غوايات

الدُعاش

مسرحية

لوحة أولـى:

تقرع النقارة عالياً. يمضـي الإيقاع إلى البعيد، يتلاشى.. يعلو أزيز الرصاص ثم يهدر دويُّ المدافع. تلمع الشظايا تطرِّز الظلام الدامس..

من اليمين يدخل شيخٌ واهن، عارٍ إلا من خرقةٍ حول وسطه، يتوكأ على عصا رفيعة. تسقط دائرة من الضوء الخافت تتابع الخطوات الحائرة الخائرة. عند الوسط توقف مواجهاً النظارة، عظام وجهه ناتئةٌ وبعينيه وميض آمالٍ خابية. رفع عصاه عمودياً إلى السماء وحوله اشتعلت الدائرة ضياء. الجسد النحيل يرتعش والعصا الرفيعة تتدلى في مسارٍ دائري حتى تلامس الأرض. ترنَّح الشيخ ثم تهاوى ودائرة الضوء تخبو رويداً، رويدا..

إظلام

لوحة ثانية:

امرأةٌ شعثاء يسترها ثوبٌ كالح وبجانبها ابنتها تساعدها على المسير. الفتاة تتطلَّع إلى كل الجهات بحثاً عن ماءٍ وعلى كتفها تتأرجح قربة. تكوَّمتْ الأم عند الوسط خائرة القوى بينما الفتاة تتراكض في جميع الجهات، تُحدِّقُ إلى البعيد علَّها تبصـر ما يدلَّها على الماء، والظمأ يجرش الحلق والأوردة. قطعتْ البنت سبعة أشواطٍ بينما الأم تحتضر..

قلّبتْ الفتاة أمَّها، وضعت أذنها على الصدر مكان القلب الهامد، ثم نهضتْ يجلِّلها الأسى، والذهول. هرولت تُمَرْوِح بيديها الهواء بينما صرخاتٌ تتواتر في البعيد. تكوّمتْ قرب الجسد الهامد متسـربلةً بالنشيج. نهضتْ، ظلّت مصلوبةً وهجير اللحظات يلفح الوجدان.. فكـَّت اللاوي الملفوف حول جسدها، غطَّت أمَّها وجلست بقربها. جموعٌ ثاكلةٌ تنوح في البعيد. جرجرت خطواتها إلى الوراء وبصـرها مسمّرٌ على الجسد المغطى.. إيقاعٌ خافتٌ يأتي من البعيد، يزحف الظلام بطيئاً ونعيق الغربان يمشِّط الأعالي..

إظلام

لوحة ثالثة:

إضـاءة:

شجرةٌ محترقة تهاوى نصف جذعها الأعلى فتدلت أغصانها إلى الأرض. بقايا أغصانٍ وحشائش جافة، بعضها محترق، عظامٌ مبعثرة.. من اليمين يدخل جنديُّ الغابة على كتفه بندقية. يجوس ببصـره وخطواته المكان. تفرَّس طويلاً في النظارة، مشَّط حافة الخشبة مراراً كالباحث عن وجهٍ وسط الجموع. حدَّق إلى قدميه، انحنى، قعد على أمشاطه وكفِّه اليمنى مرتعشة تلامس التراب. أصغى لصوتٍ قادمٍ من البعيد. نهض، مشـى خطوتين إلى الوراء، انحنى مرةً ثانيةً راكعاً على ركبتيه، مـَّرغ كفيه في التراب مغمغماً:

– الأرضُ محروقةٌ.. الأرض

أرسل بصره إلى أفقٍ ما

– والسماء يابسة

  الأرض هامدة

  والسماء.

تتواتر أصداءٌ خافتة: “المطر، المطر”.. نهض بغتةً مشـرعاً كفيه إلى السماء يهدُّه الظمأ والتعب. أصداء ريحٍ تعربد، حدَّق إلى الفراغ:

– هاجر المطر

  فتاهت الغزلان والنمور والبقر

  هاجر المطر!

أصابع كفه اليسرى تلازم حلقه المجروش بالظمأ وخياله يطارد نهاراً هارباً:

– الظمأ لعينٌ، يومان وثلاث ليالٍ أطلب ماء

  أطلب ماءً أو إنساناً، أو برقاً يلمع في السموات

  يومان وثلاث ليالٍ..

أشرع كفيه إلى السماء؛ مبتهلاً:

– أيها الرب

  يا أرواح الأسلاف والعشيرة

  قطرة ماءٍ.. قطرة ماء..

وخزٌ موجعٌ يناوش حلقه:

– سأجد الماء. سأجرب الطريق الآخر

 ضياء الشمس جميلٌ

 هل تهاجم الذئاب ليلاً؟

 يطاردني صدى عوائها ولكني سأمضي

 سأجد الماء

مشـَّط المدى فزعاً:

– هل أحرقوا الغابة؟!

  هل أحرقوها؟

انحنى، تناول تراباً أدناه من أنفه:

– لا طيرٌ يعْبُر

  لا إنسانٌ حيٌّ

  لا قطرة ماء

همهم مقلّباً كفيه:

– وموسم المطر

 المطر، المطر، المطر..

لمح الشجرة المحروقة، تقدم نحوها بحذر، اقترب، تعثر في عظمةٍ آدمية. كان جندي الحكومة مستنداً إلى الجذع المتهالك يحدِّق إلى المجهول، ساعده الأيمن مجروح، لفّه بكم القميص. بغتةً صـوَّب جندي الغابة البندقية إلى غريمه صارخاً:

– انهض، ألق سلاحك وزمزمية الماء.

رمى جندي الحكومة البندقية ثم فكَّ الزمزمية من وسطه ورماها. هجم جندي الغابة على الزمزمية، رفعها إلى فمه متابعاً غريمه ببصـره. رمى الزمزمية الفارغة زافراً حرقةً وأسى. انحنى، التقط البندقية الأخرى، فتح خزانتها أخرج رصاصةً واحدةً أودعها في جيبه.

– ارفع يديك عالياً.. تقدم.

تقدم جندي الحكومة خطوتين. عاجله جندي الغابة بالأمر:

– قِفْ عندكَ؛ أين الماء؟

-..

– قلت لك أين الماء، ألا تسمع؟!

  انطقْ أين الماء؟

تقدم جندي الغابة خطوة، أسند بندقيته إلى صدر الآخر الساهم بعيداً

– أين الماء؟ انطق.

– لا يوجد ماء.

– لا يوجد ماء!!

تراجع جندي الغابة خطوتين محدثاً نفسه بهمسٍ مسموع: عطشان هو؛ عطشان أنا:

– عطشان أنت؟

 ومَن أتى بك إلى هنا؟

اعتدل جندي الحكومة في وقفته ثم أجاب:

– أنا جندي..

جندي الغابة مقاطعاً:

– ومَن دعاك كي تكون من عسكر الحكومة؟

– أنا جندي هذا الوطن.

– ونحن مَن نكون؟!

  عصابةٌ

  قد ملَّت الرخاء والعدالة

  فهاجرت

  بحثاً عن الدماءِ

  عن مناطق الإثارة

  نحن مَن نكون؟!

  هيا تحرَّكْ أمامي.

بعد خطواتٍ توقفا يتأمل كلٌّ منهما غريمه في حيرةٍ عاصفة:

– أين الماء؟

صرخ جندي الغابة، تعثّر في عظمة، انحنى؛ رفعها بيسراه:

– وهذه لِمَن تكون؟

– وأنتَ مَن دعاك كي تقاتل الحكومة؟

ضحك جندي الغابة، تهدّج صوته.. تحشرج:

– مَن دعاك كي تكون من عسكر الحكومة

  تقتلع الأشجار من جذورها

  وتحرق البذور

  وكل قريةٍ

  أو عشةٍ صغيرة

  يحيلها رصاصكم سعيراً

سقطت العظمة من كفه:

– عظامٌ ورمادٌ ويباب

  سماءٌ خراب

  رمادٌ ويباب

  أين الماء؟

  هيا تقدم أمامي.

جندي الحكومة:

– لا يوجد في هذا الطريق ماء. ثلاث ليالٍ وأنا تائهٌ بين الأشجار وعواء الذئاب. الظمأ سيقتلنا وأنت تبدّد جهدك في الصراخ.

– اصمتْ.

– فلنجرّب الاتجاه الآخر.

– قلت لك اصمت

  لا يوجد ماءٌ

  لا بريق في السماء

  لا شجر أخضر

  لا..

  انظر، الأرض يبابٌ والسماء خراب.

  مَن دعاك كي تكون من عسكر الحكومة؟

جندي الحكومة يشير بيديه إلى جميع الجهات:

– إنَّها بلادي، كلمتي الأخيرة

 عن أرضها

 عن مياهها الوفيرة

 أموت إنْ أرادتْ

 أعيش إنْ أرادتْ

 لا أبتغي شكوراً.

جندي الغابة يغالب الظمأ:

– هل دعتكَ غابة النخيل مرةً

  كي تشعل النيران في المجاهل البعيدة؟

  أم هل قرأت في جذوعها المديدة

  تعويذة الأجداد

  والأمجاد

  والبطولة

  فجئت غازياً

  وحاملاً راية الخراب

  والوزارة الجديدة!!

صـَّوب جندي الغابة إلى السماء؛ انطلقتْ رصاصتان:

– لا تبدّد الرصاص فالليل وشيكٌ والذئاب تترصُّد خطواتنا.

– أعرف أنها تشـمُّ رائحتنا.

– انتبه، أسمع صوتاً.

ريحٌ تزأر وكلاهما يتابع الآخر في ترقّبٍ وحذر. هتف جندي الغابة:

– إنها رياح الخلاص تحمل السحاب والمطر.

– بل هي ريحٌ عقيم.

– قلت لك إنها رياح المطر ألا تسمع؟

– إنَّها ريحٌ عقيم.

– لا تعاندني.

– هل ترى سحاباً؟

  هل تسمع دويّ الرعود؟

  هل تشـمُّ رائحة الدعاش؟

  إنَّها ريحٌ عقيم!!

الريح تزأر والأضواء تغرب والجنديان مصلوبان على شفير الهلاك. صرخ جندي الحكومة:

– الماء.. وجدت الماء.

تسابقا زحفاً؛ تشابكت أكفهما، تخضبت بالطين، نهضا يغمغمان: “الماء، الماء، الماء”..

تقرع النقارة خافتةً ثم تمضـي، يتواتر عواء الذئاب وجحافل الظلام تهيمن على المكان. قال جندي الحكومة بصوتٍ آمر:

– أعطني سلاحي.

– ماذا تقول؟!

– أعطني سلاحي ألا تسمع عواء الذئاب.

– لا أسمع، لا أسمع.

– إنها قادمةٌ لا محالة.

– سأقاتلكم جميعاً.

– هيا ناولني البندقية لنقاتل معاً فالظمأ والذئاب والريح تحاصرنا.

جندي الغابة يتناول عظمةً من تحت قدميه، يفرك طرفها بأصابعه، يشمُّ الرميم ثم يلتفت إلى الشجرة:

– مرةً في الطفولة اشتعلت سماء القرية بالرعود. احترقت شجرة المانجو أمام كوخنا، استحالت إلى رماد، لكن المطر انهمر؛ يغسل الشجر وظهور البقر.

جندي الحكومة يواجه النظارة:

– ومَن يكون؟

  متمردٌ أم فارسٌ يثور

  قاتلٌ أمْ جاء يستجير

  مَن يكون؟!

ينتبه جندي الغابة إلى غريمه:

– انظر.. الأرضُ يباب والسماءُ خرابْ.

– المطر، المطر.

– الأرض خرابٌ والسماء يبابْ.

– المطر، المطر.

يتواتر صـدى صوتيهما ويمضي:

– الأرض يباب.

– المطر.

– والسماء خراب.

– المطر.

تناول جندي الحكومة سلاحه الممدود إليه. جلس يحشو الرصاص بينما يلاحقه السؤال:

– والآن حدثني عن أهلك عن نفسك. أنت مَن تكون؟

جندي الحكومة يرتل واهناً:

– مات والدي، في سنة المجاعة

  وإخوتي، أصغرهم مات في الرضاعة

  وأمي التي تركتها

  حزينةً ملتاعة

  في ربوةٍ

  يحيطها السراب واليباب

  وغابة الحطب.

يندلع عواء الذئاب قاسياً وفاجعاً

إظلام

لوحة رابعة:

موسيقى ثاكلة تمضي إلى البعيد. ضوءٌ يسقط من أعلى على جسد الشيخ ثم ينداح خافتاً. يدخل الجنديان يغالبان الظمأ، يفتشان، يجوبان الخشبة حتى يعثرا على الشيخ.. يدوران حوله بحثاً عن أثرٍ للماء. يتبادلان النظرات ثم يتعاونان على حمل الجسد الهامد ويخرجان..

إظلام

لوحة أخيرة:

موسيقى تولول. إضاءةٌ خافتة تسطع مع الموسيقى المتصاعدة. يدخل الجنديان يسند أحدهما الآخر، وما أن لمحا الفتاة وسط الخشبة مغمىً عليها حتى تسابقا إلى قربةٍ بجوارها.. تعاركا عليها؛ جرَّب كلٌّ منهما القربة الخاوية بلا جدوى. وكأنما أبصـرا الفتاة لتوِّهما، أشهر كلٌّ منهما سلاحه في وجه الآخر. دارا حولها يقاومان الانهيار. حين تحركت الفتاة، أرخى كلٌّ منهما بندقيته مستنداً إليها مقاوماً السقوط، بينما الفتاة تنهض رويداً، رويدًا..

____________

الدُعاش: مسرحية كتبت في القاهرة، ونشرت في جريدة الخرطوم في مارس 1995. قدمها الطلاب السودانيون بمدينة أوديسا، على مسرح قصر الطلاب يوم السبت 11 نوفمبر 1995. تمت كتابتها مرة أخرى نقلاً عن الخشبة، ونشرت في جريدة الأيام يوم السبت 8 ديسمبر 2007.

عباس علي عبود

كاتب وقاص من السودان
زر الذهاب إلى الأعلى