خطاب التضخم وسعر الصرف يضيف الإساءة إلى الأذى الإفقاري

في سياق تناول قضية التضخم فإن مصطلحات جشع التجار والمضاربين فارغة ولا معنى لها من وجهة نظر تحليلية كما يجب أن يعلم أي زلمة درس الاقتصاد لسنة أو سنتين. يبدأ أي تحليل اقتصادي جاد، وفي الواقع أي شخص واقعي، بقبول أن هدف أي تاجر أو منتج هو تحقيق أقصى الفوائد والأرباح التي يمكنه الحصول عليها داخل منظومة القيود التي يواجهها. هذا ليس مستغربًا. يفعل العمال والموظفون نفس الشيء، كل شخص يرغب في بيع قوة عمله للجهة التي تدفع أعلى أجر في وظيفة يراها مقبولة ولائقة. الأمر نفسه ينطبق على سيدة الشاي وعلى الجميع وهذه هي الرأسمالية.
الكل يبحث عن مصالحه وواجب السياسة العامة، بدلا عن الإنكار الطفولي، خلق إطار سياساتي عام يجعل السعي في طلب المصلحة الخاصة أيضا يصب في المصلحة العامة بطريقة ما ويتوافق معها. في كل الاقتصادات الناجحة السياسة الرشيدة تصنع إطاراً اقتصادياً وقانونياً يجبر التاجر، بدون الركون إلِى قهر بوليسي، أن يوفر السلع ويحسن فرص العمالة ويدفع الضرائب. وتفرض السياسة الرشيدة على الطبيب الباحث عن أمجاده الخاصة أن يوفر العلاج حتى لا يسافر المريض ويكلف نفسه والاقتصاد رهقا، وأيضا تعني أن هذا الطبيب يوفر فرص العمل للمساعدين والممرضين والمحاسبين والخفر ومهنيي المعامل ويدفع الضرائب ويساهم في تعليم طلبة الطب.
ولكن للأسف تعتقد حكومتنا أنه يمكن إدارة العملية الاقتصادية بـالإنكار والزجر والإدانة والتخويف وسن القوانين القرقوشية وإصدار النداءات الأخلاقية والمناشدات الوطنية ولوم الآخرين في الداخل والخارج على القصور الذاتي.
سبق أن ذكرنا أن أي سعر يحدده العرض والطلب. التضخم يحدث من ازدياد في الطلب لا تقابله زيادة في العرض. زيادة العرض تقلل التضخم وقلته تفعل العكس. والسبب الأهم في التضخم السوداني هو طباعة النقد التي تزيد الطلب لأن المطبوع منه ينزل السوق وهكذا يرتفع التضخم. علاقة الإنتاج بالتضخم أيضا بسيطة، كل ما زاد الإنتاج، زاد المعروض وقل السعر والعكس صحيح. أما لو تغير العرض والطلب معا، فإن صافي التأثير على الأسعار يعتمد على نسبية معدل الزيادة في هذين المتغيرين.
التضخم الذي يشهده السودان ليس سببه ضعف الإنتاج، لأن الإنتاج لا يضعف بصورة يومية بهذه المعدلات الفلكية. إذن كل هذه الضغوط التضخمية تأتي من جانب الطلب ولا شيء يغير الطلب بهذه المعدلات المشهودة غير طبع العملة وضخها في السوق بصورة راتبة.
في نفس السياق أيضا فالتضخم لا علاقة له بجشع التجار والمضاربين ولا بالمحتكرين.
إن ما يروج له خطاب الحكومة، وأهلها السابقين وصناع الرأي العام بأن التضخم لا علاقة له بانفجار الطلب رب رب وأن سببه الجشع هو المعادل لنظرية الإخوان التي فسرت المعاناة الاقتصادية لا بسياساتهم وإنما بالفساد الديني الذي أصاب الشعب. والنظريتان تتطابقان في كون الحكومتان تقومان بإفقار الشعب عن طريق إساءة استخدام مطابع العملة ثم تتهمانه بالفساد الديني والنفور من الله أو التباعد عن مصالح الشعب بـالفساد الجشعي. وهكذا تضيف الحكومة الإساءة بعد أن فاقمت الأذى الواقع على الشعب المقهور اقتصاديا، المخدوع تحليليا.
بداية مهم جدا أن تفهم ماذا تعني المصطلحات حتى ينضبط التحليل والنقاش والمحاسبة السياسية. إن مصطلح التضخم لا علاقة له بكون الأسعار مرتفعة، غالية أو منخفضة. التضخم تعريفا هو تغير الأسعار عن مستواها السابق بغض النظر عن كون المستوى السابق عالٍ أو منخفض، أو باهظٍ أو غير ذلك. لو اشتريت فنجان قهوة صغير في سويسرا مقابل أربعة دولارات، ولكن إذا اشتريتها العام المقبل بنفس السعر، فهذا يعني أن التضخم صفر رغم غلاء السعر. وإذا كان فنجان القهوة في بلد آخر يباع بنصف دولار وارتفع السعر إلِى دولار واحد، فهذا يعني أن معدل التضخم في ذلك البلد بـلغ مائة بالمائة رغم أن القهوة فيه ما زالت تباع بربع أسعار سويسرا.
فلو كنت تؤمن بنظرية الجشع لتفسير التضخم، عليك أن تصدق أن التجار السودانيين هم أكثر الناس جشعًا على وجه الأرض. وبما أن طبقة التجار هي جزء من الأمة، وهي طبقة متجذرة في نفس الثقافة والنسيج الاجتماعي ونظام القيم، فهذا يعني أن الشعب السوداني عمومًا هو من بين الشعوب الأكثر جشعًا في العالم. هذا بالطبع سخف كما يعرف كل غريب عرف هذا الشعب الذي هو عكس ذلك تمامًا ، فأهل السودان مشهود لهم عمومًا بالكرم والتكافل والعطاء.
لذلك من يؤمن بهذا التفسير الجهول والمسيء، فعليه أن يصدق أن التجار أنبل وأكرم، من السودانيين، في البلدان التي تنخفض فيها معدلات التضخم مثل الصين، وسويسرا، والولايات المتحدة، ومصر، والعراق، ومالي، والغابون، وأفريقيا الوسطى، وألمانيا.
وفي البلدان التي فيها التضخم سالبًا ، مما يعني أن الأسعار انخفضت بدلا عن أن ترتفع، عليه أن يصدق أن تجارها قد تحولوا إلى فاعلي خير وتبدلت شركاتهم وأعمالهم إلى جمعيات إنسانية. تشمل قائمة البلدان التي تحول فيها التجار إلى مانحي صدقات إريتريا وفيجي وقطر والبحرين وفلسطين واليونان وبنما وقبرص وإيرلندا وغيرها الكثير.
يعرف الكثير أن سويسرا ربما هي أغلى دولة على وجه الأرض. هناك فندق يكلف فيه الجناح اثنين وثمانين ألف دولار في الليلة، وفي آخر اكثر عادية تكلف غرفة ستة آلاف دولار في الليلة في مواسم معينة، وهناك قطعة خبز تباع بثلاثين دولارا وقارورة إسكوتلندي تكلف أربعة وثمانين ألف دولار، وساعة تكلف مائة ألف دولار، وأخرى تكلف مليون دولار- رغم أن هناك بدائل لكل هذه السلع تباع بأسعار مرتفعة نسبيا ولكنها ليست صادمة لهذا الحد. كما أن الراكب يدفع خمسين دولارًا لتاكسي عن مشوار بطول خمسة كيلومترات فقط. فالسويسريون جشعون للغاية، ويفخرون بذلك ويسخرون من أنفسهم رجوعا إلى هذا الجشع. ومع ذلك، فقد ظل التضخم في سويسرا على مدار سنوات عديدة تقريبًا على مستوى صفري، سلبيًا في بعض السنوات، وفي سنوات أخرى موجبا ولكنه منخفض للغاية، في حدود أقل من واحد بالمائة.
لكن من لا يشتري المنطق أعلاه، عليه تركه كله جانبا وأن يفسر ماهية الأسباب التي رفعت معدلات الجشع في السودان فلكيا، ماذا حدث لتجارنا؟
كان معدل التضخم في السودان في حدود 32 في المائة في عام 2017 ، و 63 في المائة لعام 2018 ، و51 في المائة لعام 2019. وفي شهر يوليو 2020 قفز إاى 144 في المائة وارتفع مرة أخرى إلى 167 في المائة في أغسطس.
لذا على من يؤمن بنظرية الجشع للتضخم، عليه أن يشرح سبب ارتفاع جشع التجار السودانيين أسياً ؟ ماذا حدث لهم؟ لماذا طار مقياس الجشع بنسبة 300 في المائة تقريبًا من عام 2017 إلى الربع الثالث من عام 2020. أو حتى لماذا قفز الجشعوميتر بأكثر من 200 في المائة بين عام 2019 وأغسطس 2020؟ أو حتى نحصر السؤال في شهر قريب ما الذي رفع معدل جشع تجارنا من 144 في المائة في يوليو 2020 إلى 167 في أغسطس؟
وإذا كان خطاب الإنقاذ ركز على أن التضخم سببه الابتعاد عن كريم الدين، كان الحل المنطقي هو مطالبة الشعب الفاجر بالعودة إلى الله. أما في العهد الحالي فإن إلقاء اللوم على جشع التجار، عمليا يعني أن التضخم ظاهرة نفسية تستدعي تعيين الدكتور بلدو لعلاج مرض التجار، بنفس الفعالية التي عالج بها ما أعتقد أنه انحرافات أخرى في اثني عشر دقيقة أو أقل – هذا إذا كنت ليبراليا رحيما أما لو كنت سلطويا أحمر العينين فيمكن التفكير في وضع التجار في حدهم بطريقة الحاكم بأمر الله الذي أطلق فيهم آلية العبد مسعود.
من ناحية أخرى ، أيضا الاحتكار – الذي يسمى عدم اكتمال الأسواق في الخطابات الأكثر تعتيما – ليس له علاقة بالتضخم. لمعرفة السبب، افترض أن السيد الكجير يتمتع بقوة احتكار كاملة. وهو الوحيد في البلد الذي يتحكم في بيع العدس. حين يبدأ كيف يحدد سعره؟ من الطبيعي أنه يضع السعر ليس على أعلى مستوى ممكن وإنما على المستوى الذي يحقق له الربح الأقصى، فهو تاجر يود تعظيم الربح وليس ساديا يبحث عن تعظيم ألم المستهلك. افترض أن الكجير اكتشف أن سعر 10 جنيهات للكيلوغرام يجلب له أقصى ربح لأنه يفهم في التفاضل والتكامل أو بالتجربة المصحوبة بذكائه المهني . هذا يعني أنه إذا خفض سعره عن عشرة جنيهات، فسوف ينخفض الربح، ولكنه أيضًا لو رفع السعر إلى 11 جنيهًا، فسوف ينخفض ربحه لأن المبيعات ستنخفض أيضًا. طالما أن ظروف العرض والطلب ثابتة، فإن زيادة السعر تجعل من السيد الكجير محتكراً غبياً وليس جشعاً وسرعان ما سوف يخفض السعر إلى عشر جنيهات لإعادة أرباحه إلى أقصاها . الوضع الوحيد الذي يستفيد فيه المحتكر من رفع الأسعار يحدث إذا زاد الطلب لأي سبب من الأسباب، مثلا إذا زادت الحكومة الأجور والرواتب وطبعت المزيد من الكاش وضخته في شرايين الاقتصاد.
باختصار فإن من يزعم بأن التضخم في السودان سببه الجشع أو الاحتكار إما أنه يفتي في ما لا يعلم أو أنه يتعمد خداع الشعب للتستر على من تسبب في ارتفاع الأسعار بالسياسات التي اختارها أو دافع عنها أو سكت عنها.
لذا فإن نسبة التضخم إلى الجشع والاحتكار والمضاربين خطأ ينشر الجهل بين الشعب والطلاب وشباب المهنيين ثم تنتج عنه وصفات علاجية خاطئة. في حالة تجارة السلع يترتب على التحليل الخاطئ اللجوء للإجراءات الشرطية المفرطة ولكن للأسف الإجراءات الأمنية لو زادت عن حدها التعسفي ستجبر التجار على إغلاق متاجرهم والخروج من المجال . فمثلا إذا حاولت السلطات فرض أسعار غير معقولة على الخبازين أو مزارعي الطماطم، فستوصد المخابز كليا أو جزئيا ولن تزرع الطماطم في الموسم المقبل. وبإضعاف الإنتاج يتركب التضخم ويستفحل من جانب صدمة العرض إضافة إلى صدمة رب رب.
فيما يختص بالدولار تذكر دائمًا أنه هو أيضًا سلعة يتحدد سعرها حسب العرض والطلب ويخضع لنفس النظام التحليلي. وهذا يعني أن الإجراءات الدراكونية التي أعلنت مؤخرًا ضد تجار العملة ستفشل فشلاً ذريعاً كما فشل معادلها ألف مرة في الماضي.
وسيترتب على هذه الإجراءات أربع عواقب سيئة، أولها شح في العملات الأجنبية يترجم إلى ندرة ونقص حاد في السلع المستوردة. ثانيًا بما ان تحويلات المغتربين هي أكبر مصدر للعملة الأجنبية، يفوق إسهامه ثلاثة مليار دولار في العام، سوف يهاجر سوق العملات الأجنبية إلى دول الخليج، وسيتم إنشاء فروع أو امتدادات له في أوروبا وأمريكا الشمالية عبر شبكات ترتكز على الثقة والقرابة والصداقة وشراكة الأعمال. ثالثًا، ستسمح الحكومة، بموجب نظام القيمة الصفرية، للمستوردين بشراء التحويلات السودانية في أسواق الخليج لتمويل وارداتهم التي من مدخلات، وغذاء ودواء وكساء لا غنى عنه بالنسبة للشعب، مما يعني أن الحكومة سريعا ما تقوض بيسارها القوانين التي سنتها بيمينها. رابعًا، والأسوأ، ستلجأ الحكومة نفسها إلى شراء الدولارات من تجار العملة في الخرطوم أو في الخليج، وإلا فلن تتمكن من تمويل وارداتها الهامة والتي في غيابها عن الأسواق سيطيح بها الشعب أو حفنة من ضباط الجيش أو أهل المليشيات الخاصة. وأخيرا سوف تبلع الحكومة سياستها التعسفية كما بلعت مثلها الإنقاذ ولجنة الطوارئ الاقتصادية الدقلوية .