غوايات

مهيريت أو سكينة كما تسمي نفسها

إلى (ميهريت)..

مات أبوك، دفناه البارحة في المقابر الجديدة عند الجرف، ألقى (أبونا) خطبة عنه بالأمهرية، وألقى إمام المسجد خطبة عنه بالعربية، ثم صلينا عليه جميعا، كل بلغته ودينه، وفي المساء، امتلأت (دبرزيت) برفاقه الغجر غنوا ورقصوا حتى انهال عليهم الصباح !

لا يمكنني أن أواسيك وأنتِ بعيدة هكذا، كذلك لا أرغب في عودتك، لقد تغير كل شيء، (دبرزيت) لم تعد كما تركتها، أشياء كثيرة تحدث بسرعة، انفجرت المدينة، صارت مزدحمة لحد خانق، لا نستطيع التمشي بسلام الآن، في كل ركن سائح يبتسم ببلاهة ويصور حياتنا كأنها أمر خطير.

لم يعد للمدينة روحها التي نحب،

(ايان) سعيد جدا لهذا التضخم، المنتجع يعمل بشكل جيد، الكثير من النزلاء كل يوم، لدرجة أننا نضطر لصرف بعضهم لأن الغرف ممتلئة، لكن البعض لا يمانع بمشاركة سريره مع آخرين!.

أنا و(ايان) بخير، لقد وصلنا أخيرا للراحة اللازمة للعيش معا، وتربية بنت بجانب إدارة شؤون البحيرة، (صوفيا) كبرت منذ رحلتِ، تتحدث مع أبيها بالفرنسية، معي بالأمهرية ومع نزلاء المنتجع بالإنجليزية، لا أدري كيف يتسع رأسها الصغير لكل هذا، ولكنها تلقائية جدا فيما تفعله، أنا بالكاد أستطيع الترحيب بالضيوف بلغتي المكسرة هذه، ثمانية أعوام ولا أستطيع قول جملة واحدة بالفرنسية مع (ايان)، أمهريته كذلك بذات السوء، ولكننا نعيش معا كما ترين، لن أقول أني سعيدة تماما، أحيانا يوقظني عراك قطط في أواخر الليل، فأتسائل: “ما الذي يفعله هذا الرجل الأبيض في سريري؟!” أتذكر صوتك وأنتي تقولين إن (ايان) أحمر في الحقيقة، وليس أبيضا وأن عَرقه أخضر تماما كلون عينيه، مايجعل وقوفه في الشمس أمرا مضحكا !

لقد تجاوزنا الكثير أنا وهو، تخطينا عقدا من الأحاديث المملة للمدينة، كان نصفهم يقول أنه تزوجني من أجل البحيرة ليبني عليها منتجعه هذا، والنصف الآخر يقول أني تزوجته لأرحل معه، أتخلى عن جنسيتي وأصبح فرنسية كذلك، لكني أعلم منذ اليوم الأول الذي التقيته أنه لن يعود ثانية لما سماه : “جحيم العالم المادي” يقولها بقرف كأنه يفرغ شيئا مرا من دواخله، ما زلت أعرف عنه القليل فقط مما يقول حين يسكر بشدة، حينها يبكي، يحشر وجهه في صدري، يقول أشياء بلغته لا أفهمها، ولكني أدرك حزنه، وينتحب.

حدث أن أتت سيدة إلى هنا، امرأة راقية جدا، كنا في مايو، وكانت ترتدي معطفا أزرقا طويلا، يومها رأيت (ايان) مضطربا جدا، ثم رأيتهما معا، بقيا في الحديقة حتى ذهب كل الضيوف إلى غرفهم، تركتهما وذهبت لأنام، وعندما مضى ثلث الليل، ذهبت لأجدهما صامتين، يتأملان البحيرة، عدت إلى سريري وانتظرت ساعة اخرى حتى سمعت (ايان) يعود بهدوء، سألته ليلتها مرة واحدة فقط : ” من هذه؟” .. صمت كدهر، ثم خرجت الكلمة من حلقه باردة جدا :”زوجتي”، لم أرها حين استيقظنا صباح اليوم التالي، ولم نتحدث عنها أبدا منذ تلك الليلة . “

تغلق (سكينة) خطاب صديقتها وتشرد عيناها ناحية السحاب الملتصق بنافذة الطائرة، تحفظ كل كلمة في الخطاب حتى نهايته، قرأته ربما مائة مرة، كل مرة تتمنى لو أن الكلمات تغيرت قليلا، مضى على الخطاب عامان، منذ دُفن أبوها دون أن تبكي أمام قبره، اليوم كل ما ترغب فيه أن تقف أمامه وتخبره أن الله اختاره ليكون ضيفه في الجنة، وأنها سعيدة لأن روحه الآن حرة تماما، وأنها ممتنة لكل شيء علمه لها.

كان أبوها رجلا غجرياً، لم يؤمن بجدوى أن يُفني الإنسان حياته كلها على أرض واحدة، لذا سافر كثيرا ورأته وهي تكبر قليلا فقط، لم تعرفه كما تعرف البنات آبائهن، لم تفهم تطرفه هذا، لكنها عندما كبرت كفاية أخذها في رحلة معه لتعرفه أكثر، بدأت هي تمرد يخصها على كل شيء، أمها والمدينة والمدرسة، كل شيء، كانت تتعامل مع العالم على أنه متواطئ في مؤامرة ما ضدها بالذات، أصبحت عصبية جدا غاضبة طوال الوقت. وعندما طلب منها أبوها أن تصاحبه في رحلته تلك، كادت أن ترفض لكنها لم تفعل، وفي فجر اليوم التالي رحلا إلى (شاشامني)، طوال الطريق كان أبوها يخبرها عنه، أدركت كل شيء عن راستفاريته ابتداءا بجدائل شعره، أشرطة (بوب مارلي) التي أوصى أن تُدفن معه والحشيش الذي قال لها أنه ينقيه من الداخل، يجعله أصفى، فقتله في نهاية الأمر.

في تلك الرحلة التقى العديد من رفاقِه، كانوا لطفاء جدا معها، عانقوها كثيرا وابتسموا لها، كانوا يتحدثون عن الحب طوال الوقت، ويرقصون، في تلك الرحلة أخذها أبوها إلى مكان سيصبح في مابعد معبدها المقدس (وندو قنت): (بوابة الجنة) كما تسميها، دفع أبوها ثروة صغيرة ليأخذها إلى مكان كان يعيش فيه (سيلاسي) العظيم كما يحكي عنه أبوها، تجولا في غرفته بالذات واستحمت في نبع حار كان يستحم به الرجل الذي لم تشارك أباها شغفه عنه، لكن ما هز قلبها حقا هو الأرض نفسها (وندو قنت) مكان بري، حديقة الله السرية على الأرض، القرية بأكملها مفروشة بالأخضر، شجر وحقول وشتلات بن وجوافة وموز، قرية فقيرة جدا دسمة جدا.

قامت برحلتها التنويرية الأولى هناك وتسلقت جبل (وندو قنت) بقدميها، استلقت أعلى الجبل هي تستنشق مزيج الروائح ياسمين ريحان بري نعناع وبن ينضج في تُربَتِهِ، شعرت أن قلبها خفيف كحمامة، أحسن بالاامتنان لوجودها كشامة على خد الأرض، لأول مرة أحست بالسكون في روحها المضطربة، ولتتذكر هذه اللحظة وتحملها معها دائما، غيرت (ميهريت) إسمها الى (سكينة) مرة واحدة وإلى الأبد !

أعادتها المضيفة من شرودها لتسألها : “شاي أم قهوة؟” لم تكن هذه رحلة (سكينة) الأولى بالطائرة، لذا كانت تعرف تماما كيف تطلب قهوة سوداء بدون سكر أو حليب، لا تأكل أبدا في الطائرات منذ أول رحلة عندما أكلت طبقا من الدجاج بالخضار المشوي، تمردت بطنها عليها وأصبحت تركض في المطار بحثا عن مكان ما لتفرغ أمعائها الملتهبة، كانت لا تجيد حتى قراءة الإشارات، ولم تجد شخصا واحدا طيبا لتشرح له أن ما تريده فقط حمام/تواليت لاشيء أكثر، ابتسمت وعادت إلى كوب قهوتها، وبحلقتها اللانهائية في السماء، بدا لها السحاب قرمزيا مرتبا كثوب أنثى تستعد للقاء سري، تذكرت فجأة أنها لم تجلب صبغة شعرها، الأغلب أنها نسيتها في درج الحمام المشترك، كادت تصاب بنوبة ذعر عندما فكرت أنها ربما نسيت أشياء أخرى هناك، المكان الوحيد الذي نسيته تماما، أشياء كثيرة خبأتها في درج الحمام ذلك، أشياء شخصية جدا، كان هذا المكان الوحيد الذي يخصها في الشقة التي تشاركها مع خمس بنات أخريات، لكنها تذكر تماما أنها أفرغته قبل يومين من سفرها، ثم فعلت (سكينة) شيئا أربك طاقم المضيفات والمسافرين كذلك، ضحكت بصوت عالي، بشكل هستيري، ظن البعض أنها شربت كثيرا، لكن المضيفات فيما بينهن يعرفن أنها لم تطلب أي مشروب كحولي! استمرت نوبة الضحك المفاجئ هذه ثلاث دقائق بدت كما لو كانت ساعة كاملة، ماحدث أن أول فكره مضحكة عبرت رأس (سكينة) أنها لن تحتاج إلى صبغتها مرة أخرى، ستعود إلى بلدتها الصغيرة وهنالك لن يهتم أحد إن كان لون شعرها نحاسي أم أسود! ثم فكرت أنها أخيرا ستشرب قهوة جيدة، بدل هذا السائل الأسود الكريه، ولكن الفكرة التي جعلت كبدها يضحك، تخيلت نفسها ترقص! أخيرا بعد كل هذا الوقت الذي أفسدت فيه جسدها بالكثير من الأطعمه الخاطئة والغضب المكبوت خلف فمها العريض، تخيلت نفسها كبطة تغرق في البحيرة، تخبط أجنحتها الماء، فتغرق أكثر، الجميع ينظرون إليها بسخرية، وتصورت أن (سارة) ستضحك حين تراها وقد سمنت بهذا الشكل! بدل أن تثير الفكرة خجلها تجاه نفسها، وجدت (سكينة) صوتها فجأة، كانت تضحك ربما للمرة الأولى منذ غادرت (دبرزيت) قبل ثمان سنوات، ثلاث أشهر ونصف يوم.

زر الذهاب إلى الأعلى