأعني بـ”فترة التجمّعات” أن هنالك عدد من المحررين الثقافيين ابتدروا عملهم في التسعينات تحديدا، وهي الفترة التي تقحَّلت فيها المعرفة وتجفَّفت وأصبحت الملفات الثقافيَّة هي المنفذ الوحيد لها، فكان أن توهّجت ملفات عديدة أتاحت لي ولعددٍ من الكاتبات والكتاب، فرصة النشر منذ الجامعة. ثم أتى زمنٌ طُرحت فيها مشاريع المجلات الثقافيَّة التي لم تنجح، والمنتديات التي انتهت سريعا، وأسهم فيها أُناسٌ كالشاعر الصادق الرضي ـ والذي تعلّمت على يديه التحرير الصحفي بملف (السوداني الثقافي) ـ ومحررين كأسامة عباس وعثمان شنقر وآخرين. جاء ملف تخوم عَقِبَ هذا الزخم بتفاني عدد من المحررين الذين ارتضوا القليل القليل من المال مقابل الجهد الجبَّار الذي بذلوه قبل التحاقهم بالملف: بتسلّحهم المستمر ومحبتهم للمعرفة. وبعد انضمامهم للملف: بتعلّم واجتراح أساليب وقوالب تحريريَّة حديثة ومبتكرة؛ وأذكر هنا تجارب أحمد النشادر ومحفوظ بشرى الرائدة في ابتكار هذه الأشكال .

إضافةً إلى ذلك، حسب اعتقادي، أن هشاشة الخطاب السياسي لَمِسَت درجة الذوبان، مما تسبب في إفلات أقلامٍ كثيرة من مهنة (الدعم السياسي والآيديولجي للأحزاب) التي كانت سائدة في القرن العشرين؛ الإفلات الجماعي الضخم الذي تصاعدت وتيرته مع تفجّر الثورة التكنولوجيَّة وانتشار المعرفة في الفضاء، ونتمنى أن ينتهي بخرافة الأحزاب ودولهم إلى الأبد في مستقبلٍ ربما عشناه .

(2)

وقبل الدخول إلى بندنا الأخير، وهو أسباب فشل المبادرات الثقافيَّة متمثلةً اليوم في الملفات، أريد أن أُلقي برأيٍ ربما بدا غريبا للوهلة الأولى؛ إنني لا أرى في الفشل والانهيار أية شبهةٍ سلبيَّة، خصوصا بعد التجارب التي مررت بها داخل عددٍ من المؤسسات والمبادرات الثقافية: مركز عبد المجيد إمام الثقافي، مبادرة (برانا) للنشر، نادي الشعر السوداني باليونسكو، المجلة الثقافية التي طرحها الصادق الرضي، ملف (تخوم) الثقافي، والآن جماعة (عمل) الثقافيَّة المستمرَّة إلى يومنا هذا، والدوام لله؛ لا أرى شبهةً سلبيَّة، رغم أن عنوان هذه الندوة يقول، ضمنيَّا، أنه فعلٌ سلبي (العمل الثقافي: إشكاليات الاستمرار). إنني أنظرُ إليه كعمليَّة (التصفيَّة)؛ وإذا وضعنا الانهيارات التي حدثت بسبب الظروف الماديَّة، فإن انهيار مشروعٍ ثقافي لخلافٍ نَشَب بين أعضاء المبادرة فذلك لأن الحب اللازم لم يكن متوفّراً، أو، بعبارةٍ أدق، لم يمتلك ذلك الحب خبرةً لازمةً وحكمةً أبدا. إن احتكاك العاملين في هذه الحقول المستمر، وإصرارهم على اجتراح المبادرات ـ حتى وإن فشلت ـ هو ما تجب الإشادة به ابتداءً. أرى أن تأسيس حركةٍ ثقافيَّةٍ مؤثرةٍ إنما يَنبَعُ من إنضاجها بنار الفشل الحارقة والمحزنة، إنه التعليم بالنار؛ نار الحب والغيرة. وأرى أن آن الأوان لهذا التأسيس طويل النفس، والذي لم ينقطع، ولن ينقطع. إن الفرصة متوفّرة اليوم أكثر من أي زمانٍ آخر، وليس في السودان فقط، بل وفي العالم. وربما كانت تسميته بـ(حركة ثقافيَّة) هو، كذلك، من مخلفّات الماضي، من يدري ما الذي ستنتجه اللغة ؟

(3)

تتلخّص أسباب انهيار ملف (تخوم) الثقافي في موضوعةٍ تتشعَّب، وهي (الزَهَج)، إنه مما يدعو للزهج والإحراج أن يُطالب المحرر الثقافي كاتبات وكتاب صفحته بالمشاركة دون مقابل (رغم ضعف راتبه). بالنسبة لي كان المبرر، ولا يزال، أن لا مفر من الصبر على هذه المكاره الماديَّة، ولا أقول ذلك لأنتقص من حقّ الجميع في مقابلٍ لجهودهم المقدّرة، ولكن يُشبه الأمر فِعل (النفير) هنا. فالهدف هو (الإنقاذ) ـ يا للسخرية ـ وهو ما حدث في حالة ملف تخوم؛ حدث نفير مستمر لسنوات شارك فيه مترجمون كبانقا الياس وصلاح محمد خير والكردي وأحمد الصادق وعمار جمال، وغيرهم كُثر، بترجمة الأعمال والحوارات والنصوص والفلسفات إلى العربيّة، أغلبها مُعاصرٍ تُرجم لأول مرة، ودون مقابل، ترجمات من جميع القارات ابتداءً بقارتنا. هذه الترجمات أسهمت في ربط القراء بالعالم الذي فُصلوا عنه فصلا. إن الاطلاع على تجارب الشعوب الأخرى هو عملٌ جليلٌ يُفتّت خرافات الهويات المتحاربة والمتنازعة التي وقعنا في براثنها، ويُقارب تجارب الأفراد في المجتمعات من جميع أنحاء العالم. إن الذي يُميّز العمل الثقافي عن بقيّة الأعمال أنه يُسلّط الضوء على تجارب الأفراد؛ آلامهم وأحزانهم وأفراحهم وكوارثهم، إنّه، كما قال سيدنا إدوارد أعلاه، (يعني تبني القيم الأشمل، إقداما على المجازفة في سبيل تجاوز اليقينيّات السهلة التي توفرها لنا خلفيتنا ولغتنا وقوميتنا، وهذه كثيراً ما تحجب عنا واقع الآخرين).

نُريدُ أن ننظر إلى الكوارث بعينٍ مُختلفة: فالفيضانات والسيول ليست مياها دائما، ولكن عندما تختفي المكتبات من الوجود، هكذا، دفعةً واحدة؛ من المدارس والشوارع العامّة؟ أن تتلفَّت فتجد أن روايات الأدب اختفت من المناهج؟ أن تُصبح السينمات ـ بتعبير حسين ملاسي ـ مكانا يَصلح لسكنى الجن؟. أوليس العقل والقلب أعضاءً أساسيَّة في الجسد؟ لماذا يتم الاستهتار بأي خطابٍ يُواجه هذا الفيضان ويتم تمجيد الخطابات الأخرى التي تُخاطب البطن والدم؟ بالتأكيد لأنهما الأعنف ألما، ولكن، أليس من الواجب أن نُقدّم تحيةً لأصحاب سلاح المعرفة؟ لا بالتأكيد، لا كبيرة، هؤلاء بالذات هم الأشد فتكا وتدميرا للـ(الآراء المقولبة والمقولات التصغيرية التي تحد كثيراً من الفكر الإنساني والاتصال الفكري) كما قال سيدنا إدوارد، والتي من شأنها أن تُدمّر النظم الصغيرة التي تفتك بالجسد، والنظام العالمي الذي يتبناها. بل يجب تهميشهم باستمرار، والتقليل من شأنهم، وذلك يكفيهم !.

اخترع كلمة (كمثقفاتي) وانتهى الموضوع! أخبرهم بأن صفحاتهم لا يُطالعها سوى أصدقائهم في معهد جوتة وحليوة، أقنعهم أنهم لا يساهمون في توزيع أعداد الصحيفة، خَفِّض رواتبهم وضعها في الحضيض، نكّل بتضييعهم لزمنهم في (قراءة كتاب)، مارس عليهم أقسى أنواع السلطة ولسوف يزهجون، وقد زَهجنا إلى أن تركنا الصحف وفي أحيانٍ البلد ذاتها .

(4)

أختتم هذه الورقة، والتي كُتبت على عجالة وهي، بالتأكيد، قابلة للتعديل، بهذا النص القصير لصديقنا الشاعر هرمس: (أغضبوهم. سدوا عليهم فرج حياتهم البائسة وأغضبوهم. ازرعوا الشَكَّ في قلوبهم وحَوِّلوا النوم بين أعينهم لترابٍ وصديد. لوِّنوا وجوهكم بأزرق الإفاقة من الوهم، كَسِّروا شاشات أحلامهم المريحة، وانزعوا عن قلوبهم الأمل. اصفعوهم بكفوفكم الآن سيصفهم الرصاص، أحيلوا اللبن الفاسد الذي يجري في عروقهم المرهقة لدماء. سَخِّنوا القِدر الذي ينتظرون فيه أن يؤكلوا. ضعوا مقودهم في أيديهم الراجفة وعلموهم الحوادث. إنكم إن لم تفعلوا غَلَبهم الموت الحي، وساحوا في جحيمهم العاطلة يتبادلهم الأسياد بأسبقية الصحو عليهم. عذِّبوا عقول العامة. اخذلوا سهولتهم. تربصوا لهم في راحتهم و أفسدوا عليهم موتهم الرخيص).

                                                                                                                 17 سبتمبر 2013م

مأمون التلب

كاتب وشاعر وصحفي من السودان
زر الذهاب إلى الأعلى