جوكاستا
جوكاستا طويلةٌ وفقيرةٌ،وأنا طويلٌ وفقيرٌ.كلانا يغطس في الماء المسود من فعل الطمي إلى نصفه،وبأناملنا الطويلة الرشيقة،نتحسس الأسماك المرعوبة التي تقبع في ظلمة الطمي. الطين اللازِب يخنق الأسماك ويُصعِّب عليها التنفس ويغطي أعينها الصغيرة الحساسة، فتصبح عمياء،فلا ترى أيدينا وهي تتربص بها الدوائر، فنقبضها بكل سهولة.تقاوم بعض الشيء، تستميت في الخلاص. تقاتل بلزوجة جلدها وبأشواكها السامة المؤذية،ولكن جوعنا وشهيتنا كانتا السلاحان اللذان يقاومان وخز الأشواك ورعونة الأسماك وشيطانية السم، ومكر اللزوجة.
جوكاستا وأنا طفلان، لا أدري كم عمرنا ولكننا بكل تأكيد قد عبرنا النصف الآخر من عشرتنا الثانية،فليست لنا شهادتا ميلاد، ولو أنها تبدو أكبر مني عمراً، نسبة لنمو جسدها بصورة تفوق نمو نضجها وعقلها، فكنا أطفالًا. أنا طفل بجسد طفل وعقل رجل، وهي طفلة بجسد فتاة ناضجة وعقل أنثى.وكنت أتحسس تلك الفروقات عن طريق النظرات الخبيثة والجمل الداعرة التي يرميها عليها بعض الرجال الناضجين هنا وهنالك،بل حتى أمها التي كانت تصرخ فيها دائما بأن تغطي: “شطورك العاملة زي القربة.” فكيف تغطي جوكاستا صدرها ولا تستطيع أمها أن تشتري لها ما يستر نهديها الكبيرين!! أنا لا يهمني جسد جوكاستا،لم يثرني بل لم أنتبه لوجوده في الأصل،تهمني أكثر مغامراتنا اليومية،التي ما كنا نخوضها من أجل المتعة،بل من أجل توفير مايملأ بطوننا الصغيرة الفارغة او من أجل أن ننجو من الشرور:الشرور التي أسرنا جزء أصيل منها،جوكاستا وأنا لا نشعر بالأمان.
تحصلنا على جوالين كبيرين من الأسماك.لم نكن نختار نوع الأسماك،كما يفعل بقية أهل القرية المترفين،الذين ما جاءوا لصيد الأسماك إلا كنوع من الاحتفال السنوي بالصيد المجاني السهل وتزجية الوقت ومشاهدة ثورة النهر السنوية،جوكاستا وأنا أتينا من أجل الأسماك،بالتالي كل ما نستطيع صيده هو يمثل قيمة لنا، ولو أننا نفضل أسماك البياض نسبة لقلة أشواكها وضعف مقاومتها.على ظهر حمارة أمي السوداء حملنا الأسماك إلى بيتنا، وفي وسط فناء دارنا الشاسعة التي تخلو من المباني الداخلية سوى حجرة مبنية من المواد المحلية وكوخ صغير يستخدمه أبي كمخزن لبعض المشغولات. وضعنا الأسماك على جوالات الخيش. وغسلناها في طست كبير بالماء العذب ثم أخذنا كل الملح الذي في بيتنا وبيت أسرة جوكاستا، ونسبة لأن الملح لم يكن كافيًا، ذهبت جوكاستا إلى دكان سعدون ثم عادت بجوال صغير من الملح وثديين محمرين وشفة متورمة.أنا توقفت عن الذهاب إلى دكان سعدون بعد أن أدمى العجوز قبل سنتين فتحة شرجي. جوكاستا لا تهتم.
حشونا الأسماك بالملح جيدا، تركنا قلة منها لكي نطعمها طازجة، حشونا خياشيمها وأحشائها بالملح، نثرناه على جلودها ومن ثم لففناها بالخيش جيداً في مجموعات حسب نوع الأسماك.حفرنا حُفرة شاسعة مثل القبر في وسط البيت،في الأرض الرملية الدافئة،ثم وضعنا كل شيء في القبر ملفوفا بالخيش، وأهلنا عليه الرمال.
تحتاج الأسماك إلى شهور كثيرة لكي تصبح فسيخا ناضجا، ونحن صبوران جداً، نفعل ذلك كل عام في صبيحة فتح أبواب الخزان من أجل تصريف الطمي، ونجني ثمار صبرنا لاحقاً، فضيلة الفقر أنه يجعل الانسان صبوراً جداً، وربما الفقر هو من صنيعة الصبر أو أحد ابناءه البررة. جوكاستا وأنا طفلان، بيت أمي وبيت أمها متجاوران، أبوها وأبي يعملان في موسم الحصاد في المشروعات الزراعية المجاورة لأثيوبيا، أما في الموسم المطير فهما عاطلان ويقومان ببعض المهن الهامشية كعمال مباني أو يصطادان السمك، أبوها ماهر في تنجيد السرر البلدية وصناعة شباك صيد الأسماك، أبي يعمل معه أحياناً. كلاهما لا يتعاطى الخمر أو التمباك لا يدخنان ولا يشربان المريسة ولا يصليان ولا يصومان وأبي دائماً ما يشكك في وجود الرب، لذا يُلقب في القرية بإبليس: أبي وأبوها صديقان حميمان. جوكاستا وأنا صديقان حميمان أيضاً، أمها وأمي صديقتان لدودتان، تتشاجران كثيراً،ولكن تقتسمان الطعام على قلته والماء والنار. قالت لي ذات مرة جوكاستا إن أمها تظن أن أمي تعشق أبيها سرا، أنا لا أظن ذلك لأن أمي أجمل من أمها، ربما الشيء المشترك بأمي وأبيها، أنهما مؤمنان بالله ورسوله،وأبي يعلن كفره وقتما وأينما وجد فرصة لذلك.جوكاستا وأنا ربما كنا في نفس العمر ولكن مما تظنه أمها وأمي أننا رضعنا من ثدي واحد،وهو ثدي جارتنا فاطمة بت بشير،لأن فاطمة بت بشير أرضعت تقريباً كل أطفال الجيران مع أطفالها،بل يُقال إنها أرضعت أيضاً عنزة يتيمة من ثدييها وقطتين: إنها أم كل شيء وبشر.
لم أكن أعرف ما حصل بالضبط لجوكاستا، أو أنهم لم يدعوني أعرف ذلك، أو أنهم أخفوا عني ما حدث لجوكاستا، أمي قالت :
– أخذها والدها إلى حبوبتها.
– وين حبوبتها؟
– في بلد بعيدة.
– وين يعني.
– ما عارفة.
بالطبع لم أنس أنه ليس لوالدها أسرة أو أنه لا يمكن ان يذهب لأسرته، يُقال إنه جاء للشرق هاربا من العدالة والثأر، يقولون إنه ارتكب جريمة قتل شنيعة قبل سنوات كثيرة، ربما في صباه، وأن أهل المقتول يطلبونه للثأر منه، والقضاء يطلبه للعدالة.
حدث اختفاء جوكاستا قبل يوم من ميقات نضج الأسماك المدفونة، كما خططنا له أنا وجوكاستا، حيث أنها تكمل شهورها الستة في قبرها الرملي. أخذت أحفر قبر الأسماك وحدي، كانت رائحة الفسيخ طازجة جدا، واتخذت الأسماك اللون الذهبي، كانت جافة تماما، ولم يعد للملح أي وجود ظاهري إنما أصبح جزءا من تكوين الأسماك. أمي ساعدتني في وضعها على سلة كبيرة حتى نحفظها من الذباب الذي بدأ يتجمهر من كل فج عميق وضحل حول قبر الأسماك، قالت لي: إذا حط الذبابُ على الفسيخ سيتحول الى دود.
– هل ستبيعه؟
– نعم، سأبيعه وأرسل القروش إلى جوكاستا،تكون محتاجة لها،أو سأشتري فستاناً وحذاءً وأرسلهم لها.
قالت لي أمي بتأثر :
– جوكاستا بعيدة،مع جدتها،وهي لا تحتاج لأي شيء هنالك، جدتها ثرية.
في المساء،عندما عدتُ من السوق،كان في جيبي مبلغ كبير من المال، أعطيتُ أم جوكاستا نصفه،وأعطيتُ أمي النصف الآخر،ثم ذهبت إلى النهر،كنتُ حافي القدمين كعادتي منذ أن أضعت حذائي البلاستيكي على شاطئ النهر ذاته، كنت حزينا جدا. منذ أن استيقظت في الصباح الباكر وهرولت إلى بيت الجيران ولم أجد جوكاستا هنالك، وقالت لي أمها: ذهبت جوكاستا إلى جدتها.
النهرُ كعادته هادئ، والآن قد أصبح ماؤه شفافاً كما هي الحال في الصيف،وسيتحول في شهر يوليه إلى برك صغيرة.خلعت جلبابي المهترئ وتركته في الشاطئ وفي لُباسي الداخلي المصنوع من الدمور أخذت أسبح، ليس لأعبر النهر،بل أخذت أسبح على طول النهر،مع التيار الخفيف. ليست هنالك وُجهة أنوي الوصول اليها، فقط كانت لدي رغبة في المضي بعيدا، إلى أبعد ما يكون، وكلما تعبتُ أخرج الى الشاطئ أجلس قليلاً، ألتقط أنفاسي، أتأمل المكان حولي ثم أواصل السباحة إلى حيث لا منتهى. عندما صرتُ جائعا جدا ومرهقا وغابت الشمس وأطبق الظلام على الماء والهواء والأرض والسماء، قررت أن أعود إلى البيت، وحيث لا يمكنني السباحة ضد التيار،فعلي أن أعود راجلا على اليابسة. بالطبع أنا أعرف المكان جيدا، أعرفه مثل كف يدي. خرجتُ إلى الشاطئ واتجهت جنوبا نحو القرية،أنا لست جباناً ولا أخاف من شيء،فليس لدي ما أخسره، فكل ما كنتُ أمتلكه في هذا العالم ويمتلكني: جوكاستا. الآن لا أمتلك شيئاً ولا يمتلكني شيءٌ، لذا لم تخفني أشباح الليل لا ثعابينه أو هوامه ولا كنت أخشى الضياع. الشيءُ الوحيدُ الذي كنت أتجنبه هو الآبار القديمة المهجورة التي تقبع في مكان ما قريبا من النهر. لا يدري أحدٌ من الذي حفرها هنالك ولماذا، ولكنهم يقولون إنها بئر الانجليز، كانوا لا يشربون من النهر ولكن من ماء آبار يحفرونها على الشاطئ، ثم كما يقول الناس في القرية إن بها بعض الأسرار،ولا أحد يدري ما هي طبيعة تلك الاسرار،ولكن ما يتفق عليه الجميع أن أرواح الجنود الانجليز المقتولين أثناء الحرب جميعها تسكن في هذه الآبار، يسمع الناس عادة صراخها في الليل. المهم في الأمر أن لا أحد يقربها لا ليلا ولا نهارا. القرية تبعد عنها زهاء الخمس كيلومترات.لا شيء علي الحذر منه غير تلك الآبار،لا أريد أن أموت مُختنقا،هذا كل ما في الأمر.
بعد مسيرة ما يقارب نصف الساعة، أعلى شاطئ النهر، سمعتُ الصوت للمرة الأولى،كان واهنا وأشبه بأنين كلب جريح، ثم أخذ يعلو كلما توغلت في المكان، نعم هي أرواح الجنود وصراخهم الواهن، لا أدري لماذا يصرخون، وقد جاءوا للقتال بأنفسهم،وكانوا يعرفون أن من يقاتل سيقتل، ما يفيدني من أنينهم هو معرفة موقع البئر حتى أتجنبها، حيث لم تكن للآبار أسيجة أو حواجز ولا شيء يميزها عن سطح الأرض، ويُقال إن الكثير من الحيوانات والبشر من المارة الذين يجهلون مواقعها قد سقطوا في داخلها وماتوا، ولم يجرؤ أي شخص أو الحكومة نفسها على إخراج جثامينهم، وتُركوا إلى أن تنفخ الملائكة في الصور إيذانا بيوم القيامة الذي يخرج فيه الموتى من أينما قبروا، حيث تتجمع عظامهم ويكسوها اللحم والشحم ليرسلوا للجحيم أو الجنة كل حسب عمله في الحياة الدنيا.
أنين الجندي الإنجليزي أصبح أكثر وضوحا، ولكن ما يحيرني فعلاً أنه يطلق بعض الجمل الكاملة، لم تكن بلغة الفرنجة، بل كانت باللغة العربية المحلية التي نتحدث بها في القرية، ولم يكن الصوت صوت رجل، بل كانت امرأة، ولم ينادي الصوت المجهول، بل كان يكرر اسماً واحداً، أعرفه جيداً وهو اسمي أنا بالذات: عبدون. نعم إنه صوت جوكاستا. لم أتردد للحظة واحدة، لم أخف، لم أتشكك، صرخت بأعلى ما لدي من صوت: جوكاستا.
صمت الأنين فجأة، عم المكان سكونٌ رهيب، لزمن بدى لي كما لوكان الدهر كله، ناديت وأنا أنظر لعمق البئر المظلم:
– جوكاستا.
ردت بصورة جلية :
– نعم، أنا هنا يا عبدون، الحمد لله إنك سمعتني.
– دخلت كيف؟
– أبوي رماني هنا.
– خليني أشوف حبل وأرجع عشان أطلعك.
– لا لا ما تمشي، أنا خائفة.
أمي كانت تقول لي الخواف لا يفكر بعقله، وأنا رجل شجاع، علي أن أفكر بعقلي، على الرغم من أنني تركت المدرسة منذ الفصول الأولى، نفس الأسبوع الذي حُرمت فيه جوكاستا من الذهاب للمدرسة، لكبر ثدييها، كما علل والدها. ولكننا تعلمنا كل شيء من الشارع، حسن التدبير ورجاحة العقل وفهم الحياة والبشر والشر والخير. فالمدرسة لا تعلم البشر غير الثرثرة. فهرولت إلى القرية، كان أبي نائما، وحدُها أمي مستيقظة تنتظرني، أمي هي جيشي الوحيد، سألتني بشغف:
– وين تأخرت، قلقت عليك؟
– كنت في البحر!
صاحت ثائرة في غضب:
– مش قلنا ليك ألف مرة ما تمشي للبحر بالليل، إنت ولد مجنون؟
لم أجبها، ذهبت إلى سريري في الفناء حيث أن أمي دائما ما تعده لي بعد مغيب الشمس، وادعيتُ الإرهاق الذي كنت فعلا أعاني منه،ثم اضجعت على السرير وادعيتُ النوم، إلى أن تأكدتُ بأن أمي قد ذهبت في سبات عميق، نهضتُ بخفة القط، ونفذتُ خطتي التي كنت قد أشغلت فيها ذهني طوال الطريق من البئر إلى البيت.
كان أبي يحتفظ بالشِباَك التي يصنعها وهو وصديقه والد جوكاستا في الكوخ الصغير قريبا من مدخل الدار. لم يكن أخذ الشبكة والحبال بالشيء الصعب، ولكنني أحتاج للنقود ايضا، أحتاج لكثير من النقود. والحصول عليها على حسب خطتي يحتاج لعمل شاق وسريع: النقود في بيت سعدون، الذي أدمى فتحة شرجي قبل سنتين، وربما أدمى شروج كل أطفال الحي الفقراء الذين يتشهون الحلوى وملمس قطع النقود الصغيرة. سعدون رجل كبير في السن لا أعرف كم عمره، يسكن وحده في بيت من الطين حوله سياج شاسع من أغصان الأشجار الشوكية الجافة، وتنمو في فناء داره أشجار الجوافة والبرتقال والمانجو. سيكون نائما في حجرته الطينية، ويقبع كنزه تحت اللحاف الذي يرقد عليه. ولأن الشبكة ثقيلة الوزن، قلت لنفسي: ابدأ بسعدون، فلأحصل على الكنز أولا.
حملتُ معي مِصباحا كهربائيا صغيرا، يخص سعدون وجدته قرب جثته الطازجة المسجاة على سريره الخشبي الكبير. ساعدني المصباحُ كثيراً في تلمس طريق العودة نحو البئر. ربطتُ نهاية الشبكة على شجرة النيم الوحيدة التي تنمو على حافة البئر، وفي وقت قليل وبسهولة استطاعت جوكاستا أن تتشعبط على الشبكة مثل القط، ثم مددتُ لها يدي عند الفوهة وانتشلتها. احتضنا بعضنا لوقت طويل جدا، ثم أخذنا في البكاء،وأظنني لأول مرة أبكي في حياتي كلها. فوالدتي تؤكد دائما أن البكاء للنساء فقط، ولكنني أيضا لم أر أمي تبكي، بل شاهدتُ أبي يبكي أكثر من مرة،بل كان يبكي دائماً، يبدو أنَّ أبي كان غضبانا من شيء ما، إنه غضب أبدي،غضب لا يستطيع الخلاص منه، إنه غضبان من قوة لا يستطيع مقارعتها،فيبكي حرقة على عجزه، سألتُ أمي مرة ، لماذا كان أبي يبكي،وأنت تقولين لي إنَّ البكاء للنساء، قالت لي،إن بكاء أبي ليس البكاء الذي تبكيه النساء والأطفال أو غيرهم من بشر وحيوانات،إنه بكاء أبيك وحده،أبوك يبكي لكي لا ينفجر الغضب في كبده ويقتله، فسألتها، ممن أبي غضبان، قالت وهي تستغفر ربها وترجو المغفرة لها ولوالديها: أبوك غضبان من الله.
نمنا على شاطئ النهر، قريبا من الكبري القديم. في العراء. حكت لي قصتها كلها، وكيف أن أبيها أراد قتلها لأنه عرف أنها حامل سفاحا،وأنه ضربها في بطنها عند حافة البئر إلى أن نزفت وظن أنها ماتت،ثم ألقاها في البئر،ولحسن حظها لم تكن هنالك كثرة من الماء بل كان قاع البئر مشحونا بالطين والرمل.
– وهل كنت حاملاً؟
منذ شهرين لم تأتها الدورة الشهرية، ففحصتها والدتها وعرفت أنها ليست عذراء، فتيقنت بأن جوكاستا حبلى، أخبرت والدها مباشرة، ليحل الأمر مع سعدون ويتزوج البنت، إلا أن سعدون نكر كل شيء، وأخبر أبيها بأن بنته مشاع للجميع وأن الأب وحده الذي لا يعلم ذلك.ولكن جوكاستا اعترفت بأن سعدون يمارس معها الجنس منذ أن كانت طفلة لم تبلغ الحلم وأنها لا تعرف شخصا غيره، مقابل المال والحلوى وبعض الأغراض الصغيرة، فغضب الأب وأراد التخلص منها خوف الفضيحة. قالت لي بهدوء:
– عايزة أقتل سعدون.
قلت لها بقدر المستطاع من الهدوء:
– وجدته ميت، وانا شلت قروشه كلها، ربما يكون أبوك قتله.
صمتت لوقت طويل. كان ضوء الشمس قد أنار وجهها تماما في ذلك الصباح الباكر، استحممنا في ماء النهر البارد، كانت شبه عارية ومرهقة، قلت لها :
– نمشي.
– نمشي وين؟
– إلى الحبشة.
قالت بإصرار مرعب:
– ما أمشي لأي مكان إلا بعد أن أقتل أبي
قلت لها:
– أبوك برضو مات.
قالت بصوت منخفض مخنوق وكأنه الهمس:
– منو الكتل أبوي؟؟
– لا أعرف، ولكنني وجدت أبوك وسعدون ميتين!
عبرنا النهر سباحة وعلى رأسي حقيبة من البلاستيك مملوءة بالنقود وبعض الأشياء النفيسة، فلقد كان سعدون مغرما بشراء الذهب والمشغولات النادرة من النساء الفقيرات وأصحاب الحاجة، بأسعار بخسة مستغلا حاجتهم للمال. وفي الحقيبة أيضا كنت أحتفظ بمدية غسلتها جيدا من دم القتيلين.
جوكاستا سباحة ماهرة وأنا أيضا، عبرنا نهر سيتيت الهادئ الحنون. مضينا في خطى سريعة نحو الشرق، كان ضوء الشمس الساطع يجهر أعيننا، ولكنه لم يمنعنا من الغناء، جوكاستا تحب الغناء وتسلق الأشجار؛وأنا أحب جوكاستا.
فيينا 12-6-2020