الزمن الأمومي

’’هنالك عشقٌ في اللذائذ الهادئة ‘‘ (بودلير)
ربما البومة هي الطائر الوحيد الذي رأيت شكله اللا مرئي من خلال صوته، لامحاً ذلك المدى الصوتي بنصف حدسٍ خاطف، وذلك قبل أن أراه يُريَّش الفراغ الرامي بخفَّة على غُصن شجرة: هذا الصوت المُنذر، ذو الأجراس السائلة في هدهدات الخدْر المُسامر، المُتهادي، الرافل في سكون. لطالما كان يتزامن إطلاق هذا الصوت الطوفاني مع اللحظة التي أستلقي فيها لأنام. ففي منتصف الليل التائه، النازل إلى ظلامه الأخير، يبدأ الهدير الطوفاني المُخفَّف بالقليل من خفَّة الإطلاق المُحكمة. صوتُ البومة أبعد من حنجرتها، أكثر تجويفاً وامتداداً، وكأنهُ يأتي من ما وراءٍ سحيق يتنامى ويصعُد من أسفل العالم إلى أعالي المخفيَّات والمجاهيل. ما وراء يبدأ في التشكًّل المفتوح وهو قادم إليَّ في لحظة الهدير الحريري المُطرَّز بالصوت الذي أحسُّ به يُغطي العالم كُلهُ بستارة أرجوانية سميكة. أحسُّ بشرخٍ حليبي بين إطلاق الصوت والهدير المتصاعد من الينابيع الأمومية. وكأن الأرض تُصاعد ألمها الأمومي وتُضاعفهُ في المدى التجويفي المُحايد والهائل الإطلاق للصوت. ثمةُ للبومة زمنٌ مختلف عن زمن الطيور الأخرى: زمنٌ لولبي جارف إلى ما قبل العالم. أدرك الآن، بنصف حدسٍ مائل، أنَّ الفجوة الماورائية المُحلَّقة من أسفل إلى أعلى، الفجوة النبعية المُدخرة لطوفانٍ قادم، في المدى التجويفي الخفي والمُحايد للصوت، ما هي إلا تجسيدٌ مسبق لعالم ما قبل العالم: عالم الأجراس الغسقية السائلة والمزهِّرة بين الأزلي – و- الأبدي. أبعد من نوح وسفينته، من سليمان وهدهدهُ، ومن كولمبُس ونجمتهُ، كانت البومة تحدسُ بالقوى الصافية والآهلة لما قبل العالم. إن شكل جسدها اللامتناهي، الدائري، الأمومي، الرحمي، ذو الصدر المُكتنز الجانح صوب الحنان، يُلهم حركتها المروحية على الغُصن في كُلَّ الجهات: كما لو أنها تستكشفُ مسارات الانزياحات الأثيرية للصيرورات والحدوس. الآن يتخلًّلني ذلك الصوت المجوَّف برَّقة الهدير الساحر والمسرنَّم: نهرٌ من البداهات مسكوبٌ في جسد طائرٍ وحيد متوُّحد يندبُ الغُربة المُنسرحة بين أزلٍ – و – أبدٍ يتخلَّلان بعضهما فيجوفان الصوت ويذوبان فيه.
ليس صوت البومة نذير شؤم. صوتها يوحي بكائنٍ أسير انزياحٍ بين الخفاء والحياد. صوتها الصفاء الذي يذوِّب الصمت في قوة الأشياء، جاذباً الحدوس من ما وراء المرئي إلى عوالم المرئي.
الإزيرقاب ـ ضهاري بحري
خريف 2014