يوم حالتْ ألوانُ الفراشة
![](/wp-content/uploads/2020/09/raniamamoun2.png)
كان نهاراً أصفراً، الشمسُ فيه تبرز سطوتها كما لو أنها تتَّحدى سطوةً أعلى. كنتُ فراشةً ملونةً، هشَّة وسهلة السَّحق، ولكني سعيدة وخفيفة من الهموم. جئتُ إلى سطح الأرض قبل اثنتي عشر سنة، لا تاريخ أأسى عليه ولا قلق على غدٍ لم يأتِ بعد. ذلك اليوم كنتُ أرتدي إسكيرت أزرق وبلوزة بلونٍ وردي فاتح، وشبشب بلاستيكي بنفسجي عليه زهور صغيرة بالأحمر، اشترته لي أمي قبل يومين، وذلك بعد أن انقطع شبشبي القديم وأنا أجري هرباً من كلب الجيران وهو من الكائنات الغاضبة طوال الوقت، والذي هاجمني في طريق عودتي من الدُّكان حاملةً حليب المساء، فاندلقَ الحليبُ وانقطع الشبشب وأنا أحاكي الفهد في السُّرعة.
في ذلك النَّهار الأصفر، سرتُ في شارعٍ واسع، أحتضن دفتري وكتاب الرياضيات الكبير، وما زال جسدي نديَّاً بالماء، كنتُ قد تحممَّتُ للتو، وكانت النَّسمات القليلة الحارَّة، التي هي أنفاسُ الشَّمس، تهبُّ ملامسةً سطح جلدي تشعرني ببعض الانتعاش، تشعرني بأن حركةً في الجو ترافق خطواتي الوحيدة في الشارع. الشوارع صامتة؛ تبدو حزينة من الهجران. الكل مختبئ في ظلٍّ ما، غرف أو شجر أو (رواكيب) حتى الكلب الغاضب اختفى من الشارع. الكائن الحيّ الوحيد في الشارع كان معزة نحيلة، تحكُّ جسدها على الحائط وتتدثر بالظلِّ الشَّحيح النِّحيل مثلها، ولم أعرف إن كانت تلتصق بالحائط من أجل الظلِّ أم حكَّةٌ ملَّحةٌ داهمتها في منتصف طريقها إلى مكانٍ ما. عدا المعزة، كنتُ وحدي مثل تلك العين المفتوحة وحيدة الحضور في السَّماء. أسيرُ من الغرب إلى الشرق حيث يقع البيت الذي أقصده في ذات الشارع.
من المفترض أن تبدأ امتحانات نهاية العام بعد أسبوع. كان أبي يريد أن يفرح بنجاحي، جَدَولَ لي دورساً إضافية في الرياضيات منذ أسبوعين مع صديقه وجارنا الأستاذ الذي يقصده كثير من تلاميذ الحي وحتى الأحياء المجاورة.
عندما وصلتُ البيت، وجدتُ الجارة تنشر الغسيل على الحبل في الحوش الواسِّع، سلَّمتُ عليها فابتسمتْ ابتسامةً واسعة، وأخبرتني أن سلوى صاحبة البيت سافرت إلى قريتها لتأدية واجب عزاء، وأنها تستخدم حبل غسيلها لأن حبلها في البيت امتلأ وأرادت أن تتخلص من هذا الغسيل الكثير بأسرع وقت.
حضنتُ كتابي أكثر، ودخلت البرندة حيث يضع الأستاذ لوحاً أسودَ كبيراً والعديد من الكراسي مقابله. يدِّرس في فصله المنزلي هذا مجموعة من التلاميذ والتلميذات. من البرندة دلفتُ إلى الغرفة التي كان يشرح لي فيها دروس الرياضيات عادةً أنا وحدي، ومن أجل صداقته مع أبي يريد أن يعطيني دروساً مكثَّفة.
حوتْ الغرفة سريرين متقابلين أحدهما بالقرب من الشباك المطلّ على الحوش، ومكتب به كرسيين، كرسي في وسطه وآخر بجانبه بالقرب من الباب حيث أجلسُ عادة. في الحائط المقابل لوحة كبيرة لطفل تنحدر على خده دمعة. كنتُ أسرح فيها كلما أعياني متابعة ما يقوله الأستاذ، أتخيَّل سبب بكاء الطفل وأراني أمدُّ يدي لمسح دمعته اليتيمة. السَّفر في الأشكال والألوان كان أكثر إمتاعاً بالنسبة لي من تعقيدات الأرقام الغامضة كلغة الطير.
في المدرسة أثناء حصص الرياضيات كانت تداهمني رغبة عارمة في رؤية الألوان، فكنتُ أخرج علبة ألواني التي لا تفارق حقيبتي أبداً وألوِّن الكتاب راسمةً طيوراً وأزهاراً ونباتات بدلاً عن الأرقام والمعادلات. وأحياناً كنتُ أرسم المعلمة المتزمتة التي لم أرها تبتسم مطلقاً، فأضع لها أحمر شفاه على ثغرٍ مبتسم، وأبتسم.
في ذلك النَّهار الأصفر، داخل الغرفة وفي منتصف الشرح، توقف الأستاذُ عن الكلام، بدأ صوتهُ يرتجف. ظننتُه لَحِظ عدم انتباهي، بسرعةٍ أبعدتُ عيني عن اللَّوحة وغرزتهما في الكتاب ملتفةً داخل خجلي، تمتمتُ بصوتٍ خفيض: آسفة!
كالبَغْتة، أمسك بي وبدأ في أكل شفاهي. ذُعرتُ، قفزتُ واقفة وأردتُ الخروج من الباب القريب، أمسكني، حاصرني وواصل في أكلي. كنتُ أحاول الصُّراخ لكن صوتي كان يخرج إلى فمه الواسع فيلتهمه. كنتُ أسمع صوتي كتيماً مثل صوتِ الواقع في بئر. اختنقتُ. شعرتُ برغبة في التقيؤ، قرفٌ كان يتجوَّل في معدتي يصعد ويهبط كما لو أني ابتعلتُ قطعة خراء.
كنت أصارعه محاولة الإفلات من قبضته القوية، بدأت بالتلِّوي كقماش حزين أنهكه الزمن، لكنه في كل مرة كان يزداد قوة ويحيطني تماماً بكامل جسده. انخلع شبشبي من قدميّ، تلويتُ بسرعٍة قطة مفزوعة، وأخيراً استطعت أن أجعله خلفي وأحني رأسي بحيث أحرَّر شفتيَّ منه.
وطئت قدمه الكبيرة بشبشه الجلدي ذو الأرضية الغليظة على قدمي اليمنى، جُرح أصبعي وشعرت بألمٍ لاذع سرى فيَّ سريان نار في حقل جاف، لكني رغم الألم النَّاهض استطعتُ تحرير فمي منه. بدأ في هصر ثديي النابتين للتَّو بكلتا يديه وثبتني بساقيه الطويلتين. كنتُ أصرخ توقَّف، توقَّف! لكنه لم يكن يسمع، لم يكن ليتوقف. كانت أنفاسه على رقبتي من الخلف متلاحقة، حارة ورطبة كبخار قِدر أمي. وكنتُ بالكاد قادرة على التَّنفس، أتصيَّد الأنفاس واحداً واحداً بلهفةِ رملٍ تحت ماسورة مقطوعة عنها المياه.
كنت آمل أن تسمعني الجارة التي تنشر الغسيل، هل ذهبتْ؟ صرتُ أناديها، كانت أملي الوحيد. بتُّ أصرخ. وأصرخ. وأصرخ وهو يضغط ويضغط ويلتصق بي أكثر وشيءٌ كالعصا يضغط على مؤخرتي.
عندما علا صراخي المتواصل وضع إحدى كفَّيه على فمي، حينها تقيأتُ على كفَّه، لكنه لم يتوقَّف. إنما زاد هياجه أكثر. دفعني على السَّرير. تعثرتُ وسقطت على الأرض. حملني ورماني على السَّرير واستلقي فوقي. تمكَّن من فمي ومن ثديي، تمكَّن مني.
يداي لم تستطع دفعه. صوتي تكلَّس، لم يعُد يغادر حلقي. أصرخ داخل نَفْسي. كنت أسير في وحلٍ لزج كثيف، مع كل خطوة أغرق فيه أكثر. ثقُلت حركتي شعرتُ بأنَّ الرَّوح تُسحب مني رويداً رويداً. كأني خطوتُ في النوم، بدا كل شيء غير واقعي، عراء فسيح، منبسط لا حواف له، لا نتوءات للتشبث، كلٌّ واحدٌ، حركتي، صوتي، الأستاذ، أنفاسه، القيء، رائحته، دموعي، جسدانا، الشمس الساطعة، الجارة، حبل الغسيل، دمعة الطفل، السرير، الغرفة، الزمن. غدت كل ثانية كأنها دهر، وكل حركة دائرية الشكل معدومة الإيقاع كأنني داخل فيلم سينمائي بطيء وصامت رغم الأصوات الضاجَّة فيَّ إلا أنها غير مسموعة. بدأ في تعريتي، كنتُ قد توقفتُ عن المقاومة وانغلقت عيناي.