إنه لمن المتعة قراءة أعمال كافكا، والتي يترتب إثرها العقاب التالي: الكتابة عنها كذلك.
عند كافكا، فإنه لا شرف يأتي دون معاناة، ولا معاناة تذهب سدى دون تشريف.
المطالبة بالكتابة عن كافكا هي بمثابة أن يُطلب منك وصف قصة (سور الصين العظيم) لأحد يقف بجانب السور. يبقى الفعل الصادق الوحيد هو أن تشير إليه.
مرةً، اقترب تلميذ من الحبر شالوم بمدينة بيلز سائلاً: “ما المطلوب حتى تحيا حياة طيبة؟ كيف لي أن أعرف ماهية عمل الخير؟ ما تكون المحبة والعطف؟ كيف لي أن أعرف إن كنت يوماً في حضرة الرحمة الربانية؟” وما إلى ذلك. وقف الحبر صامتاً بينما كان يواصل التلميذ حديثه حتى أخرج جل ما في جعبته. وحتى حينها، ظل الحبر يقف في صمت، والذي كان- كتعويذة سحرية – الجواب الأمثل.
محاولة توضيح معنى ما يبدو لك بسيطاً وبيِّناً هو بمثابة أن توضح معنى قيمة شخص ما عندك.
إنه لمن المستحيل التزويد بهكذا توضيح ولذا، هو ضرب من التعذيب. إحدى أخف الضروب، للتأكيد، لكنه تعذيب مع ذلك. هو ليس بعمل هاوٍ، أو حتى ناقد، بل شخص مجنون محتقر لذاته.
يجب على أعمال كافكا أن تكون قراءة معيارية لزمن يعجز عن تعيين معاييره: زمن يعامل كل الهويات كأطياف غير أن كل الحكم ثنائي المقياس (يعجبك أو تكرهه)؛ زمن يصر على السلوك المناسب سوى أنه يمنع الانتحال (على الناس أن تقرأ كتباً أكثر من ثقافات أخرى، لكن يجب ألا تكتب كتاباً تقع أحداثه ضمن ثقافة غير تلك التي ينتمي لها الكاتب)؛ زمن بدَّل المعرفة الأدبية بالرقمية، ثم يندب أن ثقافته المشتركة هي فقط سياسية (أتذكر ما جرى في 2017؟ لمن كانت 2017؟).
يتساءل كافكا: “ما المشترك بيني واليهود؟ بالكاد لي أي مشترك بيني وذاتي، وعليَّ الوقوف هادئاً في زاوية ما، راضٍ بكوني قادر على البقاء حياً.”
*
لقد طلب مني الكتابة عن كافكا ست مرات في حياتي. وكنت قد رفضت في الخمس مرات الأولى، نظراً لشدة انشغالي واكتئابي، بل لانشغالي الأشد، واكتئابي بالمثل.
لم يتم إكمال أي من روايات كافكا، أو نشرها خلال حياته. بل تم نشر تسع أعمال أدبية فقط متضمنة في هو: الكتابات القصيرة لفرانز كافكا خلال فترة حياته. ليس من الواضح كم منها تم إنهاؤه، وتعتبر منتهية.
إن هيئة المقال الأدبي الذي أمقته أيما مقت هو: أن تعطي تقرير سيرة ذاتية عن المؤلف. إنه لمن السخف أن أعطي تقريراً استقيت مصدره، على الأقل في جزء منه، من نفس المعرفة المتوفرة على الشبكة العنكبوتية، والمتاحة بصورة متساوية للقارئ. عزمت إذن على ألا أراجع الأمر من الانترنت، ألا أستعين بأي شخص أو أي شيء. إذا احترق العالم الآن، وكل المعلومات المتوفرة على الانترنت، ومن ثم كل المكتبات، وبعدها كل الكتب، فإن هذا ما سأعرفه وما يجب أن يتم به الحكم علي: ولد كافكا في براغ، المدينة الثالثة للامبراطورية النمساوية-الهنغارية، في نحو من سنة 1880، ونتيجةً لمضاعفات السل الرئوي، تضور جوعاً بصورة أساسية في مصحة واقعة في بلدة تبدأ بحرف الكاف، بفترة ما بعد الامبراطورية، النمسا المستقلة، في نحو من عشرينيات القرن العشرين. كان قد تدرب في القانون في جامعة تشارلز ومارس المهنة كمحامي في شركة التأمين. كان قد خطب للزواج ثلاث مرات، اثنان منهما لنفس المرأة، المدعوة فيليس باور. ترك تعليمات تقضي بإحراق جميع أعماله بعد وفاته، والتي خالفها صديقه ماكس برود. في سنة 1918، وهو العام الذي أتذكره لكونه الأخير من الحرب العالمية الأولى، كتب كافكا في المفكرة التي كان يستخدمها لغرض حصص العبرية، “العمل كالفرح، متعذر بلوغه عند العلماء النفسانيين.” باعتقادي أني أتذكر القليل من اقتباسات كافكا الأخرى، لكن هذه هي التي أعيد تكرارها مراراً على نفسي بصوت مسموع كدعاء، أجرجر أذيالي إلى البيت بعد موعدي المكلف كل أربعاء في الرابعة عصراً واصفةً طفولتي إلى غريب: “العمل كالفرح، متعذر بلوغه عند العلماء النفسيين.”
*
ليس من خيارٍ أمام شخصيات كافكا غير أن تعاني من كافكا. بينما نحن القراء، على كلٍ، قد اخترنا التسليم بآليته تجاه إرادتنا الحرة، وفعلنا ذلك في كل جيل تالي منذ جيل كافكا نفسه، منتجين في الأثناء الآلاف من المقالات والأوراق الأكاديمية، ما يزيد عن مئة سيرة ذاتية، ما يزيد عن 12 فيلم وبرنامج تلفازي، ناهيك عن صناعة كافكا كعلامة تجارية، التي تتضمن خط رقمي ينسخ خط المؤلف (ويقدم، بجانب توقيع المؤلف K، رمز € ينطوي على مفارقة تاريخية بصورة غريبة)، قمصان قصيرة الأكمام، قبعات، علاقات مفاتيح، وأغطية هواتف ذكية مزينة بوجهه، وما إلى ذلك. من وجهة نظر تحليلية نفسية، دافعنا العاطفي تجاه كافكا يمكن أن يفسر كنتيجة لرفض الشخص موضع القضية- ردة فعل تجاه حقيقة أنه كلما يدعي تاجر كافكاوي علمي جديد أنه قبض أخيراً على جانب معين من حياة المؤلف- عن هويته كألماني تشيكي، أو يهودي، أو صهيوني، أو معادي للصهيونية، أو ماركسي، أو نسوي، أو محب للولايات المتحدة، أو نباتي، أو قلق بشأن صحته، أو محامي، أو أخ، أو ابن- كافكا، أياً كان أو يكون كافكا، يحلق على مستوى أبعد. إنها قناعتي أننا نستمر بتصغير ذواتنا في هذا السعي غير المتبادل لأن كافكا كان بحق آخر كاتب عظيم لأي منا، وبنحن، أعني الألمان التشيكيين، اليهود، الصهيونيين، معادي الصهيونية، الماركسيين، النسويين، المتأمركين، النباتيين، القلقين بشأن صحتنا، المحامين، الإخوة والأبناء.
إلا أن المفتقد بصورة ملحوظة، حتى من الدراسات الرائدة لكافكا هو الاعتبار الفني للكتابة ذاتها- لأسلوب جُمل كافكا- والتي تنفتح عادةً بفكرة نيرة مثالية وبعدها تتابع بالغرق في وحل الفواصل، كما تسعى بتضمين كل الأفكار التي قد تكون منطقياً مستمدة من تلك الفكرة، وغالباً ما تشمل حتى الفكرة المخالفة، قبل أن تصل إلى النقطة النهائية. هذه المحاولة في تقديم العواقب الكاملة لفكرة واحدة ضمن حدود جملة واحدة- أي سيل من التفكير سيكون دوماً على التقريب أكثر مواءمةً بشكل مريح في جملتين، أو حتى في فقرة برجوازية مسهبة الوديَّة- تمنح للنثر كثافة متراكمة مقتطعة باستمرار بتأجيل نحوي، ويظهر هذا بدرجة أقل في اللغة الانجليزية عنها في النص الأصل الألماني، بترتيب كلماته “المعكوسة”. فالترتيب النحوي في الانجليزية (فعل، فاعل، مفعول به- SVO) ينتج عنه جمل عن من الذي يقوم بفعل ماذا وبمن، بينما ترتيب الجملة نحوياً في الألمانية (SOV) يهتم أكثر بمن ولأجل من يقوم بفعل ماذا. هذا الاختلاف النحوي هو أحد الأسباب، ويبقى أحدها فقط، في تفسير لِمَ ينزع متحدثي الانجليزية لتوقع أن تُعبر الجملة عن نفسها فوراً- أن تُقر من البداية بمضمون الجملة- بينما متحدثي الألمانية الأصليين متكيفين أكثر على الإبهام، نظراً لحتمية تعليق استيعابهم الكامل لجملة حتى نهايتها. لأن جملة اللغة الانجليزية عادةً ما تعلن عن هدفها الأساسي من البداية، وبالتالي في إمكانها دوماً على الأغلب أن تسهب أو تعدل ذلك الهدف، وأبداً، أو نادراً ما تنقلب عليه. بيد أن الجملة في اللغة الألمانية، على كل، بإمكانها أن توسع فهم القارئ كما تتوسع هي، تصبح أقل شرطية بينما تمر بالمفعول به باتجاه الفعل الخاتم لكل جملة تابعة، كما تنحو الجملة ذاتها ناحية تحققها الدلالي الأقصى.
إليك هنا جملة جوهرية كافكاوياً، عن بناء (سور الصين العظيم)، بترجمة ويلّا وإدوين موير:
“في الحقيقة يقال أن هناك فجواتٍ لم يتم ملؤها من قبل أبداً- بالنسبة للبعض فهي أكبر بكثير من الأجزاء المكتملة- رغم أن هذا التأكيد هو مجرد واحد من عدة أساطير التي نتجت عن بناء السور، والتي لا يمكن التحقق منها، على الأقل بواسطة أي رجل شهدها بعينيه وحكمه الخاصين، على اعتبار تمديد الأساس.”
وهنا نفس الجملة مترجمة من قبل ستانلي كورنجولد:
“بالفعل، قيل أن هناك فجواتٍ لم يتم ملؤها أبداً؛ بحسب بعض الناس فهي أكبر بكثير من الأقسام المكتملة، رغم أن هذه التوكيدات قد تكون واحدة من عدة أساطير التي نشأت حول السور والتي مع أخذ طول السور في الاعتبار، ليست بشيءٍ يمكن لأحد أن يؤكده، على الأقل بعينيه الخاصتين، وبمعاييره الخاصة.”
نسخة موير تنزع إلى التكثيف بدرجة عالية حد مخاطرتها لا أن تكون مجرد غير دقيقة، ولكن غير مكتملة كذلك، بينما نسخة كورنجولد جد مصممة بمحاولة كلا الدقة والشرح حد مخاطرتها بتحقيق لا هذا ولا ذاك. لست أدعي أن بمستطاعي فعل أفضل من ذلك- ليس بإمكاني. أقول فقط لا تلتقط أي نسخة منهما مدى توتر اللغة الألمانية:
“Ja, es soll Lücken geben, die überhaupt nicht verbaut worden sind, eine Behauptung allerdings, die möglicherweise nur zu den vielen Legenden gehört, die um den Bau entstanden sind, und die, für den einzelnen Menschen wenigstens, mit eigenen Augen und eigenem Maßstab infolge der Ausdehnung des Baues unnachprüfbar sind.”
إن كان علي أن أجعل من نفسي أضحوكة، فإني لن أفعل ذلك بالترجمة، ولكن بتقريب إنجليزي حاد لتركيب الجملة الألماني، مع الاحتفاظ بخليط من خيارات موير وكورنجولد للكلمات:
“بالفعل، يقال أنه توجد فجوات، وأن ملئها لم يتم أبداً، إلا أن توكيداً، على أية حال، والذي من المحتمل أنه ينتمي فقط للأساطير الكثيرة، التي نشأت حول السور، وهذا على الأقل بواسطة أي رجل شهدها بعينيه ومعاييره الخاصة، عل حساب تمديد السور، لا يمكن التحقق منها.”
حين تأتي الأفعال مع نهاية جملة، فإن منطق الجملة مُرجأ حتى تصل تلك الجملة، وبذا يُقرأ الوصول كحكم قضائي.
حاول تجربتها بهذه الطريقة:
“بالفعل، يقال أنه توجد فجوات،
وأن ملئها لم يتم أبداً،
إلا أن توكيداً، على أية حال، والذي من المحتمل أنه ينتمي فقط للأساطير الكثيرة،
التي نشأت حول السور،
وهذا على الأقل بواسطة أي رجل شهدها بعينيه ومعاييره الخاصة، عل حساب تمديد السور، لا يمكن التحقق منها.”
إن التلاعب بهذا “الانعكاس” المتداخل لأسباب التنويع، الدافع الإيقاعي، هجو المبتذل والفكاهة الهدامة لهو ميزة معتبرة ليس فقط لأسلوب كافكا، بل لعقل كافكا، وهو على الأقل بذات أهمية أن يؤيد القراء باللغة الإنجليزية اعتقادهم بإخلاص، كما يفعل المؤلف، تجاه الإيمان بالآخرة، الشهوة الجنسية والأرق.
*
إن الجملة-the Satz- هي ما يتم الحكم بها على الكُتّاب. “الجملة” باعتبارها أكثر من تورية سيئة على موهبة كافكا. نثره- خصوصاً النثر الأدبي الذي كتبه ليلاً وأثناء الإجازات المرضية والعطلات التي قضاها في المصحات- تحاكي طموح القانون: كلاهما محاولاتين للهندسة من خلال أقسام، فروع وبنود تابعة. بنية مهيبة لمنطق محكم تماماً ضمن عالم غير منطقي متفكك تماماً. إن المنطق المحكم هو أساس الأدب بالطبع: لأنه ليس بإمكان العالم أن يتأتى بترتيب كما النثر، مع ذات الألق المتسق للصيغة اللغوية. إن أدب كافكا مشخص فقط، ورافض لتحسين الأزمات التي عانت منها شخصياته، كما لو تحاكي حدود القانون، الذي بإمكانه التعويض فقط عن الأضرار الناتجة، إلا أنه يبقى عاجزاً عن منعها. حيث تتشارك كتابة كافكا والكتابة القانونية بتشابه أعظم، على كل، في غموضهما- في علاقتهما المحددة بالغموض. كلاهما ناتجان عن جهد المؤلف بشكل دائم لقياس وتعيين أي انحراف تُرك بالضبط للتأويل والتطبيق. نرى في عمله الأدبي، كيف يترك كافكا عناصر معينة دون وصف (وجوه الشخصيات)، و(أماكن) أقل وصفاً، حتى يسمح للقارئ بفرض وصف خاص به يضفي طابع شخصي على ما هو عالمي. يؤيد من هذا السماح بأن يكتب استعارات سطحية فيما ندر، مفضلاً عليها أن يطبع في الذهن استعارات إنشائية (أو حكايات رمزية، أو أمثولات) بتعيين شخصياته بصورة سلبية: “لا تقع بلدتنا الصغيرة عند الحدود، ليس في أي مكان قريب؛ إنها بعيدة جداً عن الحدود، في الحقيقة، حد أنه من المحتمل لم يتواجد أحد من بلدتنا هناك” (“The Refusal”). على العموم، يفضل كافكا ألا نربط الأشياء أو الأشخاص داخل أدبه مع تلك التي بالخارج. أن تكون مستنداً إلى نفسك هو نمطه الأساسي: لذا تجد أدبه مليء بصياغات من مثل “كما اعتدت القيام ب”، و”كما اعتقدت غالباً”، والتي بالمقارنة والتباين، يوطد لما هو سابق. ويلازم مع ذلك، غموض كافكا الأكثر عمقاً، في استخدامه للصيفة الشرطية- لحظاته التي يتخللها “كما لو” و”كأنما” (بالألمانية، als): “إذا مشيت باتجاه المدخل بكل بساطة، رغم أني قد أنفصل عنه بعدة ممرات وغرف، أجد نفسي أشعر بجو كبير من الخطر، في الحقيقة كما لو أن شعري توقف عن النمو وفي لحظة قد يسقط عني تاركاً لي أجرد وأرتجف، معرضاً لخطر عواء أعدائي” (“The Burrow”). هنا وبغيرها من القصص، يعد كافكا النحو البسيط بديلاً عن قوة الاستعارة، حتى يكف التأثير الغالب عن الحضور كسرد لا يعتمد عليه، بل يصير غياباً للسرد الوحيد المحرك للكون، والمتمثل في صمت الرب.
يعتبر غموض القانون أكثر إدانة، وأكثر ترابطاً مادياً. باختصار، أكثر قانون شائن قد سن من قبل أولئك الذين كانوا أحرص على تجنبه. تجد المشرعين متحفزين بصورة نظامية لحذف أو تعتيم كل بنود القانون التي تهدد سلطتهم. لأكون واضحاً، القانون الذي أشير إليه هنا لا يتضمن ذلك التشريع المستبد بشكل واضح الذي لا يحاول تعتيم نيته التمييزية (من مثل قوانين نوريمبيرغ النازية، التي ورطت أخوات كافكا الثلاث، أو تشريع العبودية بدولتي، الرموز السوداء، وجيم كرو). أشير بدلاً عن ذلك، إلى قانون عديم الأهلية بصورة متعمدة، والذي يستخدم منافذ ليمكن من السياسة المراوغة، ويخفي الفساد في بلاغة حسنة قبل دفنها عميقاً أسفل الإصلاحات السطحية. أكثر غموضا مع ذلك، على الأقل بشروط سلطتها، وبالتأكيد أكثر ضرراً، وجود جماعة دولية من قانون محظور أو سري، والذي ينافي القانون كما هو معروف علانية. أحد الأمثلة على ذلك، مجددا من بلدي، هو القانون السري الرسمي، في مخالفة دستور الولايات المتحدة، بحيث يسمح لحكومة الولايات المتحدة بمراقبة كل وسائل تواصل رعاياها، بما فيهم ما أكتبه الآن على جهاز الحاسوب خاصتي.
كما يزداد القانون في غموضه، يقل في المقابل غموض الأدب، ونصبح نحن البشر مقروئين بصورة أساسية كمعلومات- كنقاط من العادة، التفضيل، ومعلومات سكانية مستهلكة تنتج حلولاً حسابية، والتي هي التقييدات، الجمل التي تربطنا. الحلول الحسابية هي جمل تحسب النواتج ارتكازاً على مدخلات (كدت أكتب دخل). هي مبنية على سلسلة من الخيارات الثنائية- إذا حدث هذا، إذن على ذلك أن ينتج؛ إذا لم يحدث هذا، إذن لا يفترض أن ينتج ذاك- في معايرة مستمرة للإدراج والإقصاء. تمت كتابة الحلول الحسابية السابقة من قبل الناس، كطريقة في إعطاء تعليمات للحواسيب لتؤدي عمليات حسابية يعجز الناس عن القيام بها بأنفسهم. أما اليوم، فإن هذه الحلول الحسابية تكتب بواسطة الحواسيب “نفسها”، كطريقة في إعطاء تعليمات لحواسيب أخرى للقيام بمهمات يزداد تعقيدها باطراد، وتحكم قبضتها على العالم.
هذا التشغيل الذاتي للآلة هو الإشارة القصوى لضعف سلطة القانون- سلطة جاءت سابقاً من الكنائس والحكومات الملكية التي ادعت إجازة الرب لها، ثم أتت من الحكومات التي ادعت إجازتها من قبل الانتخابات، وتأتي الآن من آلاتنا، التي تنتج لكل منا قانوناً شخصياً اعتماداً على كل نقرة وضربة مفتاح، وعلى كل قرار مبتذل لنا. تحدد هذه القوانين ذات التشغيل الذاتي للآلة الآن حيواتنا. تعد مسؤولة عن كل شيء نراه ونسمعه تقريباً. تخبرنا أين بإمكاننا تناول طعامنا، متى علينا التمرن بدنياً، وحتى من نتشارك معه حياتنا العاطفية. تخبرنا ماذا نقرأ وبالتالي فهي تخبرنا من نكون. ليس من مجال لحساب أي تأثير لهذا التشغيل الذاتي على أرواحنا، لأن أرواحنا لا تتواجد ضمن نطاق الحسابات. أي محاولة لحساب ضرر ذلك سيزيد فقط من الضرر الحسابي لأنصار التقنية.
*
مرة، في القدس، كنت جالساً في مقهى أقرأ لكافكا (بالإنجليزية). وفي مرحلة ما تحول المقهى إلى حانة- بمعنى أن شرب القهوة والشاي أفسحا المجال لاحتساء الكحول- وحين أخذت استراحة من قراءة الصفحات وتطلعت من حولي، أدركت أن الكثير من الناس كانت سكارى. قدم رجل إلى حيث طاولتي، أدار كرسياً غير شاغر، وجلس مباعداً بين رجليه ومقابلاً لظهر الكرسي، سحب الكتاب من يديَّ، وتفحصه. “عن ماذا يدور الكتاب؟” سألني. كان في أوائل العشرينيات من عمره، مضطرب، عدواني، وتعلو ملامحه الجدية التامة. “عن مواقف مستحيلة”، رددت عليه بالعبرية، وفي اللحظة التي تلفظت بها عبارتي، ندمت على حقيقة، خاصة بوجود لكنتي الغريبة، فقد بدوت كما لو أنني أقتبس من تعبير صحفي ما للصراع القائم بين اسرائيل وفلسطين. انحنى الشاب مقترباً ومستفسراً برائحة نفس ثملة “مواقف مستحيلة من مثل ماذا؟” مدركاً أنه علي تعطيل هذا الموقف المستحيل، أخبرته أن إحدى كتب كافكا تحكي عن رجل متهم بارتكاب جريمة، غير أن لا أحد سيخبره عن نوع الجريمة، وبالتالي يعجز عن تعيين هويته. أخبرته أن إحدى الكتب الأخرى تتناول قصة رجل يمسح الأراضي بعجز (لم أكن لأعرف الكلمة العبرية ل “ماسح الأراضي”) لذا قلت شيئاً من قبيل “رسام خرائط”) يأتي إلى بلدة غريبة في سبيل تأدية مهماته ولا بد أن يستلم تصريحاً لممارسة عمله هناك، وحتى لمجرد أن يمكث هناك، من قبل السلطات التي تحكم البلدة من قلعتها، لكن سلطات القلعة ترفض منحه عملاً أو حتى إذن سكني وترجئ أي قرار عن حالته القانونية بشكل غير محدد. في هذه الأثناء، تبدل وجه الرجل أمامي محمراً كصفارة إنذار وانتفخت أوردة عنقه وخفقت. كنت غير مدركاً عن ما تسبب بسخطه من حديثي، أو أي شيء آخر بإمكاني فعله لتهدئته، لذا واصلت نقاشي، بالقول أن هذا الكتاب- الذي ما زال ممسكاً به، وقابضاً عليه بإحكام بحيث اعتقدت أنه سيمزقه إلى نصفين- يدعى أمريكا، وأنه يتحدث عن أمريكا، ولأنها كانت أول رواية للمؤلف، لم يكن من المعتاد على…..
قفز الرجل من الكرسي وخبط الكتاب على الطاولة، صارخاً (بترجمتي الركيكة)، “إذن الشخصيات في الكتب أغبياء حقاً؟ أيفترض أن يكون ذلك فكاهياً، حقيقة أنهم أغبياء؟ عندما كان علي إستخراج جواز سفر جديد في مدة وجيزة، لأن جواز سفري القديم انتهت صلاحيته وكان علي الذهاب إلى لندن للعمل، أخبروني عند مكتب الجوازات أن ذلك غير ممكن. وكان بإمكاني أن أترك الأمر على حاله مستسلماً، غير أني لم أفعل. كانت ستكون خسارة مالية كبيرة. لذا هاتفت قريبي، الذي يعمل أخ زوجته لوزارة الداخلية، وتحصلت على جواز سفري الجديد في غضون أسبوع. هكذا يجب عليك أن تكون. أعني، لديك عمل لتقوم به، فتؤديه. لا تدع أي شيء يقف في طريقك.” رمى الكتاب على الأرض، وصار زبائن الحانة جميعهم منتبهين لما يجري، دون تدخل، يبتعدون، مفسحين له مجال أن يعبر عن نوبة غضبه. تابع حديثه “وإذا اتهمني أحدهم بجريمة ما لم أرتكبها، سأحضر صديقي من الجيش المحامي ليقاضيهم بأموالهم ويأخذ شقتهم وسيارتهم. وإن تابعوا اتهامهم لي بعدئذٍ، سأريهم الويل. سأتحرى عن مكان وظيفتهم وأنتظرهم بالخارج ريثما يخرجوا وسأباغتهم من الخلف وأفعل بهم هكذا وهكذا”- كان يضرب الهواء بقبضته ويرفس بعض الخصوم المتخيلين في الهواء، واضعاً معارضين وهميين محيطاً رؤوسهم بأذرعهم ليخنقهم.
فررت لآخر الحي ولم ألتفت إلا عند الزاوية: كان الرجل مقيد الحركة من قبل الندلاء. وضاعت أميركا- إنه الكتاب الوحيد لكافكا الذي لم أنهي قراءته بعد. لكن لهذا اليوم، ظلت كلمات الرجل، وعراكه مع الهواء في معيتي، وما زلت غير أكيد كيف لي أن أفسرها- كأي شيء منطقي غير إشارة على الاختلافات بين تحمس قاطني أواسط أوروبا للغموض، ونفاد الصبر المتفشي في العصر الحالي.
تم دفن جثمان كافكا في مقبرة اليهودي الجديد في ضواحي براغ المتهدمة. شاهد القبر الأصلي قد تمت سرقته (يقول بعضهم بواسطة شخص واسع الاطلاع-نازي الاتجاه، بينما يقول آخرون بواسطة حكومة تشيكسلوفاكيا الشيوعية). بعد ذلك تمت سرقة شاهد القبر البديل (يقول البعض بواسطة حركة تشيكسلوفاكية مناهضة للشيوعية سرية شبابية، ويقول آخرون بواسطة جامع سري من الغرب). اليوم الشاهد الذي يرقد تحته المؤلف هو بديل لبديل- حجر قبيح الهيأة سداسي الأضلاع. في آخر مرة قمت بزيارة المقبرة، لحضور جنازة رجل ما، ناجٍ من الهولوكوست كتبت مذكراته تحت اسم مستعار، كان العمال منهمكين بتثبيت كاميرات مراقبة.
2 سبتمبر، 2020
النص الأصلي من هنا:
https://www.theparisreview.org/blog/2020/09/02/the-pleasures-and-punishments-of-reading-franz-kafka/