طيور أبوكندي
الحيوان في الكون
كالماء في الماء
(جورج باتاي)
ثمة أماكن نزورها ونمضي فيها وقتاً دون أن نستكشف حيواتها السرية الحقيقيِّة، غافلين عن مكامن الجمال ومتجاهلين مُتعة تقليب وجوه العيش فيها كلما عبرنا بناصية ضَرَوةٍ صغيرة أو حلَّ بنا المقام في قلب سوقها الصغير أو إذا ما سلكنا الدرب فجراً إلى أي بيتٍ من بيوتها العامرة، مُكللَّين بغشاوات الندى المُتطايِّر ونهمين لمسامرات الصباحات الباكرة، وذلك حتى يَنهَل عمرنا القصير من عمق مُعايشاتنا اليومية لكل صغيرةٍ وكبيرةٍ قبل فوات الآوان. فالحياة برهة خاطفة تقنُص لحدثٍ ممتلىء ومعيوش ولا تحظى بعمر اصطيادٍ كامل. ولعل قرية أبوكندي، الواقعة في ضهاري جنوب كردفان، في مضاربها الشمالية الغربية، هي أحدى هذه الأماكن المسحورة ببساطة العيش وحُسن الحال وسماحة المآل. قرية تخفي وتظهر من جمالها، تُخاتل الزائر العابر ولا تبخل عليه إلا بقدر ما يبذله من مغامرات الولوج إلى مكامن السحر والأسرار والمعايشات اليومية. فهي كغيرها من القرى الوادعة الفريدة، تُخفي سحر حيواتها السرِّيَّة على الزائرين خفيفاً خفيفاً، فلا تجود بفيضٍ من فيوض هذا السحر إلا لمن توَّغل حميماً حميماً في قلوب الناس، مُنغمراً بحالاتهم اليومية ومتسكعاً في دروب القرية وحوافها، داخلاً إلى البيوت وخارجاً منها. في قرية أبوكندي يستيقظ الناس فجراً قبل الشروق، يصلِّون صلاتهم ويحتسون الشاي قبل أن ينصرفوا إلى ممارسة حرفتهم الأسيرة المُتمِّثلة في صناعة السبح. وهي حرفة فنَّانة يتقنها الشيب والشباب والشابات. فالصانع الماهر يبدأ نحت حبات السبحة مع انقشاع خيوط الفجر ولا يبرح عمله الفنان إلا لتناول وجبةٍ ما أو احتساء فنجان قهوة أو كوب شاي أو قبل غروب الشمس بقليل مع انسدال أشعة شمس الغروب. وهي قرية تُخيِّم كل آيات الصمت والسكينة والهدوء على حيواتها معظم فترات اليوم، كما لو أن ساكنيها كائنات بلورية شفَّافة تهبُط فجراً من السماء بخيوط الشفق وتعود إليها مُتسلِّقة خيوط الغسق رويداً رويداً.
يحكي أحد شيوخ الحِّلة عن تاريخ هذه الحرفة التي استوطنت في القرية حديثاً، قائلاً ’’جونا بحَّارة من الجزيرة (قاصداً من منطقة الجزيرة بوسط السودان) علَّمونا هذه الصنعة قبل 50 سنة. أمهاتنا وجدودنا ما علَّمونا الصنعة دي. شيبتنا القُدام أهل رعي وأهل زراعة‘‘. ويتم نحت حبات السِبَح من أعواد شجر القُضيم والبابنوس والعيَرَم والقَلنجة وفضيلة. وتُعد أعواد شجر العيرم وفضيلة من أجواد الأنواع المستخدمة في صناعة حبات السِبح. ويبلغ سعر شَدَة السبح، التي تتكون من عشرة سبحات، مابين 900 إلى 1000ج، وذلك حسب نوع السبحة والمادة الخام المُدخلة في التصنيع، حيث يتراوح سعر السبحة الواحدة ما بين 90 إلى 100ج. لكن يستفيد تُجار الجملة من منتجات هذه الصنعة أكثر من الصنائعية، بعد أن يجول التاجر بيوت الحِّلة بيتاً بيتاً، جامعاً كميات كبيرة من السبح بأنواعها المختلفة التي يقوم بتسويقها في الأسواق الداخلية والخارجية. ويتم تسويق السبح وبيعها في أسواق أم درمان بالخرطوم، كالسوق الشعبي وسوق البوستة أم درمان. ويبلغ معدل الإنتاج اليومي من السبح حوالي سبع سبح. والسبحة العادية يتم شرؤاها من صنائعية أبوكندي ب 70 ج وتباع في أسواق الخرطوم بحوالي 200ج، بينما يتم شراء السبحة الفاخرة بحوالي 200ج وتباع بحوالي 400ج. ويتراوح دخل أحد تجار السبح بالقرية ما بين 4 إلى 7 ألف جنيه في الإسبوع الواحد.
ولدى شيبة وشابات وشباب قرية أبوكندي تصور مستقبلي طامح إلى إنشاء مَشَغل حرفي مجُهًز بأدوات تخريط ونحت وتزييِّن وتلميع ونَظَم متطورة، بالإضافة إلى المواد الخام ومدخلات الإنتاج الأخرى المتوفرة محلياً. وبإمكان هذا المشغل أن يستوعب كل فئات الصنائعيِّة في القرية، أبرزهم الشابات والشباب، حيث من شأن هذا المشغل أن يخلق فرص عمل وتشغيل محلية ينعكس مردودها الإيجابي في زيادة الدخل وتحسين الأوضاع المعيشية، كما سيساهم هذا المشغل في الحد من هجرة شباب القرية إلى المراكز الحضرية ومدن الوسط البعيدة للعمل في مهن هامشية وشاقة وغير مجزية مادياً واقتصادياً. كما يمكن أن يتم تنظيم القوى العاملة في المشغل في جمعيات حرفية ــ تعاونية متخصصة حسب نوع السبح، بحيث تعمل كل جمعية على تخصيص نسبة من عائدات السبح لتطوير الصنعة والمشغل ولتوفير مدخلات الإنتاج للموسم الزراعي كل عام في فصل الخريف، حيث يزرع سكان القرية الفول والدخن والذرة. وسينعكس أثر هذا التطوير بشكل فعَّال ومباشر في زيادة المداخيل وتحسين سُبل كسب العيش. والمعينات التي يحتاجها المشغل هي: توفير المواد الخام بجلبها من مناطق بعينها بجنوب كردفان، كشجر العَيرم الذي يتم جلبه من الجبال الشرقية والذي يُعد من أجود أنواع الأعواد التي تدخل في عملية التصنيع والإنتاج، بالإضافة إلى توفير ماكينات نحت وأدوات تزين وتلميع ونظم، وبالمثل يحتاج المشغل إلى مُوَّلدات كهرباء لتوفير الإمداد المطلوب للماكينات.
ينتمي أهالي قرية أبوكندي إلى قبيلة البديرية الممتدة الأواصر مابين شمال كردفان وجنوبها، حيث يرجع تاريخ القرية إلى مائة عام مضت منذ أزمنة الكولنيالية الباكرة. وتحمل القرية إسم السلف الكبير المؤسس الذي كان يُدعى ’’أبوكندي‘‘، وهو أول من ’’غَّزَّا شجرته أو عوده هنا‘‘ كما يقول بعض شيوخ القرية الذين تشرَّبوا الكَلِم الشفاهي والقول المأثور الدارج والنازل برداً وسلاماً من أفواه وألسنة الأسلاف منذ قديم الزمان. وربما أبوكندي هي القرية الوحيدة في الكون التي يتصادى في أرجائها صوت آدوات صناعة السبح مُتخلِّلاً شَقشَقة طيور الفجر المنُبلج رويداً رويداً. ليس للناس هنا سوى الصمت المِدرار الذي ينكسر رقيقاً وعذباً، كلما حَّزَّت آداة النحت عود من أعواد شجرة من أشجار العَيَرَم الخضراء. إن صِّنعة السِبَح هي حرفة فنَّانة ارتقت وتحوَّلت مع مرور الزمن إلى طقس وجودي وروحاني وجمالي أكثر من كونه فن يدوي بديع وساحر ومتسامح تجاه الإنسان والطبيعة والكون. إنه طقس من طقوس الحضور الذي يستمد رهافته من فرادة إنسان فنَّان بقلب شجرة خضراء وخيال طائر شوَّاف.
لكن ثمة طائر جارح وقديم، طائر النهارات الحارقة الذي ظَّل ينَسِل من ريش جناحيه سرديات نزاع تاريخي ومتجدِّد بين البديرية الدهمشية وبني فضل. إذ ظَّل كل طرف من طرفي النزاع، ولعقودٍ عديدةٍ، يغذِّي مخيَّاله الاجتماعي بسردية ما تعيد إنتاج الذات الجماعية على ذلك النحو المؤسطر والمحفوف بتصورات مقلوبة عن جذور النزاع حول الموارد التي تحيط بقرية أبوكندي. إذ يتم تصور جذور النزاع وتخييِّله بشكل مضاعف، بحيث تظل الجذور الحقيقية أسيرة لحالات استيهامية تغذي السلطة الرمزية ونزوعات الهيمنة لكل طرف من طرف النزاع.
يعتقد البديرية الدهمشية، وهم الأسبق وجودياً وتاريخياً في أرض قرية أبوكندي، أن بني فضل ظلوا يزحفون من قراهم المجاورة على مر السنين، طمعاً في أرضهم ومواردهم بقريتهم التي يقطنونها منذ ما يقرب مائة عام. والقول السائد يزعم أن شيخ بني فضل وكبيرهم أتي إلى شيخ البديرية الدهمشية بقرية أبوكندي، طالباً منه السماح لهم باستخدام مضخات الماء، لأن مضخاتهم التي تم تركيبها حديثاً جفَّ نبعها ولم تعد تسقي لا الإنسان لا الزرع لا الحيوان. ومذاك، أصبح بني فضل يزحفون رويداً رويداً من تسعة قرى مجاورة لكي يَرِدِوا الماء من مضخات قرية أبوكندي.
وتعود جذور النزاع إلى نموذج التدخل الخدمي ــ التنموي المُضاد لأي انتقال وجودي حيوي وتحسين معيشي حقيقي وفعَّال، حيث مركَّز هذا النموذج المعطوب الخدمات في منطقة معينة تحوَّلت إلى بؤرة جذب ونزاع في نفس الوقت، نظراً لإنشاء سوق ومدرسة أساس بالقرب من مضخات المياه في قرية أبوكندي. فعلى سبيل المثال، يحتاج طلاب وطالبات قرية أم باعوضة المجاورة لقرية أبوكندي قطع مسافات طويلة للوصول إلى مدرسة الأساس الوحيدة بقرية أبوكندي. لذا كان من الطبيعي أن يزحف بني فضل من القرى الأخرى إلى هذه البؤرة الحيِّة التي حولها نموذج التدخل الخدمي ــ التنموي المعطوب إلى لعنة دائمة من التصورات والأساطير المقلوبة عن جذور النزاع، حيث تتنامى الاستيهامات التي أخذت تحولِّ طبيعة النزاع من نزاع مادي حول الموارد إلى نزاع يتمحوَّر حول الذات الجماعية التي يستهدف سلطتها الرمزية والمخيَّالية مُهدِّد خارجي مزعوم. إذ ظَّلت هذه التصورات والاستيهامات تغذِّي عملية إعادة الإنتاج الدائمة لأنا الجماعة، على ذلك النحو الذي غَمَر جذور النزاع ببعد من أبعاد التعالي الذي أخذ يجعل النزاع يدور في أضابير مخيَّلة الجماعة وأرشيف سردياتها أكثر من أرض الواقع وسياقاته الحيِّة وديناميته الفاعلة. إذ إن ساحة النزاع الحقيقية صارت المخيَّلة وليس الواقع الحيّ، وإن كانت المخيِّلة في هذه الحالة من حالات التشظي الكياني لأنا الجماعة ليست أقلَّ ملموسية من الواقع الحي نفسه، وهو ما يفرض على أي نموذج من نماذج التدخلات يهدف لفض هذا النزاع أن يكون قادراً على تحرير مخزون الاستيهامات والمحمولات المتعالية، بدفع طرفي النزاع إلى تبني سردية أخرى كاشفة لجذور النزاع ومسبباته الحقيقية، دون إغفال الأسس المادية لجذور النزاع بالطبع. ونظراً لأن نسق التفكير الطرفي ــ الريفي يستمد دينامية وحدته البنيوية من الحكي الشفاهي، أي من الخارج ــ إلى ــ الداخل، أو من الشفاهي ــ المُتفكِّر في كون قروي صغير لامتناهي، فبالإمكان توظيف ’’الحكاية‘‘ بأشكال وأساليب مختلفة في استدراج هذه المحمولات من أوكارها ومخابئها الثاوية في اللاشعور الجمعي. وذلك دون اختزال ’’الحكاية‘‘ إلى أداة أو سيط ناقل، بقدر ما هي تُعَّبر عن حالة انكشاف محايثة وكاشفة لموقع الذات الجماعية وأساطيرها وسردياتها التاريخية الثاوية في كل طبقة من طبقات موقفها الكياني تجاه نفسها ــ و ــ الآخر ــ و ــ الكون. ثمة كون أنطولوجي ورمزي شاسع، أكبر من الواقع الجغرافي والمادي للقرية، ظَّل يُشكِّل على نحوٍ خفي موقف العقل الطرفي ــ الريفي داخل كل حدثٍ وجودي أو علاقةٍ كيانيةٍ ما، متناغمة أو متشظيِّة، تسري في الظلام بين ضفاف الأبعاد المادية والرمزية لعلاقات القوة والهيمنة. فهاهنا، في قرية أبوكندي، ستظل تجربة حياة الضهاري الطرفية، بعوالمها الحيِّة ووجوداتها المغايرة، عصية بل ممتنعة على التفكير من خارج سياقاتها التي تتحكم فيها ديناميات ضارية وتحولات خفية ظلت تعيد إنتاج نسق التفكير الريفي ــ الطرفي بطرق وأشكال مختلفة.
قرية أبو كندي ــ جنوب كردفان
8 يناير 2020