شهادات

المحددات الشعرية في “التحليل النفسي للوردة”

يثير الغموض الذي يكتسي بعض المفاهيم حماسا كبيراً مما يجعلها عرضة للبحث الدائم، و كذلك الفضول والجدل. ذلك لأن الغموض هو صفة تحوي ضمنيا أسئلة لا تنتهي إلا عند زوال أسباب السؤال، بمعنى أن الإجابة لن تكون قطعية وإنما اقتراحية إشكالية تتحمل النقض والنقد. مفهوم الشعرية واحد من هذه المفاهيم العصية كونها مثار جدل غير منتهي حول المحددات المعيارية. يقول جاكوبسون  بأن الشعرية” هي ما يجعل رسالة لفظية أثرا فنيا” وهذا التعريف هو كما ذكرت غير حاسم، لكون المحددات الشعرية هي متغيرات وليست ثوابت. تمنحنا إشارة جاكوبسون من خلال تعريفة طرف خيط يسهل علينا عملية رصد المحددات.
في مجموعة “التحليل النفسي للوردة” تغمرنا المحددات الشعرية من العتبة الأولى للكتاب، واحدة من هذه المحددات هي الانتباه. انتباه الشاعر ذو حمولة عاطفية تنسحب إلى الهامش أكثر، لأن “الوردة” هي وحدة مركزية في الرمزيات الجمالية، لها حضور واضح في الاشتغال الشعري عموما، لكن المفارقة التي يخلقها الشاعر هنا هي محدد أول للشعرية، إنه ليس انتباها لفيزيقية الوردة كما المعتاد بل للحالة السايكولوجية لهذا العنصر الطبيعي الأخاذ.
ولكون الشاعر ابن بيئة طبيعية-ريفية-نرى حضور مثل هذه العناصر جليا في نصوصه لكن مع سردية جديدة تنتمي لتجربته وتنطلق منها فلا تنحسر في الأبعاد التي تجعلها نسخة من إرث جمالي ساهم في تكوينه. إنه يقف في ليل الحديقة وقفة مفارق يحفظ لها عطاءها معلنا عنه ككسب تراكمي مع محاولة لتجاوز الأثر المكاني حتى يضمن خصوصيته التي تجعله طامحا إلى الأبعد:

“أتقاسمُ مع الحديقةِ بهجة الصبحِ و حكمة الليل

و صبرها على الدنيا التي تتغيرُ

أسرعَ من نظرة الشاعر العاطفي

مثلها مختنقٌ بالمسافة التي لا أجتازها بالكلمات، بالطريق التي لا ظل لها

و بالحياة التي تنمو في الظل مثلَ عشبةٍ مضرّة.

وبها أطردُ صورتي من خيالي

و أحاول الهربَ ، هذا المساء”

تتعدد المحددات الشعرية بوصفها متغيرات دائمة تتحدى الحصر، وتنكشف بأكثر من صورة، في القصائد الأربعة (حين كنت بعيدة) (الجميلة) (نشيد الحاجة) (اعتذار) وبترتيبهن المقصود يرفع الشاعر عتبَه عن الصفة العاطفية، ويعود لها كونها تشكيلا أساسيا في الكتلة الشعرية التي يقدمها كمجموعة أولى، تعلن عن قلق البدايات الذي يمتزج بمرح المغامرة كتأكيد معياري على خلق الأثر الفني كنموذج متنوع. هذا النموذج يحمل من التنوع إمكانات أسلوبية  تعود في أصلها إلى منظومة رمزيات واحدة، مثل شجرة بفروع عديدة. حيث الأدوات التركيبية للتشبيهات كلاسيكية مكرورة، تتعدد التشبيهات مع إحالة متكررة دائما تمثل الأصل:

“أحبك، مثلما يحب الله الفلاحين والحصاد” من نص(نشيد الحاجة)

وفي نص (جذاذات شاعر) :

“وأنت تلمعين مثل الندى في قريتي”.

أعلاه إحالتان إلى أصل واحد من فروع متقاربة. ثم يفاجأنا حين يسجل إحالة بتركيب آخر، يعزز التنوع، إلى  أصل هو نفسه  الأصل الأول مع صفة كانت مضمرة فيما سبق:

“أشتاقُ للوقتِ، للضحكة السافرة، للحبّ في المدنِ المقدسة”
هنا إحالة غير تشبيهية تحمل بيانا عن استفهام ينشأ مع ملاحظة تكرار موضوعة “الموعد العاطفي” أكثر من مرة في المجموعة، وهنا تتحقق الخصوصية المنشودة لتجاوز الإرث الشعري الذي ينتمي إليه الشاعر مكانيا و يقولها صراحة في نص(أنا أيضا يا بول إيلوار):
” وتعلّمني الظهيرةُ أنْ أكبرَ مبتعداً عن مقاهي الآخرين،

المحتشدة بالحروب والخيانات العقيمة

أنا أيضاً أكتبُ قصائد حبٍّ، لامرأةٍ لم تسمح لك الصدفةُ

أنْ تثرثرَ باسمها، أو تصفَ ارتعاشة الحبّ على شفتيها…”

هذي الخصوصية تنطوي على جرأة في تشخيص المقدس كمشكلة حاضرة تمثل مطية لبلوغ الشر. والجرأة نفسها لا تتعارض مع خوف يكشف عنه الشاعر في نص (عالم مألوف) :

” خائف من الرب الذي يرسل تهديده”.

إذن الخطاب في إحدى درجاته يحمل هماً أكبر مما تظهره النصوص في حيزها الكلامي/اللساني، لأن التأثير المكاني تصل مدياته إلى درجة تؤثث المأساة بجوٍ من القبول يجعلها مجرد ذكرى حزينة أو تجربة فاشلة، بينما تنمو لحظات من الفرح البسيط بصعوبة وهي تصطدم بما يعثرها دائماً:

” حينِ ولدتِ كانتْ الأرضُ حرباً طويلةً،

فصَمتَ الجميعُ – لحظةً – وهم ينظرونَ إلى الطيرِ

الذي يعبرُ فوقَ الدماء و ينشرُ ظلّهُ.”

قدمت هذه المجموعة تمثيلين للشعرية، التمثيل الأول هو كشف المحددات الشعرية التي أشار جاكوبسون إلى رصدها كمؤثر مهم في خلق الأثر الفني. والتمثيل الثاني كان من خلال تنوع هذه المحددات في أجواء المجموعة رغم انتمائها إلى منظومة أدبية داخلية تلغي الفجوة بين الشعرية واللسانيات، فنصوص المجموعة بشكل عام هي رسائل خطابية تحمل نفسا إخبارياً اجتهد من أجل تحقيق الشعرية التي تجعل الإبداع إبداعاً وليس حياة خاصة.

مبين خشاني

كاتب من العراق
زر الذهاب إلى الأعلى