هل الاعتقادات الروحية تجارب كونية؟
تتجلى أهمية الجوانب المعنوية بالنسبة للمنظورات الروحانية في ربط الإنسان بعظمة الكون اللانهائي، لكن نظرة النظّار من المهتمّين بأمور المعتقدات وصلتها بالإنساني ليست بنفس المنوال والمنظور، وإنّما هناك من ينظر إلى المعتقد الديني من زاويته العملية الاجتماعية والتاريخية والثقافية فقط في مقابل المتأملّين فيه على جهة الذوق والتجربة الشعورية والوجودية.
نقترح في هذا المقال تسليط الضوء على بعض من النقاش حول علاقة المعتقدات الدينية بحياة الأفراد وما إذا كان بالوسع الحديث عن معتقدات كونية، أم فقط سياقية وتداولية بحسب اختلاف الثقافات والبيئات الاجتماعية والجغرافية والتاريخية. فإلى أيّ حدّ يمكن الحديث عن دين كوني تشمل معتقداته وتصوّراته الناس جمعاء؟ بالتالي، هل يمكن الحديث عن كون المعتقدات ذات طبيعة كونية؟ أم فقط محلّية سياقية مرتبطة بالبيئة والحياة الاجتماعية للناس؟
أسئلة كثيرة إذاً تلك التي قد تطرح بخصوص المعتقدات الدينية، مدى كونيتها، أو خصوصيتها ومحلّيتها؛ غير أنّ الأهمّ من كلّ ذلك، يبقى هو ضرورة التشخيص العلمي لهذه الظاهرة الثقافية. فلئن كان دور الإيمان في الحياة العامة للناس بارزا وقائما بما لا يدع مجالا للشك، خلافا للموقف الوضعي؛ إلاّ أنّ ذلك لا يعني التسليم بأهمّية المقاربات اللاهوتية في البحث المنهجي حول تأثير المعتقدات على الناس في الفضاءات العامة مقارنة بالدراسات العلمية البحثية (السوسيولوجية والثقافية والتاريخية..) التي ترصد كيفية تأثير المعتقدات الدينية على طرق تفكير وسلوك الأفراد والجماعات.
توضيحا لهذا الأمر، نقترح تقديم بعض النماذج النظرية التي حاولت التفكير في هذه المسألة. وسوف نركّز بداية على نموذج الفيلسوف الألماني «فريدريش شلايرماخر» (Schleiermacher Friedrich) في مرافعاته حول الدين دفاعا عنه ضدّ المنتقدين والمعارضين له في المجتمع الحديث من خلال الصورة السلبية التي قدّموها عنه في القرن التاسع عشر («كونت»، «ماركس»، «فيورباخ»..). ثمّ بعد ذلك نتعرّض لبعض الدراسات المعاصرة حول كيفية تأثير المعتقدات على ثقافة وتفكير الأفراد انطلاقا من منظور اختلافي يعزّز القول بخصوصية هذه المعتقدات وسياقيتها.
ينطلق «شلايرماخر» في كتابه «عن الدين»[1] من دعوى أسياسية حول طبيعة الدين تزعم أنّه متعال على المقولات المعرفية والأخلاقية والثقافية المسبقة. فلمعرفة جوهر الدين، بحسبه، يلزم ترك المقولات المعرفية والمبادئ العقلية جانبا لصالح تأملّه ومعايشة تجربته الإيمانية شعوريا وليس معرفيا. فالدين بالمعنى الذي يقول به هذا الفيلسوف ليس موضوعا معرفيا ولا أخلاقيا ولا الميتافيزيقا، كما يزعم البعض؛ وإنّما هو يتجاوز الأخلاق والميتافيزيقا والعلم ليصبح خضوع الروح للامتناهي.
يقع الاعتقاد الروحي وفقا لهذه الدعوى فوق متناول المعرفة الموضوعية العلمية والأخلاقية والميتافيزيقية. إنّه بهذا المعنى بعيد عن تشويهات الممارسة الامبريقية، وليس يكون في متناول إدراك الفكر التأملي النظري. لذلك يرجع «شلايرماخر» الربط بين الأخلاقي والديني إلى تلك العقلية التي فكّر بها الفلاسفة فيه عادة، وحتى وعامة الناس.[2]
لكن في مقابل ذلك، يعتبر «شلايرماخر» الديني شكلا من أشكال الظهور والتجلي بالنسبة للروح البشرية، حيث ينبغي للناظر في أمره أن يحترم خصوصيته هذه، ويحافظ على استقلاليته عن كل معرفة أو قانون أو أخلاق أو سياسة حتى وإن كان يحتوي بعضا من كلّ تلك العناصر. إنّه تجربة شعورية تتكوّن من عنصرين مختلفين: الإحساس / الحدس، أو قل الباطن / الظاهر؛ ومعنى آخر: المضمر / الجلي.
يمثّل المعتقد الديني بهذا المعنى سعيا نحو الاتحاد بالمطلق،[3] ويصبح الإنسان بفضله مرآة وانعكاس للكون، حيث يحسّ بعظمة المطلق ويشعر باحترام كبير لكل ما هو أبدي وجليل ومطلق. فالديني بهذا المعنى له وجهان: وجه خارجي يتمثل في الطقوس والشعائر والعبادات، ووجه داخلي يتمثّل في التأمل الداخلي الباطني الذي يكشف عن معايشة لحظات التجلي الأولي للمطلق في الخلق. لذلك فالإنسان في تجربته الدينية يعدّ انعكاسا للكون والمطلق معا.[4]
يرى «شلايرماخر» بمقتضى ذلك أنّ المسائل الدين التقليدية (وجود الله، خلود الروح، المعجزات، الوحي، الإلهام والنبوات) مجرّد ظواهر لا معنى لها ما لم ينخرط الإنسان في تجربة داخلية عاطفية عن طريق إحساساته الشعورية وحدسه الباطني والتطلّع إلى المطلق اللانهائي. لذا فالمعارف والمفاهيم والمعتقدات الدينية الموروثة ثانوية مقارنة بهذه التجربة الشعورية الحية التي يحسّ من خلالها المرء بالصلة المباشرة بالمطلق.[5]
لا يتوجّه الدين إذاً إلى ما هو متناه أو خاص، وإنّما إلى اللاتناهي المطلق. فلذلك، ينصح «شلايرماخر» المعتقدين أنّه عندما الخوض في تجربة روحية ما، فلا يجب الانكباب على حفظ جملة من القواعد والتطبيقات الطقوسية، وإنّما التركيز على إيقاظ الاستعدادات العميقة في وجدانه لكي تؤهله للتعلّق باللانهائي، بالتالي لا يصحّ اختزال الديني في مجرّد مجموعة من الشرائع والأخلاق كما يفعل عامة الناس. إذاً، ليس الدين مجرّد فكر أو حدث وطقس، وإنّما تأمل وإحساس وشعور باطني.[6]
يتغلغل الروحي بالمعنى السابق في الشعور الذاتي ليحمل ملكاتنا الروحية، ويجعلها كلّها تسير في مجرى اندفاعاتنا الشعورية والحسية. لذلك يقع هذا الدين بالنسبة إليه بعيدا عن تلك الطقوس والشعائر المألوفة، وهذا ما يجعل فكرة الورع الديني الذي يتحدّث عنه الفقهاء سخيفة من حيث هي مجرّد التزامات تعبّدية طقوسية فاقدة للعمق متى فصلت عن هذا الشعور.
الإيمان بهذا الفهم لا يحتاج إلى كهنة، كما لو كان طلاسيم يتم حفظها وتلقينها تلقينا أعمى، بل يقوم على نوع من التثقيف الذاتي القائم على كون علاقتنا بالعالم وبالروح مباشرة، وهذا يساعدنا على مقاومة الانفعالات السلبية والأنانيات الفردية والتوجّهات المصلحية الدنيوية الآنية.
حاصل الكلام بخصوص هذا الموقف أنّ جوهر الدين يكمن في تأمّل العالم ومعايشة تجربته حدسا وشعورا. لذلك أسقط «شلايرماخر» فكرة التوجّه بإدراكنا إلى الطبيعة والأشياء المتناهية لمعرفة الإله لصالح التوجّه بعاطفتنا رأسا إلى اللامتناهي، حيث نرى الله في كلّ شيء. وفقا لهذا التصوّر لا نستطيع أن نكون متديّنين حقّا ما لم نستوعب أنّ أصل المبادئ يوجد في شعورنا الداخلي الخاص. إذاً لا يجوز لنا أن نختزل تديننا في مجرّد الطقوس وبعض المبادئ الأخلاقية والشعائر الدينية الموسمية، بل علينا أن نربط تديّننا بشعورنا بالمطلق متجسّدا في كلّ شيء.
إنّنا لا نعرف جوهر الدين بالعقل والمعرفة العلمية والأخلاقية الميتافيزيقية، وإنّما بأن نسلك سبيل الفهم والتأويل والقول بالذاتية التأويلية وما تقتضيه من نشاطات سيكولوجية حدسية وشعورية خارج أطر العقل المحدودة.[7]
الظاهر ممّا سبق أنّه لا يجوز اعتبار الدين إدراكا تابعا للمعارف العقلية والعلمية؛ وإنّما، بخلاف ذلك، يمثّل عنصرا آخر مستقل يكمّل حياة الإنسان ويعطيها المعنى الذي تعجز المعرفة العلمية والعقلية أن تعطيه. لهذا السبب يرفض «شلايرماخر» رفضا باتا تأسيس الدين على أسس من المعرفة النظرية والمنهجية كما حاولت بعض المحاولات الفلسفية الأخرى القيام به.[8] لكن هل يعني هذا القول أنّ اعتقادات الناس في الديني كلّها على نمط واحد؟ أم أنّ الحديث عن كونية المعتقدات الدينية يبقى مجرّد فرضية مسبقة لا يقوم الدليل عليها في الواقع؟
لئن كانت المعتقدات الدينية موجودة لدى مختلف شعوب العالم، فإنّ أهميتها بذلك إنّما ستكمن في طبيعة وظيفتها الاجتماعية، وكذا طبيعة تأثيرها البيّن على سلوك الأفراد والجماعات، وبصفة خاصة على طريقة تفكيرها. وبخصوص هذا الأمر، يعتقد الأنثروبولوجي «سكوت أترون» (Scott Atran) أنّ المعتقدات ذات الطبيعة السحرية والدينية تعدّ من مشوّشات الفكر (Parasites de l’esprit)، وذلك حتى وإن كان هذا الفكر يرتكن إليها في خضم الحياة الاجتماعية للناس، نظرا لدورها في إضفاء المعنى على الحياة .[9] إنّها ليست مهمّة في تفسير العالم من حولنا، وإنّما دورها يتأتى بالأساس في تعزيز القيم الجماعية للشعوب والثقافات المختلفة.
تأكيدا لهذا الطابع الثقافي والتداولي للمعتقدات الدينية وكذا للتصوّرات الفكرية، يؤكّد عالم النفس «ريتشارد نيسبيط» (Richard Nisbett)، في معرض بسط نظريته حول جغرافية الفكر، اختلاف أنساق التفكير من سياق ثقافي إلى آخر، حيث تختلف طريقة تصوّر الناس للمعتقد وللصدق والكذب من بيئة ثقافية إلى أخرى. وفقا لهذه الفرضية المنهجية لا يمكن زعم وجود معتقدات كونية لدى كل شعوب العالم، لأنّ الحضارات الإنسانية عبر مرور الوقت استطاعت أن تبني انساقا متباينة ومختلفة للتفكير والاعتقاد والتصور معا، وهي بذلك غير قابلة للقياس والمعايرة بنفس المقاييس والمبادئ.[10]
نجد هذه الفكرة ذاتها تؤكّدها بعض الأبحاث الأنثروبولوجية المعاصرة، مثل تصوّر «فيليب ديسكولا » (Philippe Descola) القائل بوجود نوع من الاختلاف بين طريقة تفكير الغربيين عن تلك الموجودة مثلا لدى «الجيفارو» (Jivaros) في الأمازون مثلا؛ حيث يغلب الطابع «الطوطمي» والتمثيلي لدى «الجيفارو» كما لدى شعوب أستراليا وإفريقيا. [11] الظاهر من جغرافية الفكر هاته أنّ الأديان، الصغيرة والكبيرة على حدّ سواء، ليست هي في حدّ ذاتها ما يفسّر اختلاف طريقة اعتقاد الناس في تصوّرات معيّنة، ولكن أيضا للبيئة والعوامل الأخرى دورها في ذلك.[12]
البيّن إذاً أنّ المقاربات العلمية (الانثروبولوجية والسوسيولوجية والسيكولوجية) من النوعية السابقة تسقط الموقف التأملي اللاهوتي الكلاسيكي القاضي باعتبار المعتقدات الدينية تصورات كونية وثابتة. والمستخلص من فرضية جغرافية الفكر السابقة أنّ الأديان، الكبيرة كما الصغيرة، ليست الوحدات التي تقوم عليها تعدّدية المعتقدات الدينية؛ بل إنّها مجرّد تقاليد خاصة تحتل موقعا ثانويا في الحالة الغربية مثلا كما يذهب إلى ذلك «نيكولاس جورني» (Nicolas Journet) في ادعائه بكون المعتقدات مجرّد تشكيلات ثقافية مختلفة تنجم عن تعددية ثقافية واختلاف أنماط التفكير البشري.[13]
يظهر من التصوّرات السابقة للديني، المستندة إلى الأبحاث الميدانية في مجالات عدّة (الثقافة والاجتماع، علم النفس والعلوم المعرفية..)، أنّ الاعتقادات الدينية والشعبية غالبا ما تكون محدودة بظروفها البيئية والتاريخية والثقافية، حيث تتدخّل الظروف السياقية والعناصر المرتبطة بالمجال التداولي الخاص بالشعوب في تبلورها حتى تصبح تمثّلات وأفكار وتصوّرات وقناعات اجتماعية سياقية ذات أبعاد خاصة بكلّ سياق ثقافي واجتماعي معطى.
الهوامش:
[1] Schleiermacher Friedrich: De la Religion. Discours aux personnes cultivées d’entre ses mépriseurs (1799) ; trad. nouvelle en français par Bernard Reymond, Paris, Van Dieren Éditeur, 2004.
[2] Schleiermacher: De la religion, Op. Cite ; p 137
[3] Ibid : p 138
[4] Ibid : p 139
[5] Ibid: p 141
[6] Ibid: p 142
[7] Ibidem
[8] لا يتحقّق الدين ولا يتجسّد، في ما يزعم «شلايرماخر» هنا إلاّ في إطار تجربة دينية وبمعزل عن الأطر العقلية والمقولات معرفية المسبقة. الدين بهذا المعنى تجربة شعورية لها ارتباط بمصدر وقوّة مطلقة متميّزة عن هذا العالم. تمثّل هذه التجربة شعورا ذاتيا ذي طبيعة حدسية، فلا تتوسطّها مفاهيم أو أفكار أو تجريدات عقلية أو أخلاقية أو ميتافيزيقية. لكنّها تجربة شعورية وحسب، تفوق الادراكات المفهومية حيث لا يمكن وصفها أو إخضاعها لمحدّدات معرفية أو فلسفية مسبقة.
[9] Scott Atran: “The Evolution of Religion: How Cognitive By-Products, Adaptive Learning Heuristics, Ritual Displays, and Group Competition Generate Deep, Commitments to Prosocial Religions » Biological Theory 5(1) 2010, p.18–30. Ed 2010 Konrad Lorenz Institute for Evolution and Cognition Research .
[10] Richard Nisbett : The Geography of thought; the free press and colophon are trademarks of Simon & Schuster, Inc. New York, 2003, p.217.
[11] Philippe Descola : Par- delà nature et culture ; éd. Gallimard, 2005.
[12] Nicolas Journet : « Existe-t-il des croyances universelles ? », Sciences Humaines, Juin 2004, N 260, p. 40-43.
[13] Ibidem.