
في صباح ممطر قبل خمسة عشر عاماً، أقلق مأمون التلب طمأنينة الطريق من البيت إلى النهر بصوت الهارمونيكا، قبلها كنا ساهرَين في ذروة العاصفة، نتحدث في الظلام قبالة نافذة تطل على القتامة الليلية لأشجار البان والليمون والبرتقال، نصمت بعد كل إضاءة للبرق، منتظرين ضربة الرعد، ثم نستأنف حديثاً مفككاً عن الحياة، والخيبات، والحب، والأدب.
أيامها، كان سودان ما بعد اتفاقية السلام الشامل، يزيح – إلى حين – سودان الأغاني الجهادية، والكراهية، وثقافة الموت، والقسوة على الاختلاف. ومثلما أقلق في ذلك الصباح الهدوء المقدس للريف، كان مأمون على وشك إقلاق طمأنينة المشهد الثقافي في السودان.
* المحرر
تدرّب مأمون في القسم الثقافي لصحيفة “السوداني” على يد الشاعر الصادق الرضي، قبل أن تتاح له فرصة تأسيس الملف الثقافي لصحيفة “الأحداث” في عام 2007، لتبدأ تجربة ملف “تخوم” الذي غير الكثير من قواعد العمل الصحفي، في جدله مع الدماء الجديدة لملفات صحف “الأيام”، “الأضواء”، “أجراس الحرية”، وغيرها، مما أسهم في إبراز النشاط الثقافي الذي عم السودان أيامها، وفتح أبواب الصحف لحقول وقعت طويلاً خارج التغطية الصحفية.
قبل العام 2005، ظل الصادق الرضي، وعثمان شنقر، وأسامة عباس، عبر الملفات الثقافية للصحف التي عملوا بها، يهيئون جيلاً جديداً للعمل الصحافي، مثلما يحاولون لي ذراع الواقع المسمم عن طريق فتح كوات تتنفس منها الأصوات الجديدة وتقول اختلافها، في جهد غابت جدواه عن كثيرين، لكن ليس عنهم.
إلا أن واقع ما بعد الاتفاقية، أظهر الحاجة إلى شيء جديد. كان التوق إلى الجديد حمى ضربت الخرطوم بعد جوعٍ استمر لربع قرن، كانت هناك حاجة للتعبير عن الحرية والأمل والأسئلة الحديثة. لذا بالتقاط مأمون التلب لكل ذلك وتصميم ملف ثقافي يعبر عنه، فهو قد اعتلى ذروة الحدث، واستغرق مطلوباته الآنية، وسار بها.
ثمة عامل أتاح لمأمون حرية أن يفعل وأن يختلف، فوسط حذر الناشرين الذي ينأى بهم عن أي مجازفة، أتيحت له فرصة أن يحصل على عدد الصفحات الذي يريده من الصحيفة، وهو ما لم يحصل عليه من تتلمذنا على أيديهم من صحفيين مخضرمين ظلوا يخوضون معارك يومية لئلا يتغول الناشرون على صفحاتهم القليلة التي ينظرون إليها بعين التاجر بوصفها صفحات خالية.
أجاد مأمون الاستفادة من السانحة، فابتعد عن اقتفاء مألوف الصفحات الثقافية، وحول الملف من صيغته الصحفية الجامدة التي تنقل أخبار الفعاليات وتنشر على استحياء قصيدة أو قصة، إلى ملف فاعل في ذاته، وحقل للتجارب الجديدة، فبجانب قيامه بدوره الصحفي الكلاسيكي، فقد انفتح على حقول مهملة، أو في أحسن الأحوال كانت من قبل تأتي كديكور خفيف، مثل التشكيل، والسينما، والمسرح، وعلم الاجتماع، وتاريخ التطور البشري، كما بذل صفحاته للمقالة الحديثة، دون تقيد بمسلمات صحفية معروفة عن المساحة وعدد الكلمات، هذا مع إفساحه للقصص الخبرية، والترجمات، والحوارات طويلها وقصيرها.
يصعب التكهن بالوقت الذي بدأ فيه مأمون يخيط رؤيته الخاصة للعمل الثقافي، لكن يمكننا المجازفة بافتراض أن فتنته الباكرة بالمسرح والتشخيص تلميذاً في مراحله الدراسية الأولى، ربما كانت السماد الذي نمت عليه مواهبه الأخرى في ما بعد، لاسيما الشعر.
ومثلما وصفته الكاتبة ميسون النجومي في منشور لها على “فيسبوك”؛ فإن لمأمون “تصوراً عضوياً للثقافة”، وهو حقاً مثلما تقول: “لا ينتهي عند ورق الكتابة أو كانفا الرسم، أو مخرطة النحات، بل يمتد في الشجر والطرقات وضحكات الناس، فكل الحياة عمل إبداعي لدى مأمون”.
هذا التصور العضوي، وإن لم ينضج تماماً قبل دخوله في تجربة “تخوم”، إلا أنه كان كافياً لإحداث شكل مختلف يتسق والمرحلة التاريخية أيامها، فساهم في جعل الملف الثقافي منطقة تتحرك فيها الثقافة وتريح مفاصلها عليه، في الوقت الذي أسهم “تخوم” في نضج مأمون نفسه بداهةً، فانتهى به الأمر إلى صيغة ربما كانت جديدة على تقاليد النشر الأدبي والثقافي في السودان، إذ “رفع الحجاب عن المشاركة في الملفات الثقافية، … أخرجها من دائرة مغلقة محدودة، نحو دائرة مغلقة أكثر براحاً” كما تقول النجومي، التي أتفق معها في أن أحد أهم أسباب نجاح تجربة ملف “تخوم”، هو مأمون نفسه، كونه ظل “يرحب بالمختلف والغريب والجديد، وليس في عقله أي مصفاة رقابية سوى الركاكة”.
لتخمين السبب وراء كونه عاملاً رئيساً وراء نجاح الملف، تبرز ملاحظة الشاعر عبد الرحيم حسن حمد النيل، عن قدرة مأمون على الانهماك بكلياته في أية فكرة ولو كانت إعداد “صحن فول”، ومن ثم يمكنه الانطلاق إلى أخرى دون التفات – يقول عبد الرحيم – وهو ما ممكنه من “تحرير وإعداد الملفات الثقافية والفعاليات، واستغرقه هذا الأمر حتى صار جزءاً منه، ومن ثم كان هو أكثرنا احتفاءً بأي شيء وأي كائن وأي فعل، ولديه طرائقه التي تشبه الأطفال في هذا الأمر”.
كانت نتيجة هذه المثابرة – برأي عبد الرحيم – أنه “لا يمكن اليوم الكتابة والتأريخ للحركة الثقافية في السودان بعد عام 2000 دون التطرق إلى فاعلية مأمون وكتابته، بل وحياته ككل”.
ويمكننا أخذ تقييم الروائي والقاص الهادي علي راضي لتجربة مأمون في العمل الصحافي عبر الملفات الثقافية، وعبر المبادرات الثقافية الأخرى، نموذجاً للإيجابية التي وجدها عمله في ذروة نشاطه. يقول الهادي إنها تجربة “متفردة وساطعة، ويشهد على ذلك ملف (تخوم) وملف (سديم) بالصحف السودانية، ويحسب له أنه عبر هذين الملفين قدم للمشهد أسماء مهمة في شتى ضروب المعرفة، وأدار حوارات ثقافية لامست قضايا أعلى سقفها المجتمع وأدناه السلطة بإطلاقها. إلى جانب ذلك تظل مبادراته ومشاركاته في العمل العام المرتبط بما هو ثقافي، سواء أكان على مستوى نشر الكتب والدوريات، أم تنظيم معارض الكتب والمهرجانات، أم ما يدعم حقوق الفرد والمجتمع، تظل هذه المبادرات علامات مضيئة في سياقها التاريخي الراهن والآتي”.
* الجنوبي
حين دخل مأمون الجناح الجنوبي لجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا “كلية الهندسة”، كان هادئاً هدوءاً مريباً وسط زحام الحياة الذي طبع المكان، كثير الصمت وصوته خافت إذا تكلم، إلا أنه تسلل إلى نشاط الجامعة مثل الماء، بمثابرة وبلا ضجيج، حتى انفجر يوماً بشخصيته الأخرى، شخصية الشاعر الذي يُسمع صوته، ويجعل نفسه واضحاً أمام مرآة التذوق.
“الجنوبي” مختبر لا يهدأ. صدفة دبرها التاريخ، جعلته في حقبة بداية الألفية إلى منتصفها، محتشداً بالشعراء والساردين كما لم يحدث من قبل. جاء مأمون في لحظة القلق التي تسبق العاصفة، اللحظة التي تكتشف فيها، إن كنت شاعراً، كم أنت كثير في الجنوبي، كانت تلك لحظة السؤال: وماذا بعد؟
يقول الشاعر هاشم يوسف: “كان الجنوبي عامراً بعددٍ كبير من الشعراء المجيدين، أذكر أن الشعر لم يتوقف يوماً عن العمل هناك. كان يبدو عليه [مأمون] من البداية ومن البعد أنه صعب المراس. على أي حالٍ كان مأمون هناك، واحداً نادراً بين هذه الذئاب الشرسة المجللة بالاختلاف”.
يقول الشاعر عبد الرحيم حسن حمد النيل: “كتب مأمون التلب الشعر بتدفق، في الحافلات، وأشجار الشاي، وقعدات الأصدقاء، وكنا نلتقي في باحة الجامعة كل يوم لنفاجأ بأنه يقيم منتدىً شعرياً أو يدعو له”.
يقول الشاعر مغيرة حسين حربية: “يكون المكان خاوياً، منسياً، ضجراً، منزوياً، خافتاً. يكون المكان لا شيء، حتى يحضر مأمون التلب”.
هاشم: أبقى مأمون جمرة الشعر متقدةً حولنا، كنتَ تراه فجأةً واقفاً في منتصف (الجنوبي) يتلو مراتٍ شعر أمل دنقل، ومراتٍ أخرى شعره الخاص على الجميع، بصوته المعدني الرهيب. كانت المنتديات والقراءات الشعرية تنفجر فجأةً في المكان بسبب حنجرة هذا الشاعر، يبدأ فقط بقراءة الشعر دون ترتيب مسبق، وإذا بالناس واقفين حوله للاستماع ذاهلين وراضين سعداء.
عبد الرحيم: مأمون التلب ليس شاعراً ومحرراً ثقافياً فقط؛ إنه مناخ كامل لحالة الكتابة نفسها، وهو أيضاً حفلة برية ضارية.
مغيرة: لعبة التلب الأساسية مع الوجود، هي لعبة المكان والطفولة الأبدية. لعبة العبث الجدّي بكل شيء والذهاب للمغامرة بقلب طفل، يَعجِن الشعر بيدين صغيرتين ويشكل مكانه الشعري، كل مرّة، من جديد، ولا يخشى النسيان.
هاشم: يتوضأ مأمون ثم يعبر المسافة من كافتيريا “الشعبي” حافياً إلى النجيلة، ليصلي، ترى الوجه باسلاً والشاعر يسير بقوة: الخطوات مسرعة، العيون ثابتة، النظرات صارمة، وهو يمشي حثيثاً وبعزم. كان واضحاً أن الشاعر ليس ذاهباً ليصلي فقط، بل هو في الطريق ليحتضن رباً مقابلاً له في الحنان والجبروت.
مغيرة: يذهب التلب، ببراعة، صوب تفتيت الممكن، شعريّاً، يُشكل، بحذقٍ متمردٍ، يفاعتَه الخاصّة، لا لينضج، ولكن، ربَّما، ليعود من هذا الذهاب البارع والمفتّت والفاتن، في آن.
هاشم: مرت فترة كان مأمون يأتي بأوراقه وأشعاره الجديدة كل يوم، ليوزّعها بين الجميع، كان هذا كله لطفٌ كبيرٌ منه وعناية خالصة بالشعر. لو أتيت إلى الجامعة من أي مكانٍ أو أي زحام في أي يوم؛ لوجدت مأمون قد كتب قصيدةً جديدة، خطها بخطه البديع أو طبعها على الكمبيوتر. ليس النهر هو ذاته كل يوم حيث يوجد مأمون، ليست الوهلة هي ذاتها. نعم كل يوم قصيدة جديدة، ليس ذلك بمستحيل طالما هناك شمسٌ وتحتها مباشرةً دون حجاب، تلك الدابة الدؤوب العتيدة التي اسمها مأمون.
* الشاعر
أخلص مأمون للشعر منذ البداية. حين جرفتنا حقول أخرى وأغوتنا احتمالات مختلفة لكينوناتنا – نحن ثلة شعراء الجنوبي – ظل مأمون سريع النفور من تلك الألوان الأخرى، يدخلها مجرباً لكنه لا يطيل البقاء فيها، يعود شاعراً خالصاً مرة أخرى، منكباً على غمز اللغة لتتحرك، ومتذوقاً ما احتلب منها وما حصّله الآخرون.
لمأمون احتفاء لا ينطفئ بالشعر والشعراء، يشبه جامع التحف، يلتقط جين الشعر في اللافتات والدعايات الرديئة والموسيقى وفوضى الأسواق.. يرى شعراً في كل شيء.
من مئات النصوص التي كتبها، لم يطبع إلا مجموعتين، ربما ليقين دفين أنه يكتب نصاً أبدياً واحداً لا يجوز اقتطاعه بين غلافي كتاب؟ أو ربما هي تعقيدات أخرى.
يقول الشاعر مغيرة حربية: “في كتابه (وحش التجوال)، أولاً، يُحدِّق الطفل عالياً، يتساءل في لا براءة، بل بغضب: “أيتها السماوات، التي شاهدت الانتهاك المُبرّ لجراحات شاعرٍ وحيدٍ يعوي، كيفَ تمرّين على الأرض، يومياً، مثلما يعبر النهر مجراه، دون أن تسقطي؟”.
في شعره، مثله في كتاباته الأخرى، يتناسل الدوئُّ هائلاً. يمسك مأمون بالصرخة جيداً ومن ثم يقذفها، مُحكَمَةً، في وجه القبح. لكنه، كذلك، يقذف ضحكته المجلجلة، الرنّانة، البهيّة في شوارع الخرطوم التي أكلها الأسى. يتكاتف مع ثُلَّة الأصدقاء لفعل ما يمكن فعله، إزاء الجمال، بالمحبة ولا شيء خارج المحبة.
في كتابه (طينيا)، ثانياً، يتعلم الطفل أن يَجرَح، يُدمي، يُخرّب، يُفَكِكَ اللعبة، لعبة المرح والفظاعة، وأن يتكلم مثل نبيٍّ عجوز: “عندما خُلقت اليد، تورَّدت شهوات الجسد الخامل/ انعقف عُنقُ الوردة/ تكوَّن الوتر في خيال أصوات الطبيعة/ تقشَّفت الحلمة النهديَّة تنتظر الأصابع”.
هذه محاولة للإمساك بلحظة ما من مأمون التلب في حركته اللانهائية، تقول أقل مما تحمل صورته، فمأمون نحن- أبناء وبنات الليل الطويل – من أثخنتنا معركة أن تحيا في هذه الحقبة؛ حقبة ضمور الأشواك لتنبت مكانها النار. فانظروا إليه.. انظروا إلينا.