معمار الغياب
الممرات تشتعل بالغياب، الغيابُ يمتطي الذاكرة؛ وفي جهة قصية في القلب، تنزف العواصف أصواتها؛ تَهب البكاء الدمع المتكاثف من العين، تجدف اللحظة في يابسة الآخرين، تتعطن في المسام، تحيله إلى هياكل من طين، تنشد وجهة في النفس؛ فأنا في داخلي أتخيلني، والذي أتخيله يتخيل نفسه، وهكذا إلى ما لا بداية.
والمخيلة -سائل موسيقي- تتمدد بإدراك لا نهائية المدى، لا محدودية العناصر، أقلتُ عناصر؟ ياااه، أقصد اللغة، اللحن، الجناح المحلق من الكمان، أعني قدرتي على عزف المزيد مني، على الرؤية بعين ثالثة، وتصيير الأصابع ينابيع لغوية لتقويض المطلق.
قلت الممرات تشتعل بكِ، أنتِ الحاضرة في الأنسجة، المُعرِفة الكائن وال “يكون” بقوس حاجبك، بخصرك الوقت، بطيف ضحكتك مثير البكاء الأول، بالمُدركِ من الأعطاب، بفرقعة أصابعكِ عن ال big bang، بترويض النافر من اللغة، بالمبذول من طواحين الهواء في القلب، بالإفصاح عن رغائب لا متناهية، بعزلك لي من سواكِ، بالحاجة المجتاحة إيايّ، بزجاج مطهم بالندى، بالشواهد؛ دلالة قبور المستيقظ من ندهتكِ، بالحقيقة عصية الإدراك، بالتقادم في هرولة نوتة موسيقية على المتجمع من تكاثيف الصوت، المُتَعلِم كيف يندهك، بالمنزل المهيأ معماره للعزلة؛ لا يطئه أحد، المنزوي على ما يفكر فيه، اليفكر في مصائد معدة للمحو من صراخ مكتوم لأصوات طبول القلب المتوحد؛ تضُخ هواءً ساخناً يستدعي نداءات الأسلاف، المُتَوقع لمصير مفتوح ومنتهك من صافرة الريح القائلة لكل الأكوان:
– هب.
إذن كيف أبلغ حالة التخلص من حوائج تجتاحني إليكِ، أيكون بالمزيد من النداءات المنذورة لك، يا مرآة مفتوحة على المطلق، على نبضك الأبدي، البالغ سلالم المرجو منك. يا ساهية في الممتلئ فراغاً، يا ما يكشفه الأصدقاء من شظايا مغروزة في الذات، يا بهاء المُعَدنُ عنه في مناجم الوقت المطهم بالرعب، أسألكِ من أي جهةٍ تَهبينْ الكمالَ الكمال، من أي قصيدة منذورة للفقد تتدفق ذكراك، تمنح اللدونة للمعدن الساكن أرواحنا. فأدرك هول المادة المراقة في الشعور بما قدحتهِ من التجربة، بما أضفتهِ للمحيط من شاطئ الممكن، ومقاومة تشييد جسر لتجاوز حاجتنا لآخر يقاوم حاجته لنا، في محاولته السيطرة على شعور ألا يفكر فينا، لكنك تحضرينْ في لحظتي السامية حتى على سموها، الجاثمة في متاهة الأماكن المعتمة؛ تضعنا في مواجهة مخاوف تحكُ رحى أرواحنا، تهدر ما شيدناه على مهل، ما وشيناه بنهر متدفق؛ جارف لكل أشكال الموهوب مجازاً صفة الماء، المسمى رائحة، مذاقاً، طعماً، وجهة يتوافد إليها الأبيض من الصفات، السهم في شكه عن إدراك مبتغاه؛ إدراك ما صوب إليه.
يا غابة مفترسة، يا لطفاً مستتر، يا منطقاً لا يقبل الخلل، يا نرجسية الشاعر وهو يهش الآخرين بعيداً عن لغته، الساعي لإدراك المطلق، لامتزاج أهالي العزف في عصير الأصابع؛ الضاربة اللاذع من التناغم، ما بين اللاذع من حقول المتفجر في شقوق اللوم اللطيفة تضيئ زواياك، يا ذاتية التحكم، في خيول مربوطة لعربات ضوئية مخافة الاحتكام لقوانين المفترض من شارات المتربع أرض الأسئلة، الساكنة حيز ما فكر فيه، ساعة ما ابتدعه من استدعائه، فتكون كل لحظة قارب يجدف في نهرك المائي، اليهب سلواناً للأكوان كلها، المذابة عنصراً عنصراً في التجربة، براكينَ تحتضن نفسها، علها تصفو المجاب من دعاء خامل، في الجدول الكوني، مأساة العناصر، مكائد الغيب والملائكة، مخافة المطلق، الذي يربط لغتي من النطق، باذلاً أفاعيله لكي لا أحقق تصوري له؛ لي… فأنا بالضرورة هو، ولن أقول وهو بالضرورة أنا، لأننا – واأسفاه هكذا.
إذن، فلنسدل الستار على مسارح الوعي الدافق، ونرجع إلى البداية، لكن هذا يقوس الممكن، لنسأل: أين كنا؟ فالمكان متضامن مع كائناته المستلقين على عروش بضة من نور، هشة من تحديق العين إلى نفسها، من استحالة فزاعة الحقل إدراك ذاتها في سهول غير موشاة سوى بالرغبة، بالملتهم من لوائح فهارس الكون، حين أحاول صعود سلالم مشيدة من رخام، وأنا أحدق في السماء المتسعة، أصبو إلى أعمدة غير مدركة من دخان المشكوك فيه، في وجود المسافة بين نهرين ينفتحان على لذة مرجوة، أصرفها كيفما أشاء من أحوال، أخلق نجوم كثيرة، تنزل وتصعد ضوؤها المحتمل.