دراسة القبيلة في المدرسة البريطانية
![](/wp-content/uploads/2020/09/hassan.png)
تمهيد:
من خلال قراءة السرد التاريخي لمدارس الأنثروبولوجيا التي ظهرت في السياق الأوروبي نلاحظ أن لكل مدرسة سمات رئيسية ومعينة تميزها عن بقية المدارس، هذه المميزات هي نابعة من صميم التطور الاجتماعي لبنى المجتمع، التي على أساسها شكلت المدرسة مفاهيمها لتقوم بدراستها ومعرفتها ومحاولة تفسيرها. إن هذا التعقيد هو ما كشفه بير بورديو (1932-2002) في مفهوم (الهابيتوس) الذي صكه من أجل توضيح التناقضات ما بين الذاتية والموضوعية، بمعنى أن الهابيتوس على حد بورديو هو الاستعدادات الذهنية والبنى التي تعمل على صياغة الفرد كفاعل اجتماعي والانطباعات التي تلقى على المجموعات الاجتماعية من خلال التصورات الفردية التي ملكت للأفراد، وهذا المفهوم يتجلى في الرواد الأوائل من العلوم الاجتماعية- ويتمثل في الباحثين إلى يومنا هذا أيضا – حيث يكشف صورة التناقضات الاجتماعية التي انعكست على دراساتهم للمجتمعات المختلفة.
من خلال هذه المداخلة أريد أن أقوم بنقد مفهوم القبيلة الذي من خلاله قام رواد المدرسة البريطانية الأنثروبولوجية متمثلة في إيفان برتشارد في دراسة مجتمعات (النوير) في جنوب السودان والسنوسية في ليبيا، عن طريق نظريته الانقسامية .
البداية التاريخية للأنثروبولوجيا البريطانية:
إن نظرنا إلى المدرسة البريطانية نجد أن سياق تطورها مرتبط بشكل النظام الاجتماعي بصورة متجذرة فيها، فلم تكن الأنثروبولوجيا إلا على هامش اهتمام المؤسسات الاكاديمية التي نمت الأنثروبولوجيا على حوافها دون أن تكون مرتكزا مؤثرا مما جعلها في بادئ الأمر كهواية قامت بها المجموعات المسيحية (الكويكر) نموذجا، التي نظرت إلى المجتمعات الأخرى كمجتمعات يجب تخليصها من حالة الظلام التي تعيشها، بالإضافة إلى حملات مناهضة الرقيق التي قادتها المجموعات المسيحية التبشيرية البريطانية بعد عام 1833م حيث أجيز قانون منع الرق .
نلاحظ أن المجموعات المسيحية هذه قد بدأت في تنظيم السكان الأصليين على نحو مختلف غير التنظيم الاجتماعي المعرف لدى شعوب المستعمرات البريطانية حيث شكلت ما يشبه بالأنوية السياسية للدفاع عن حقوق السكان الأصليين، من هنا يمكن أن نشاهد أن تفكير أولئك الكويكر قد انعكس على شكل نشاطهم البحثي والاجتماعي، فما بين تحويل هذه الأنوية إلى مجموعات دفاع حقيقية وما بين مجموعات بحثية، انقسمت تلك المجموعات التبشيرية لنقول إلى أن هناك ارتباط بين الأنثروبولوجيا البريطانية وتياراتها الدراسية وبين تشكل الأنوية الاجتماعية والسياسية للدفاع عن حقوق السكان الأصليين .
لا شك أن التأثيرات التي طرأت على الأنثروبولوجيا على يد مالينوفسكي(1884-1942) قد أسهمت في انتقال الأنثروبولوجيا إلى مرحلة متقدمة كعلم دراسة الإنسان، وخصوصا في جانب النظرية الوظيفية التي على أساسها وضع تعريف الثقافة، والذي إلى حد كبير يشابه تعريف تايلور( 1832 -1916)، لا شك أن انعكاس الواقع الذي قام بدراسته قد انعكس بحد كبير في كتاباته المنهجية حول جزيرة تروبرياند، وجاءت سلسلة من البحوث بعدها التي تبنتها مجموعة من الطلاب أصحاب العقول المنظمة.
نلاحظ أن تايلور ومالينوفسكي قد وضعا أساس انتقال للأنثروبولوجيا قد أحدثا تحولا مهما في مسيرة الأنثروبولوجيا البريطانية من خلال اتصالهم بالمجتمعات المحلية المستعمرة التي تمت دراستها وفق أساس (ثقافي) وهذا التأثير تجاوز حدود المدرسة البريطانية، وهذا التأثير ظهر في العصر الذهبي مع التحولات التي طرأت على المؤسسات الأكاديمية مما أرسى نوعا من التقاليد التي ترتبط بدراسة بنى القبيلة.
الاتجاهات الجديدة للأنثروبولوجيا البريطانية :
هذه الانقسامات التي حدثت قد أفرزت المؤسسات البحثية الأنثروبولوجيا البريطانية فما بين الدارونيين الذين ينظرون إلى أن هذه المجتمعات جزء من الطبيعة وما بين الذين ينظرون إلى أن (الدم واحد) نشأت التيارات الأنثروبولوجيا في بريطانيا وهو ما نجده في صراع جيمس فريزر(1854-1941) وإيفان بريتشارد(1902-1973) الذي تمظهر في هذه التيارات في تلك الفترة ومن ثم تطور حتى صعود الأخير على أعلى المؤسسات الأكاديمية في بريطانيا ولكن كان هناك جذور أساسية وتطور طويل لتيارات الأنثروبولوجيا.
دراسة القبيلة :
إن دراسة القبيلة ما هو إلا انعكاس لطبيعة المجتمع البريطاني والوضعية الاجتماعية الموجودة فيها هذه المجتمعات، فإذا نظرنا إلى النظريات التي جاءت نتيجة للدراسات الأنثروبولوجية ومثلا لها الانقسامية، فإن الانقسامية لم تكن في الأصل هي نظرية النوير إلى ذاتهم ولكنها انعكاس تصور برتشارد إلى حياتهم، وهي محاولة لأن يضع حياتهم داخل هذه الأطر الثقافية وهي نزعة ميكانيكية وإلى حد ما يمكن لنا التماس النزعة العلمية التي صاغها عبد الله إبراهيم في كتابه المركزية الغربية، حيث أشار إلى العقل العلمي الذي راح يسوغ مشروعية ما للنظام السياسي الاجتماعي الحديث، ومعنى هذا أن العلم انتظم في سياق نزعة علمية أيدولوجية لا يهدف إلى تطوير الممارسات العلمية فقط ، وإنما يضفي الشرعية على النظم السياسية التي تتبنى العقلانية التقنية، إن هذا الشرح يوضح أن الأنثروبولوجيا كعلم هي جزء من السياقات الأوروبية الاستعمارية التي سعت إلى وضع هذه الشعوب في وضعية معينة ومحددة .
نقد المفهوم :
إن نظرنا إلى طبيعة النظريات التي فسرت الأنظمة الاجتماعية في المستعمرات نجد أنها تنطلق من نظرة ذات بنية مركزية بمعنى أنها تفسر التشكلات الاجتماعية من خلال نظريات ذات بعد مركزي فإذا نظرنا إلى الانقسامية والانتشارية كذلك نجد أنها تفترض وجود مركزية للجماعة ومن ثم عبرها تتشكل البنية الاجتماعية.
فالفرد داخل القبيلة في النظرية الانقسامية هو من تنطلق من عنده القبيلة ومن ثم تتشكل بقية بنى القبيلة، لذلك نجد أن التركيز دائما ما يكون على العمدة أو شيخ القبيلة في دراسة هذه البنى وهو ما يتمثل في دراسة إيفان(للسنوسية) و(للنوجر) أيضا، كذلك بالمقابل تدرس الانتشارية هذا المنوال على نحو مشابه من خلال افتراض مركز للثقافة ومن ثم تنتشر الثقافات على بقية المكان. إن مفهوماً كالإنصهار والانشطار لا يقوم في هذه المجتمعات وفقا لما تصوره برتشارد، فالقبيلة في المناطق الاستوائية تختلف بنيتها وتعقيداتها الداخلية فنجد مثلا أن المرجعية الدينية لها دائما ما تكون من النساء أو ما يعرف (بالحاكمات) وهو ما يوجد أيضا في القبائل الرعوية العربية الموجودة في ذات المنطقة، إن هذا التفسير لا يمكن فهمه إلا عبر أدوات التحليل المادي. وهذا يعود إلى طبيعة الممارسات الاجتماعية والنشاط الاقتصادي الذي تقوم به القبيلة (فالنوير) مختلفون بطبيعة الحال عن (الدينكا) داخل معتقداتهم وداخل طبيعة السلطة في بنى القبيلة نفسها. فلو أخذنا (الدينكا) كقبيلة أكثر تعداداً وأكثر سلطة على الأرض في مناطق الاستوائية، سنجد أن الانقسامية لا تنطبق عليهم ولا تنطبق على(النوير)(كنوير)، كذلك إن أخذنا مقابلاً آخراً لهذه القبائل هي قبائل(المسيرية) المتواجدة في ذات المناطق سنجد أن طبيعة البنى الاجتماعية تعتمد على فرض السلطة والنفوذ من قبل الجماعة الأقوى داخل القبيلة لا الفرد الأقوى، ومن هنا يمكن نقد مفهوم الجد الأكبر الذي تقوم على أساسه النظرية، إذن يمكن أن نقول بأن القبيلة كبنى اجتماعية قابلة للدراسة ولكن وفق طبيعة تركيبها كبنية اجتماعية تعتمد على عوامل عديدة، من ضمنها مفاهيم أدوات الإنتاج و التمثلات الأسطورية داخل بنية القبيلة وليست من حد المفاهيم التي تعاملت معها الدراسات الأنثروبولوجية التي تمت وهذا الخلل البنيوي في تفسير البنى الاجتماعية هو نتاج (هابيتوس) للباحث الاجتماعي الميداني حيث أنه يعكس تناقضاته كما أسلفنا على الواقع، ففعليا البنى الاجتماعية للقبائل لا تتشكل وفق هذا النمط ولا تحتكم في داخلها لهذه التناقضات الأوروبية.