شهادات

حوارات الفلسفة(2)

مع خالد تورين

هذه سلسلة حوارات أجريتها مع صديقي الرائع خالد تورين،ضمن إحتفالات الزريبة باليوم العالمي للفلسفة في نوڤمبر2019.(المحرر)

 

– أستاذ خالد نرحب بك مجدداً في حوار يوم الفلسفة العالمي، وقبل أن نبدأ في خريطة موضوعات نقاش الليلة؛ أود أن أنقل إليك مناشدة بعض الأصدقاء المطالبة بتوضيح نقطتين بدتا غامضتين خلال نقاشنا الماضي أولاً: مسألة الوجود لماذا هو الحقل الذي ينبغي لزهرة الفلسفة أن تونع فيه؟ ثانياً:-يبدو أنه سؤال بيداغوجي- عن منهج الفينومنولجيا، ما هي الأسس التي يقوم عليها هذا المنهج؟

– شكراً العزيز سوار للمرة الثانية، بالنسبة لمسألة الفلسفة وسؤال الوجود، أعتقد أنه السؤال الأشمل والأكثر عمقاً، لماذا؟ يقول هيجل أن كل الموجودات لها صفة وهي صفة الوجود، وبالتالي هي الصفة الأعم التي تشمل جميع الموجودات على الرغم من أنه ليس بموجود، ويبين هنا التطابق بين الوجود العدم ، وإذا كان الوجود ليس بموجود فما هو طبيعته وماهيته؟ هو فكرة في النهاية، أي هي الفكر نفسه، وما الفكر في أقصى تجلياته سوى الفلسفة.

أيضاً هايدغر يذكر بأن الوجود هو الذي يسمح بظهور الموجودات؛ ولكن جوهر الوجود ليس بموجود،و له مقولة شهيرة تؤكد أن الفكر دوما كان على مستوى الكينونة، وما الفكر  إلا عملية الفلسفة نفسها، والكينونة التي تكون الفكر في مستواها هي المبتدأ ذلك لأن الوجود يكون به ومعه دوماً.

 كل تلك وموضوعات أخريات-يطول الحديث فيه- يجعلنا نقول بأن الفلسفة سؤالها الأول

هو الوجود، بل يتطابق ويتماهى الفلسفة مع الوجود.

بالنسبة للسؤال الثاني عن المنهج الفينومولوجي طبعا هو منهج بدأ مع هوسرل ولكن أخذ مناحي عدة ومختلفة، ولا أستطيع هنا لضيق المساحة أن أبين فروقات التفلسف الفينومولوجي عبر مختلف الفلاسفة؛ ولكن بشكل عام يمكن القول بأن الفينومينولوجيا طريقة في التفكير تقوم، أولاً على أن الظواهر لا توجد إلا في الخبرة المعاشة، عليه لا يوجد فصل مطلق بين الذات والموضوع، وإنما الذات في تعالق دائم مع موضوعه “الوعي القصدي”، ولا يمكن أن تتم عملية الفهم للظاهرة، إلا من خلال التخلص من الأحكام النمطية والجاهزة عن الظاهرة والعالم بأكمله، ومن هنا تأتي مسألة تقويس العالم والرد الماهوي، في الفينومينولوجيا علينا أن نستمع وننصت للظاهرة وتركها توجد، إذا أردنا الفهم للوصول إلى ماهيات وينابيع الظواهر والأشياء، باختصار الفينومينولوجية تجعلك تدخل إلى الظاهرة موضوع الفهم والتأويل من الداخل لا من الخارج، أو كما قال هايدغر الفينومينولوجيا هي “نحو الأمور ذاتها “.

– جميل سأكتفي بهذا التوضيح الذي أرجو أن يزيل ما رشح من غموض في الحصة الماضية، وسأدخل مباشرة في ورشة اليوم، من يشتغل بالفلسفة خارج الأفق الأورأمريكي يواجه تحديين رئيسين داخل مجتمعه فمن جهة  أولى، يُتهم بأنه تغريبي يسعى إلى سلخ المجتمع عن عاداته وتقاليده وأديانه وقيمه السمحة! ولتسويغ هذا الرفض يُوظف أحياناً بشكل صريح أو ضمني خطابات فلسفية للرفض، فمثلاً أاستخدم خطاب ما بعد الحداثة بشكل سافر في هذا الفعل فبما أن السرديات الكبرى التي تقدم رؤى  شمولية للكون قد سقطت وتلتها فلسفات الإختلاف والاعتراف،..الخ ظهر من يستخدم حجة الإختلاف هذه لرفض الفلسفة بوصفها فكراً غربياً ونحن مجمتع آخر متباين ولنا خصوصيتنا وثقافتنا وكل الثقافات متساوية عائشة في براديمات غير قابلة للمقايسة أو المقارنة’incommensurable’إذن لاداعي للفلسفة! كيف تتعامل مع هذه القضية؟من جهة ثانية: يواجه المشتغل بالفلسفة أيضاً خارج ذاك الأفق أنه مهما سعى ففي أفضل الفروض فإنه فقط يصبح تقني فلسفة يكتفي بعرض ومناقشة التيارات الفلسفية ؛ ولكنه لا يستطيع أن يتفلسف لماذا الفلسفة ممتنعة إلى هذا الحد؟وهل هي ممتنعة فعلاً؟

– أولاً دعني أنطلق من هذه الفرضية حتى تساعدنا على الإجابة عن السؤالين المهمين. الفرضية هي أننا كمجتمعات نعيش حالة تردي حضاري ووجودي، نحن الآن في مرحلة وحالة عجز وشلل تامين، أصبحنا خارج نطاق الإبداع والفاعلية الوجودية، ومن هذه  فمن الطبيعي أن نتخبط فيما يمكن أن نفعله وكيف نتعامل مع أنفسنا ومع الآخر الحضاري وهنا يٌستدعى الغرب مباشرة.

ما يتم قوله عن فلسفات مابعد الحداثة،وفلسفات الإختلاف/ التعدد بالشكل الذي ذكرته يعبر عن التردي الوجودي الذي سميته في أوضح تجلياته وإنحطاطه؛ لماذا أقول هذا؟ الذين يرفضون الغرب رفضا مطلقاً ويشيطنونه بحجج ما بعد الحداثة، هم من فهموا ما بعد الحداثة بشكل مبتور ومشوه وبقالب يريدونه هم، ذلك لأنهم يتعاملون مع كل شيء في العالم والوجود بطريقة أيديولوجية /اختزالية /ماهوية /تصنيفية / حدية، لهذا هم يرفضون التمركز الغربي ويصنعون تمركزاً وانغلاقاً للذات الذي يدافعون عنه بصورة أشد وأعتى من التمركز الغربي! ما بعد الحداثة إختلاف، ولكنه إختلاف داخل وحدة، الإختلاف لا يعني الإنفصال والبتر، كأننا نتعامل مع الوجود والثقافات كجزر وأجزاء معزولة، الإختلاف يعني التعدد وليس الثنائية الضدية، لذلك الآخر هو آخر هو أنت! الغرب والشرق وكل حضارة نعتبرها آخراً، ماهو إلا نحن في صورة أخرى والعكس صحيح، هذا التعامل الجوهراني والماهوي مع الهوية هو ما أضر بنا وهذا ما هو ضد فلسفات ما بعد الحداثة نفسها أي أنهم يتعاملون مع مابعد الحداثة بمنطق مفارق لها تماماً؛بل وعلى النقيض منها.

لا يمكن أن تقوم حضارة عظيمة في العالم، إلا من خلال تفاعلها مع حضارات وثقافات أخرى، مثلاً ما هي الثقافة العربية والإسلامية؟هي مزيج مركب من كم ثقافي وحضاري هائل،وهذا حال كل ثقافة.

أنا شخصياً ناقد للتمركز والأحادية الغريبة، ولكن لا يمكن أن أرفض كل الغرب بحجة نقد التمركز، أقبل نقد كل من فوكو ودريدا دولوز وهايدغر ونيتشة وأركون ومحمود محمد طه للغرب، وأرفض نقد كل الإتجاهات الأيديلوجية المقومنة.

بخصوص السؤال الثاني : من البدء أقول بأن التفلسف ممكن ما وجد الإنسان، بل هو ضروري في وجوده،ولكن لماذا نحن لا نتفلسف ونبدع فلسفياً الآن؟ الإجابة مربوطة بالذي قلته في البداية، الإنحطاط والتردي الحضاري والوجودي في كل شيء، حالتنا حالة سقوط وجودي بالكامل، ولذلك كل ما نفعله سواء أكان في الفلسفة أو غيره، يعتبر باهتاً ومسيخاً لأن وجودنا كله أصبح باهتاً ومَسخاً مشوهأ؛ لن ينقذنا إلا التحول والإنقطاع الكبير الذي يمكن أن يحدث في نمط وجودنا.

– الآن نود أكثر أن نستكشف مظاهر هذا الهزال الوجودي في تمفصلاته العينية في موضوعات مركزية معاشرة لنا جميعاً لنرى كيف تتعامل رؤيتك الفلسفية معها ونبدأ بسؤال الدولة كقضية وجودية وقفت كعقبة كأداء أمام الإنسان السوداني وبتكثيف واختصار شديدين، نود أن نسمع القول الفلسفي في دولة مابعد الإستقلال باعتبار أننا قبلها كنا موضوعا لذات آخر-إذا تتفق مع هذه القراءة الشائعة طبعاً- ونلنا الإستقلال ولدينا الآن ست عقود ونيف،من عمر هذا الاستقلال ولا أريد منك قراءات إجتماعية وتاريخية وإقتصادية وثقافية لدولة ما بعد الاستعمار وإلا لن ننتهي! أود منك أن تستخدم أطروحتك الأنتولوجية هذه، وتبين للقارئ ثلاث إشكاليات فلسفية كبرى تسببت في هذا الإنحطاط والهزال الوجودي وجعلت من فكرة بناء الدولة هذه مؤجلة دائمة؟

– يمكن أن نقول بأن أعلى تمفصلات هذا التردي الوجودي الذي وصفناه في السابق يتمثل في الدولة التي هي المرآة الأكثر وضوحاً لعكس صورتنا، الإشكال الأكبر في مسألة الدولة عندنا هو أن الدولة الحديثة أضحت كأنها الابنة غير الشرعية داخل ثقافتنا، لذلك لم نتسطع طوال تاريخ ما بعد الإستعمار التعامل اللائق مع مسألة الدولة الحديثة ، هنا المفارقة والهوة الكبيرة بين الدولة وثقافتنا، ولذلك لم تستمر فترات الديمقراطية سوى سنوات معدودة، فالديمقراطية كثقافة للدولة الحديثة تتناقض مع الثقافة التي نحملها ونوجد فيها، وهذا هو سبب الدراما ومأساتنا في مسألة بناء دولة.

أنت اقترحت علي ثلاثة أمثلة تتمفصل فيها تلك الإشكاليات سألتزم بها لتوضيح الفكرة أولها: قضية علاقة الدين بالدولة أو ما عُرف بمسألة العلمانية، فالمعروف سلفاً أن الدولة الديمقراطية لا تكون ديمقراطية حق الدمقرطة إلا بالعلمانية؛ ولكن لم تكن العلمانية موجودة معنا حتى في الفترات التي سُميت بالديمقراطية، وأنت تعرف محنة مسألة العلمانية عندنا.

المثال الثاني؛ هو مثال الهوية، لم تتشكل مطلقاً فكرة الوطنية،الوطن نعرفه فقط من خلال التكوينات القبيلة، والمناطقية،..الخ. وبالتالي مفهوم المواطنة الذي يرافق الدولة الحديثة لم يتجذر كثقافة إجتماعية. وهذا ما أدى إلى هينمة ثقافة معينة دون ثقافات الوطن الأخرى،ومثال إنفصال الجنوب أوضح.

المثال الثالث: هو مسألة الديمقراطية نفسها، فالديمقراطية عندنا شعار سياسي فوقي فقط ولا يوجد حتى عند الذين يتشدقون بها.

هذا الإنفصام والشرخ هو سبب مأساتنا مع الدولة. السبب في ذلك هو أننا تعاملنا مع دولة مابعد الإستعمار بطريقة غير إبداعية وإبتكارية، حتى مع الثقافة التي بحوزتنا لم نفعل، فلم نبدع ونبتكر في كيفية بناء الدولة ديمقراطياً، والمشكلة ليس في أن الدولة- دولة الإستعمار -أنها جاءت دخلية علينا وهي غريبة عننا وذلك هو سبب المشكلة كما يُقال ويُروج، الإستعمار ظاهرة موجودة مع وجود البشر في أي زمان ومكان، لكن كيف التعامل مع الوافد الجديد هذا هو السؤال الأساسي؟ كيف تعاملنا مع الأصالة والمعاصرة؟ هل كان الإشتغال على الأصالة والمعاصرة بطريقة الخلق والإبتكار والتوليف المبدع الخلاق؟ أم شوهنا الحداثة الوافدة وتشوهنا بها؟ هذا ما حصل بالضبط مع مسألة الدولة، شوهتنا الدولة الحديثة وشوهناها أيضاً.

– هذه الإجابة تقودنا مباشرة إلى قراءة للمشروعات التي قُدمت كهيئات لإدارة الدولة وفشلت، كيف نقرأ فلسفة فشل جميع المشروعات السياسية الكبرى التي طرحت خلال هذه الفترة يمنيناً ويساراً ووسطاً، بإيجاز شديد هل تمتلك هذه المشروعات رؤى فلسفية أصلا؟ً أم هي مجرد أمساخ مشوهة كما يمكن أن يُستنبط من إجابتك السابقة وأيضاً في ثلاث نقاط ما هي الإشكاليات الكبرى التي صاحبت هذه الأيديولوجيات التي حكمت دولة الإستقلال؟

– أتمنى أن أوجز، هذه المشاريع التي سادت هي تعبر عن ما قلناه بامتياز، هنالك ثلاثة مشاريع أيديولوجية ظلت متصدرة للساحة العامة، هي: الإسلامية،والقومية بأشكالها وأنواعها المختلفة، والشيوعية؛ حتى أوجز، أشخص المسألة في ثلاثة موضوعات كما اقترحت، أولى: تلك الإشكاليات أن تلك المشاريع هي أيديولوجية وليست معرفية، لذلك يسود فيها السياسي والنضالي أكثر من المعرفي، كم من المفكرين لدينا الذين أنتجتهم تلك الآلات التظيمية الضخمة؟ لا فكر ولا يحزنون!

المسألة الثانية: تلك المشاريع الأيديولجية التي ذكرتها هي أنها وجوه عديدة لعملة واحدة، وهي عملة غياب الديمقراطية داخل الثقافة التنظيمية والسياسية، وتغليب فكرة الجماعة على الفرد، وتكريس سلطة الفرد الواحد؛ أعطني مثالاً لحزب أو إتجاه سياسي غيــّر الزعيم عن طريق الإنتخاب؟ القائد هو الأب الذي يشكل سلطة فوق طبيعية،وهذا كله ناتج من الثقافة التي نحملها.

المسألة الثالثة: هي تعامل الدولة مع الوجود كله على الطريقة الأيديولجية والسياسية، فالآن لايوجد هواء نقي في المجال العام بسبب التلويث الأيديولوجي الطاغي، أغلب المثقفين مروا بالسجن التنظيمي والسياسي والأيديولوجي لمعرفة المجال العام.  لذلك نادراً ما تجد رؤية للدولة وللمجتمع والسياسة خارج تلك الأطر والقوالب.

زر الذهاب إلى الأعلى