قد قلتُ ما قلتُ
مزجتُ الجسدَ بما انفتحَ من انهيار الأكوانِ
كما تُمزجُ الخمرةُ
بالدَّمِ الحلالِ
قالَ الصَّاحبُ: “أي خشبة سوف تفسدها”
قلتُ: هي شجرةُ اللغةِ، لن تحملني أغصانها، لن تنفتحَ أوراقها بالأسرارِ، لن تؤاخي ظلالها بين ليلٍ ونهارٍ، ولن يمتدَّ جذرهُا في نسغِ الحُلول
هي اللغةُ تضيقُ بالمشجون والمسجونِ والخفيِّ المخزونِ، لا تنطقُ في غير صليبٍ
أُفسدهُ بدمي، وأتطهَّرُ من هذا الرعبِ يحصدُ القلبَ
من هذا الجنونِ يستفحلُ في الأطرافِ
من نار تكادُ تخرجُ مني، كأنفاسِ جهنَّمٍ
وتعصفُ بالخلقِ
قالوا: “لونُ الماءِ لونُ إنائهِ”
ولا لونَ لي،
أنا الإناءُ ينزلُ فيهِ اللهُ، فتنخطفَ الرؤيةُ
ويسيلُ دمٌ،
في قميصِ الفصول
………
“أيها الناس، اعلموا أن الله قد أباح لكم دمي فاقتلوني، اقتلوني”
“منصور الحلاج”
..
ولمّا وجدتُني أنهارُ في سقطِ القولِ، ولا لغةَ تخترقُ الجسدَ وتبعثرُ الأطرافَ في مُهجةِ الشمسِ
ولمّا بلغتُ يأسي
صرختُ بكاملِ الجسدِ
ووضعتُ اللهَ في شركِ التجربة
ولمّا لم أستطع أن أكونَ عبدا
توضأتُ بالدمِ
وصلَّيتُ ركعتينِ فوقَ سجَّادةِ العدم
………..
هكذا، سُجنتُ
لتتحرَّرَ لغتي، وينفجرَ الوجودُ من لسانٍ يقطرُ في حلاوةٍ
“طاء” “سين”
طاءٌ، لم يطأها قبلي ولا بعدي، تفتحُ ما لا ينفتحُ
سينٌ؛ تجري بي، كأنها الريحُ، بِساطُ السياقات
وتلوذُ بالعتمةِ الكاشفة
كأني حرفٌ، كأن الحرفَ لا ينطقُ بغيري
والقرآنُ؛ محضُ فمٍ، يلهثُ بعطشِ اسمي
كأنَ سيفَ التاريخِ، لم يشرب غير دمي
كأنَّ اللغة مذ “كن”، لم تخلق عالما مرموزا، تنفتحُ شَفرتهُ بغيرِ أطرافي
هذا الليلُ طويلُ: يتلألأ مذ كنتُ بين الماءِ و الطِّينِ، مذ كنتُ بين زفرةٍ تتعالى وشهقةٍ تدنو، مذ كنتُ الخالق والمخلوقَ وجلوتُ بالأهدابِ سقطةَ القلبِ، مذ حملتُ جناح الغرابِ ومسحتُ دمعةً في عينِ الأرقِ، مذ سرجتُ الطريق نحو هاويةٍ وأضأتُ السِّراجَ، مذ أخذتُ نقطةً كي لا تفيضَ كأسٌ وتنصدعَ الدائرة، مذ جُستُ في الأسماءِ وجمَّلتُ حزن الملائكة، مذ غُصتُ في وقفةٍ وحملتُ على الأكتافِ صخرةً نازفة، مذ مهانةِ العزلِ وانكسارِ السَّجدةِ، مذ متانةِ الوحي وسديمِ القافلة، مذ معصيةِ الخلايا وانسفاحِ الأوردة، مذ بكارةِ البدءِ وافتضاضِ المعنى، مذ شبقِ المعاصي ولهفةِ المعرفة، مذ سؤالِ النَّارِ وارتجافِ الآلهة، مذ جري المشيئةِ وانغلاقِ الذاكرة، مذ ابتلاءِ السواحلِ وابتذالِ الموجِ، مذ سكرةِ الأنبياءِ وانقطاعِ الوحي، مذ عتبةٍ تستضيفُ وسماءٍ تنغلقُ، مذ جدارٍ ينهارُ وصحراءَ تأوي، مذ ملامحَ تنمو في وجهِ الوقتِ وتسقطُ في إناءِ الحقول، مذ اجتازني بحرٌ وعلِقتُ في قميصِ العاصفة، مذ عبرتني أوطانٌ ولعقتُ تشرُّدَ الطريقِ، مذ غمرتني الأظافرُ وتشبثتُ بالغرقِ، مذ داعبتني ريحٌ وضيعتني النوافذُ، مذ صدمتُ واصطدمتُ وسالَ ليلٌ في الصدور، مذ ألفتُ واستأذبتُ وعوت صرخةٌ في العروق، مذ ألهبتُ والتهبتُ ولم يبارحني الغيظُ، مذ أمسكتُ وأضعتُ وانتزعتني الجذور، مذ لمحتُ وغشيتُ وتلقَّفتني لامحةُ الجسور، مذ انتصبتُ وانكسرتُ وأغفلتني بوارقُ الجنون، مذ وصلتُ وقطعتُ الوصول، مذ سلمتُ وأسلمتُ وازددتُ كفرا وأنقذني الفجور، مذ هجتُ واهتجتُ وحمَّلتني طهارةُ العبور، مذ كتبتُ وانمحيتُ وخانتني السُطور، مذ أبحتُ دمي واستبحتُ وكان اللهُ عطرا يذوبُ في مجمرةِ البخور، مذ أصبحتُ كما أمسيتُ في رعبٍ استويتُ وكان الصَّلبُ فاتحةَ العصور!
………….
فلمّا كان الوقتُ
جاءَ اللّهُ في هيئةِ قرآنٍ قُرشيٍّ مُبين
ليشهدَ موتهُ
وقدمت غابةٌ من الأشجار، ترى الصَّليبَ يخرُجَ من صُلبها
وترتفعُ محروقةً فوقهُ: جثّةُ الله !
…………