البَرْزَخ
عند الضحى، اكتسى أفق النهر بغلالةٍ شفيفة. كانت المياهُ ساجيةً عند قدمي العجوز، المستند إلى مِنْسَأته، يُنصتُ لرفيف أجنحة الهدهد، وهو يحلِّق غير بعيد. وبينما الهدهدُ في حيرته محلِّقًا يدور، جاء من أقصى البلدة طفلٌ لامع العينين يقول: (إنهم يتقاطرون).. صمت لبرهةٍ يستجمع أنفاسه ثم أضاف: (أطفالٌ ونساء).. قال العجوز وبصره ينداح شمالًا مع تيار النهر: (إنهم يقصدون الخرطوم).. ثم حدَّق بعيدًا؛ عسى أن يفكَّ طلاسم بعض العبارات المرشوقة في أنساق الطبيعة. فلاحقه الطفل بالسؤال: (وهنالك، ماذا سيفعلون؟).. (سيفترشون ضياء الشمس، ويلتحفون بنور القمر)..
أطرق الطفل متفكّرًا يقلِّب المعاني والصور. حائرًا، تفرَّس في هيئة العجوز، ثم تمهَّل على الضفة.. لكنه توقف بغتةً حين أبصر آثار حذاءٍ ثقيلٍ غائصةً في الطين. اِلْتفت جانبًا فلمح ظلًّا على سطح المياه. مضطربًا عاد أدراجه تتراقص بخياله الظلال. فعاجله العجوز قائلًا:
- تمهّل يا صغيري.
- لا أدري مِن أين أتى؟
- مَن هو؟
- عسكري الحكومة.
- لا توجد الآن حكومة.
- ولكنِّي رأيت ظلًّا على سطح الماء.
- ربَّما..
وقبل أن يكمل العجوز عبارته، حطَّ الهدهد عند حافة النهر. تململ في وقفته ثم قال: (كان الطيرانُ عسيرًا؛ فالصقور تجوب سماء البلاد. تحلِّقُ فوق كل شبرٍ، أو حفرةٍ، أو ضفةٍ، أو فلاة. الصقور تحلِّق فوق الجثث؛ والهاربون من الوباء هائمون في الدروب، فهل من نجاة؟).. أجاب العجوز: (بلى).. (ومتى؟).. (لا عِلْم لي)..
ظلَّت أسراب الطيور تنهش الأكبادَ، والعيونَ التي صمتت، وما انطفأت فيها رعشة السؤال. الذباب يسدُّ الآفاق، والوباء يحصد الأرواح. الذباب يطنُّ في الآذان، وسيارات الإسعاف ولَّت هاربةً وبداخلها مَن حالفهم الحظ للإفلات من منجل الهلاك. كانت وجوه الهاربين شاحبةً، وبعيونهم يلمعُ بريقُ الذهول. هائمون في مفازة الهروب؛ ينتزعون أقدامهم من براثن التعب، يراودهم أمل الولوج إلى الخرطوم، التي امتلأت، ثم فاضت.. شفيفًا سال بريقُ العيون، لكن الواقعة كذَّبت أملهم؛ فلبثوا في أغلال الرجاء يرسفون.
وفي الخرطوم، ذات نهارٍ قائظٍ، وبينما الأقدامُ هائمةً، تفتِّشُ عن نسمة هواءٍ، عن ومضةٍ ربما تلمعُ في دياجير الغبار؛ اِنْطلقت أبواق سيارات الشرطة، يتبعها رتلٌ من السيارات الفارهة. زعيقٌ زلزل الجموع الهائمة على الطرقات. وحين لمحوا سيارات الإسعاف، ظنَّ بعضهم أنها جاءت لنقل المرضى.. لكن المصفحات، احتلَّت المشهد؛ حين أطلَّت منها رؤوسٌ تعتمر خوذات الحرب..
من وسط الجموع، خرج طفلٌ يصيح. لوَّح بكفيه الصغيرتين، وبعينيه بريقُ رجاءٍ جريح.. لوَّح، علَّهم يتوقفوا كي ينقذوا أمه المريضة. وبينما الطفلُ يركضُ، يلوِّحُ، ويصيح؛ اِنْطلقت رصاصتان.. واحدةٌ أردته قتيلًا، والثانيةُ خرقت أكداس القمامة..
كريحٍ عاتيةٍ واصلت السيارات اِنْدفاعها في طريقها إلى المطار. مسرعةً فُتِحتْ لها الأبواب حتى توقَّفت قرب طائرةٍ رابضةٍ في الانتظار.. وبعد إقلاعها بدقائق تحطمت؛ لأن واحدًا من محركاتها جذب صقرًا كان يحلِّق منفردًا. نفث المحركُ دخانًا كثيفًا.. انفجرت الطائرة ثم هوت محترقة. وقيل إن صاروخًا أصابها، أطلقه أفرادٌ من جهاز الأمن والمخابرات؛ انتقامًا لزملائهم الذين قُتلوا برصاص الجنجويد. وقالت قناةٌ محلية: (سقطت الطائرة بسلام)!! لكن القنوات الأجنبية عرضت بقايا الحطام.
تواترت أخبار الطائرة المنكوبة، ثم انهمرت التقارير والصور عن ضحايا الوباء اللعين، الذي يجتاح بلاد الأنهار. منظمة الصحة العالمية حشدت كوادرها الطبِّية، وأقلعت أسراب الطائرات تحمل المعدات، والأمصال، والخيام. لكن النظام كان لهم بالمرصاد. استولى على الأمصال والخيام، بحجة مسؤوليته، وقدرته على توصيلها إلى مَن يحتاجها، لكنها بِيعت في السوق السوداء..
على ضفة النهر، حدَّق العجوز إلى الأفق العاري، ثم عاد ليتأمل أشعة شمس الظهيرة المتحرِّكة هونًا على سطح المياه. أصغى لوجيب قلبه، ثم استغرق في تفكُّرٍ عميق. شَحَذَ بصيرته علَّه يُدرك قبسًا من وهج البراءةِ الأولى، الكامنة، بين النصل والدماء.. أو يشهد برقًا، من فيوضِ الحِكْمةِ الخفيّة، في انتشار الأوبئة، والرصاص، والغباء. منحدرًا من صحراءِ العتمةِ، إلى أوديةِ الاحتمال؛ راودته الأماني وهو يدنو من نبع المعاني. أنصت لدبيب الميقات يسري في شرايين اللحظة؛ فانداح إلى سدرة الإلهام. ظامئ الروح تجوَّل في حديقة الأحلام. مصغيًا، أرهف الفؤاد.. وفي لحظةٍ راعشةٍ فريدة، أدرك قبسًا من ضياءٍ وليد. اِفْترَّ ثغره والنشوة تسري في الوريد. غشيت وجهه نضارة اليقين؛ هونًا حرَّك مِنْسأته في الطين.. (كالطفل في الفردوس يمرحُ رغم رائحة الحنوط، ورغو رمل المقبرة)*
القاهرة: 29 أبريل- 5 مايو 2017
* محمد عبد الحي: حديقة الورد الأخيرة.