الجُمعة، من يوم تجاري إلى يوم ديني مقدس.
في المجتمعات اليهودية القديمة يوم الجمعة هو يوم للتبَضُّع، لذا تنتعش فيه الأسواق بشكل كبير، حسب التلمود خلاف المدن الكبيرة؛ تُعقد أسواق خاصة تُفتَح في هذا اليوم فقط، سبب ذلك أن يوم السبت حسب التقليد اليهودي هو اليوم الذي استراح فيه الله من الخلق، فهو يوم للراحة والعبادة، يتزوَّد فيه اليهودي بكل مايحتاجه في هذه العطلة المقدسة من أسواق يوم الجمعة، إذن يوم الجمعة هو يوم تجاري أسبوعي عرفته معظم المجتمعات اليهودية والقبائل التي تُجاورها في ذلك الزمان هذه نقطة أولى.
في المدن اليهودية الكبرى كانت الأسواق تعقد في يوم الأثنين والخميس، ويقصِدُها قاطنو الأرياف والمناطق البعيدة من المدينة بغية التبضع ولأغراض سياسية أخري متعلقة بالقضاء، ففي هذه الأسواق يجلس قاضي المدينة ليحكم بين الناس ويفض نزاعاتهم، في بادئ الأمر لم تكن هناك طقوس دينية مرتبطة بهذه الأسواق، أي كان لها بعد إقتصادي وسياسي فقط، شيئاً فشيئاً أكتسَت هذه الأسواق مسحة دينية، فأصبح تُقرأ فيها العظات الدينية وتُقام فيها الصلوات، لتتحول في آخر الأمر لأيام دينية مهمة في التقليد اليهودي، أيام للصوم واستعراض التقوى، تزدحم فيها المعابد بكل الوافدين إلى السوق من القرى البعيدة، بالتالي نخلص إلى أن أسواق الإثنين والخميس تحولت إلى تجمعات دينية”١”، حتي أن هذه الأيام قُـدست في اليهودية ولاحقاً في التقليد الاسلامي نفسه، هذه نقطة ثانية.
أول صلاة جمعة صلاها المسلمون كانت في المدينة لذا سيكون من الضروري جداً البحث عن مكانة هذا اليوم لمجتمع المدينة قبل قدوم النبي محمد اليها، لكي نَتَلمَّس أطياف إجابات لأسئلة علي شاكلة، لماذا قُدِّس هذا اليوم في الإسلام وفُرِضت فيه صلاة من نوع خاص دون غيره من الأيام؟ هل الأمر متعلق بالفكرة التي تقول بأن هذا اليوم خُلق فيه آدم، أو جُمع فيه بين آدم وحواء بعد مانزلا الى الأرض؟
أم أن أختيار هذا اليوم للوعظ والخطب له أبعاد أخري؟
كعادة اليهود في كل مكان، أقاموا يوم الجمعة سوق في المدينة معروف بسوق بنو قينقاع، تُقدِم إليه كل القبائل المحيطة بالمدينة حتي أنه أكتسي بعد ثقافي هام جداً شبيه بسوق عكاظ، ففيه يُقرأ الشعر ويتجمع السحرة، إستمر كمنصة ثقافية وتجارية إلى أن تم إجلاء اليهود من المدينة.
تروي المصادر الأسلامية أن يوم الجمعة كان قبل الإسلام يعرف بيوم “العَروبة” وهي كلمة آرامية تعني التجمع أو الحشد، وأن أول من سماه بيوم الجمعة هو كعب بن لؤي جد النبي محمد، الذي يُروى أنه كان يخطب في الجموع في هذا اليوم، قد نشك في الخطبة المنسوبة إليه وهو يتنبأ فيها برسول جديد من غير أن نَمَس جوهر الفكرة لنخلص الي هذه النتيجة:
يوم العَروبة هو يوم الجمعة، أي يوم تجَمع الناس في الأسواق التي تكون في هذا اليوم، بفضل اليهود ربما أصبح هذا اليوم في جميع المنطقة يوم تجاري أسبوعي، بالأضافة لذلك يستغل الخطباء والحكماء جمهرة الناس في عرض أفكارهم، والشعراء في قراءة شعرهم، بالتالي كانت له أهمية تجارية وثقافية كبيرة قبل الإسلام، ماهو طريف فعلاً حسب المصادر الإسلامية، وجود رواية تقول بأن قراءة أبي بن كعب للآية القرآنية الوحيدة التي ذكر فيها أسم الجمعة كالآتي ” {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْعَروبة الكبرى فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ الخ} “٢” أي تم ذكر اسم يوم العروبة بدلاً من الجمعة.
ربما أختيار النبي محمد لهذا اليوم ليكون اليوم الديني الأسبوعي المقدس في الأسلام الذي يُخطَب فيه وتُوضَّح فيه الدعوة الجديدة وتُرسي دعائمها، راجع لنفس التقليد القديم، وهو استغلال هذا التجمع الأسبوعي كما يفعل الشعراء والخطباء، وفَعل قديما حاخامات اليهود في أسواق الأثنين والخميس، ليتحول يوم الجمعة لاحقاً ليوم ديني خالص، تُستَبدل فيه الأشعار والخطب “الجاهلية” بخطب الدين الجديد والأستقطاب له وربما القضاء به، إذن هناك منصة ترتبط فيها التجارة بالثقافة القديمة يجب إستغلالها وتحويل قبلتها، كما يجدر بالأشارة إلى أن الآية الوحيدة التي ذكرت يوم الجمعة أشارت للبعد التجاري فيه وهو ترك البيع “{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} مع العلم أن صلاة الجمعة فُرِضَت في المدينة، وهذه الآية تخاطب مجتمع المدينة وهو مجتمع زراعي، كما يمكن أن نخمن بأن وقت خطبة الجمعة يتناسب مع زمن نهاية السوق “الظهر” فالأسواق في ذلك الزمان تنتهي في هذا الوقت، وربما حَمْل الخطيب للعصا كما هو معروف في خطب الجمعة راجع لتقليد القضاء بين الناس والحكم بينهم الذي كان يُعمل به في الأسواق آنذاك. بما أننا وصلنا لنقطة حمل العصا هذه، وجب أن نتطرق لفكرة المنبر نفسها، حسب المصادر الإسلامية كانت فكرة المنبر من إقتراح تميم الداري، وهو تاجر مسيحي فلسطيني كان يتردد كثيراً على المدينة بغرض التجارة، التقى النبي محمد وأعتنق الاسلام، أقترح علي النبي محمد أن يبني له منبراً كما يُعْمَل في الشام، قَبِل النبي محمد فوراً بذلك، ويقال أيضاً بأنه هو من أقترح فكرة وضع المصابيح في المسجد، وذلك راجع إلى أن المصابيح تُوقَد بالزيت المستورد من الشام، وتميم هذا يتاجر بالزيت من جملة أشياء أخرى، بالتالي لتميم الداري دور كبير في تطور المسجد الإسلامي، كما أنه من أوائل القصاص في المدينة، حتي أن النبي محمد نفسه روي عنه قصص عن ظهور المسيح الدجال “٣”، من هذه النقطة الأخيرة أقرر تخميناً أن خطب النبي محمد في يوم الجمعة ربما كانت وعظية، أي شرح لأحوال الأمم السابقة التي يشير إليها القرآن تلميحاً، وأهوال يوم القيامة وآخر الزمان، بذلك نكون أجبنا علي سؤال في غاية الأهمية، وهو لماذا لم تُنقل إلينا خطب النبي محمد في صلاة الجمعة؟ ستكون الإجابة أن خطبه نقلت ضمن التراث الضخم الذي وُثِّق عنه في كتب الحديث والتاريخ الإسلامي، ربما أيضاً بجانب الوعظ قد يكون القضاء والحكم بين الناس مهمة أساسية كان يقوم بها النبي محمد قبل صلاة الجمعة وهي كما أسلفنا كانت سنة منتشرة في كل أسواق ذلك الزمان بما فيها أسواق اليهود في ممالكهم قبل الميلاد.
بهذا التحليل نكون قد أبتعدنا عن المسلمة الاستشراقية الكلاسيكية التي تقول بأن النبي محمد أعتمد يوم الجمعة وجعله يوم مقدس كالسبت عند اليهود بغية إستمالتهم عند بعض المستشرقين، أو كنقد لسبتهم عند آخرين. فلا هذا ولا ذاك لو نظرنا ليوم الجمعة وفق منظور المدة الطويلة كما فعلنا.
“١” S. D. Goitein, Jews and Arabs, their contacts through the Adges,
P ١٧٩ .
“٢” قراءة “يوم العَروبة” بدلا عن “يوم الجمعة” ذكرها آرثر جفري نقلا عن كتاب المصاحف، انظر Materials, p 825.
“٣” بخصوص تميم الداري انظر، ابن سعد الطبقات الكبري، الجزء الأول، ص ٤٥٠.