ثمار

الإسلام في المتخيل الغربي في القرون الوسطى

سيكون هدف هذه المقالة أن تساهم في البرهنة على أن نظرة الغرب للإسلام في كل حقبة من حقب التاريخ كانت دوماً مرتبطة بمشروطيات سياسية وإجتماعية ومعرفية محددة، أي أنه لم تكن هناك صورة واحدة عن الإسلام في الغرب، بل تصورات متباينة ودائماً ما تكون مطبوعة بطابع الجو السياسي والمعرفي العام الذي يكون سائداً، من هذه الفرضية سأشرع في أن أصِف على وجه الدقة نظرة الغرب للإسلام في القرون الوسطى، مشخصاً للعوامل السياسية والتحولات الإجتماعية والمعرفية التي حدثت في المجتمعات الأوروبية آنذاك، وكانت ذات تأثير بالغ في تشكيل تصوراتهم عن الإسلام.

عندما نشطت الملاحة البحرية لأوروبا وبدأت في استرجاع المدن التي فتحها المسلمون – التوجه الذي عُرِف بحركة الإسترجاع والتي بدأت في القرن الثامن عشر  الميلادي- آنذاك كانت تسود في الغرب اللاتيني رؤية خرافية عن الإسلام؛ فالمؤلفون اللاتينيون في تلك الفترة حاولوا أن يُلبُّوا رغبة الجمهور في رسم صورة مُشَوَّهة عن المسلمين والعالم الإسلامي الذي يرون أنه احْتَلَّ أراضيهم، لم يسعَ هؤلاء المؤلفون في رسم صورة حقيقية عن الإسلام لذا اعتمدوا على خيالهم فقط، وبمساعدة الكنيسة تم تشكيل صورة عن الإسلام استمرت حتى القرن الثاني عشر الميلادي، ملخص هذه الصورة؛ أن النبي محمد كان ساحراً دمّر الكنيسة في أفريقيا وفي الشرق بالخداع، وكان يبيح الاختلاط الجنسي العام، ووُصِف المسلمون في الأدب الشعبي بأنهم وثنيون يعبدون النبي محمد. تشكَّل في هذه الفترة أدب خرافي غزير جداً حول الإسلام والعالم الإسلامي الذي هو العدو الأول للعالم الغربي المسيحي، معظم تفاصيل هذه الصورة الخرافية كانت ناتجة عن روايات إسلامية تم تشويهها من قبل مسيحيي الشرق آنذاك كما أشار المؤرخ الفرنسي مكسيم رودنسون (١).

إلا أنه بعد سقوط طليطلة المنارة الإسلامية العظيمة سنة ١٠٨٥م في يد ألفونسو السادس ملك قشتالة، اكتشف زُمْرَةٌ من العلماء اللاتينيين المهتمين بالطب والفلك والفلسفة أن للعرب المسلمين إرث مقدر في هذه العلوم، وجدوا أن أهم كتب العالم القديم عن الطبيعة والطب والفلسفة موجودة في المكتبة العربية، فالغرب اللاتيني حسب بعض المؤرخين حتى القرن الثاني عشر الميلادي لا يعرف لأرسطو سوى مبحث المقولات وكتاب في التأويل(٢)، الآن بعد سقوط طليطلة وجدوا ترجمات عربية لمؤلفات إقليدس وبطلميوس وجالينوس وأبقراط، بشروح أعلام الفكر الإسلامي عليها كالخوارزمي وابن سينا وابن رشد (٣)، بالإضافة لشروح ومختصرات الفلاسفة المسلمين على مؤلفات الإغريق بشكل عام، بمساعدة اليهود شرعوا فوراً في نقل وترجمة هذه المؤلفات العربية إلى اللغة اللاتينية التي كانت لغة التفاهم المشترك في أوروبا آنذاك (٤)، أهم وأول كتاب تُرجِم من العربية إلى اللاتينية وكان له تأثير عظيم في الفكر الأوروبي في تلك الفترة هو موسوعة الشفاء لابن سينا الذي تُرجم أكثر من مرة وبأكثر من لغة (٥)، مهما يكن من أمر بدأت تتشكل في أذهان المفكرين الغربيين صورة أخرى عن العالم الإسلامي مضادة تماماً للتي أشاعتها الكنيسة، رغم أن هذه المؤلفات العربية في الطبيعة والفلسفة لم تزودهم بمعرفة دقيقة عن الإسلام إلا أن ذلك لم يمنعهم من أن يبحثوا عنه، لذلك نجد أن أهم مُؤلَّف كُتِبَ عن الإسلام في تلك الفترة ويبتعد كثيراً عن الصورة الخرافية المشوَّهة التي أشاعتها الكنيسة، وفيه نزوع لوصف مبني على معلومات حقيقية يُوصَفُ فيه المسلمون بأنهم بشر كالآخرين يعبدون الله على طريقتهم، بأسلوب خالي من الشتائم، كان من قبل طبيب أسباني يُدعي بيدرو ألفونسو -وهو طبيب ملك إنجلترا هنري الأول، ومترجم لبعض المؤلفات في علم الفلك- صورة كهذه عن الإسلام لا يمكن أن تصدر في ذلك الوقت إلا من عالِمٍ متخصص في الطب أو الفلك أو الفلسفة تَعرَّف جيدا على المؤلفات العربية في هذه العلوم ثم توسَّع في معرفة العالم الإسلامي الذي أنتجها، شيئاً فشيئاً في القرن الثاني عشر الميلادي أُسِّسَت مدرسة للترجمة وظهرت مدارس للفلاسفة المسلمين في الغرب، كلمة فيلسوف أصبحت شبه مرادفة لكلمة مسلم، إذن الاحتكاك العلمي بالحضارة العربية الإسلامية عَدَّل بعض الشيء في نظرة الغرب للإسلام، العداء بالطبع قائم وموجود فحتى هؤلاء العلماء والمهتمون بالفلسفة من المفكرين الغربيين أتباع ابن سينا وابن رشد، يُشيعون أن هؤلاء الفلاسفة المسلمين العظام في نظرهم يسخرون من القرآن سراً، إلا أنهم تصدوا لتلك الصورة المشوَّهة التي تصف المسلمين بالوثنية وتَنسِب إليهم سلوكيات جنسية غير حقيقية لأغراض حشد وتعبئة الجمهور ضدهم “حروب الإسترجاع”. المعرفة بالعقائد الإسلامية وتعاليم الإسلام بشكل عام الآن متاحة على أوسع نطاق، كما أن هناك أكثر من قناة تساعد على ذلك، فمثلاً كان هناك عدد كبير من التجار الأوروبيين تجمعهم علاقات صداقة طيبة مع المسلمين، واجهوا أيضاً الأحكام المتسرعة التي تطلقها الكنيسة على الإسلام، حركة التجارة بشكل عام كانت عاملاً مهماً في نشر معلومات صحيحة عن الإسلام و العالم الاسلامي، يذكر لنا فرانشيسكو غابرييلي وهو باحث مقتدر في هذا المجال أن عناصر الثقافة المادية والفكرية الإسلامية وصلت إلى إيطاليا كمثال من خلال التجارة أولاً ثم لاحقاً بواسطة الهجرة الثقافية الكبيرة من أسبانيا المسلمة (٦)، كما أن هناك عاملاً آخراً ساهم أيضا في تعديل صورة الإسلام في أذهان الجمهور الغربي وهو ظهور فئة من المفكرين الأوروبيين مناهضة للإكليروس وناقدة لسلطة الكنسية وممارساتها، هذه القوى الإجتماعية الجديدة عندما تحتفي بتقوى وعلم بعض العلماء المسلمين يكون الهدف من ذلك بصورة غير مباشرة نقد رجل الدين المسيحي. بالتالي في القرن الثالث عشر الميلادي تراجعت سلطة الكنيسة في المجتمعات الأوروبية بعض الشيء، الشاهد على ذلك الخلاف الكبير الذي نَشَبَ بين الكنيسة والإمبراطورية، أي بين البابا غريغوار التاسع وفريدرك الثاني الذي اتُهِم من قبل البابا بجملة من الإتهامات من ضمنها أنه لايكره الإسلام(٧)، بالمقابل تراجعت أيضاً الصورة الكنسية العدائية للإسلام. أخيراً يجب الإشارة إلى أن ظهور المغول كقوة إمبريالية عظمى في القرن الثالث عشر أثَّرَ كذلك في المُتَخَيَّل الغربي عن الإسلام في تلك الفترة، فالعالم الإسلامي بعد إجتياح المغول تَحوَّل من أن يكون العدو الأول المهدد للغرب المسيحي الذي يجب نسج قصص وحكايا خيالية تُجِيِّش الجمهور ضده، الخطر الماثل الآن بالنسبة للغرب المسيحي هم المغول، كما أن كلمة وثني لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يوصف بها المسلم بعد أن تعرف الجمهور الغربي على العالم الوثني المغولي جيداً. كل هذه العوامل كانت بمثابة السياق التاريخي الذي مَهَّد لظهور ماعُرِفَ بالإستشراق؛ التوجه “المعرفي” الذي سنشخصه بذات المنهج في المقالات القادمة.

الهوامش 

(١) انظر كتاب جاذبية الإسلام لمكسيم رودنسون ص (٢١).

(٢) نفس المرجع السابق ص (٢٤).

(٣) أنظر كتاب تراث الإسلام، الجزء الأول، تصنيف جوزيف شاخت، ومراجعة فؤاد ذكريا، من سلسلة عالم المعرفة ١٩٧٨، ص “١٢١”.

(٤) شاكر مصطفى، الأندلس في التاريخ، ص “١٦٢”.

(٥) زينب الخضيري، ابن سينا وتلاميذه اللاتين، ص “٤٢”.

(٦) تراث الإسلام، ص “١٠١.

(٧) جاذبية الإسلام، ص (٣١).

عثمان فيصل

كاتب من السودان
زر الذهاب إلى الأعلى