مجتزأ من رواية النّحاس
انحدرتُ باتجاه السوق. برغم الكساد الذي يجوب السوق هذه الأيام الكالحات، إلّا أن أصوات الدلّالين وصخب نداءاتهم كانت تصطك مع ذرات الغبار العالق دوماً في سوق أم زرقان، مع نعيق الغربان ووسوسة الوطاويط، تتقاطع مع جلبة المُدلّلين البُؤساء، مع صيحاتهم المكبوتة وأنينهم الطازج، الحار. نساء تعسات مع أطفالهن بثمن بخس، صبياتٌ وصبيان عراة كالعادة، يكشف عريهم عن كدمات وأخاديد على أجسادهم الطريّة التي شققها الضرب المتصل بكرباج العنج المؤلم، رجال مقهورون بكدمات عريقة ودمامل وجروح لن تبرأ أبداً. وفدت بضاعة جديدة وأنين متجدد، بعض الرجال مقيدون بحبال مفتولة ـ تجرهم الدواب، البعض على جذوع الأشجار في باحة السويق، النساء مع أطفالهن والأُخريات العَزَبَات ومجموعات الصبية استسلموا لقدرهم المنتظر، أصوات الدلّالين تلح وحناجرهم تمتلئ بالعياط. في كومة الصبية رأيت فتاة ناحلة، تطرق إلى الأرض لبرهة خاطفة، وما إن تلبث ترفع عينها بحدة إلى دلّالها، حتى يصبح وجهها قاتماً، بيد أنه يكمن تحت جلدته نقاء غريب، صدرها العاري أبرز نهدين بكرين لم يطمسهما شيء قبلاً، لكن سوطاً غليظاً فصل ما بين نهديها كخور من الصديد يجري بين جبلين. ناداني الدلّال، رجل ماكر، من الحَدَاحِيد، ذو عينين حادتين تتجولان بدهاء في وجوه المتسوِّقين، ترك كار الحدادة وصناعة السيوف والحراب إلى بيع بني آدم ُفي سوق أم زرقان. اشتريتها بعشرين ملوداً أم الحنّان. وقفتُُ في ربوة السوق وصحت: “هذه المبروكة عتق ُفي شأن الفكى المريود”. ألبستُ الفتاة جبة وقلت: “يا أمة الله في بلد الله”. لكن الصبية تشبثت بجلبابي وهَوَتْ تحت رجلي، أبت إلا أن تمشي معي. رفضت أن تكون في المسيد، أو أن تشق دربها في بلاد الله الواسعة، قالت : “أخدمك إنت”. ما عندي ما يستحق الخدمة: تُكل معزول أسفل الجبل بنيته وحماد من تَبَس وحطب وزربناه بصريف من الحصير المجلوب من بحر أليس، وسَحَّارة قديمة ورثتها معنعنة من جدتي بخيتة بت جابر، وبرمتي صلصال جلبناهما حماد وأنا من سوق الجوير ذات سفرية طويلة، وفروة من جلد تيس جبلي، ودواية جفَّ عمارها، ولوح مكسور وككر قديم. حملت الفتاة البرمة وغابت، في ضجيج غيابها نقحت لها اسماً غير الذي ناداها به الدلال، قلت أسميها بخيتة تيمناً بجدتي الرابعة، ما كانت جدتي بالمعني الدقيق للكلمة، أرضعت جدي جبارة حين فرَّت أمه المملوكة لها، وأقسمت لأولادها أن من يُعيره بشيء لن تعفوَ عنه أبد الدهر، قيل إن أحد أجدادي طارد الأم الهاربة وعثر عليها جائعة تتخبطُ في أودية موغلة وبعيدة، حين رأته بالت على نفسها. كان جدي هذا له سوط عنجاوي شهير، صُنع من جلد قرنتية بكر، وله كف غليظة وقاسية، يهابها الرجال في حفلات العرس، فلا يركز أمامه أحد، كسر ظهر رجل بضربة واحدة من سوطه الشقي القاتل، وشق آخر نصفين بضربتين متتاليتين، ما صمد أمامه سوى جدي جبارة الله، وكان وقتها صبياً ما بلغ مبلغ الرجال، هَوَى العنجاوي فوق ظهر جبارة، وحفر وسطه جدولاً أبيض عميقاً قبل أن يحمرَّ بالدم ويسيل بغزارة. جدي جبارة كان واقفاً مثل جبل يتسامى كلما هَوَى العنجاوي على ظهره، تسعاً وتسعين ضربة قاسية أحصتها النساء قبل أن ينفجرن في زغاريد شاهقة شقَّت عنان السماء، وغمرت الحفل تتناغم مع دلوكة حِميْرة وصوتها الحماسي الجهير، الذي يغزو القلوب، فأنشدت توَّاً وفي الحال غناءً أخضرَ يصف بطولة جدي جبارة الله وشجاعته النادرة والمدهشة. هزَّ الرجال بأياديهم عنيفاً وطرقعوا في الجو أصابعهم حتى أدمت، وعرضوا أمام جدي جبارة الذي منحته النساء من شعرهن المدهون شبالات خاصة ما مَنَحْنَ مثلها لرجل، كان لا يزال واقفاً مثل جبل عنيد، لا يتزحزح. قال رجل من الوادي لجدي إن هذه المرأة الهاربة، لن تعيش معكم بعد أن خبرت الهرب، فاشتراها بعشرة ملودا أم الحنّان. حين نشر الليل أوراده أمام الله وقرأت الأفلاك صلواتها، كانت مسبحتي تخشخش لالوبها بين أصابعي، تعصي وتطيع، تُلحد ثمَّ تنجذب، تكفر وتؤمن. كنت أغفو في لجة مدلهمة، ويعدو خلفي ضياء رهيب، يظهر فجأة وينقطع فجأة، وكأنما قافلة من جِمال كحبات كهرمان عليها هوادج من نور مربوطة بحبال غليظة من نور مثل ذلك، عليها رجال لا لون لهم، ونساء كاسيات عاريات، ليس مثلهن أحد، يحملن فوق رؤوسهن جراراً مقمرة، وتلمع ما بين أفخاذهن كواكب دريّة، كن يقرعن شتماً نورانياً صغيراً، بعصيٍّ بدت من نور، ينشدن بصوت رقيق عذب، بكلام لا يصدر من شفاههن المطبقة، ولا تسمعه بأم أُذنيك، إنما يسري، مثل دبيب اللاشيء، في جلدك كله، ويلج من قلبك إلى روحك الظامئة، كفاحا ً كفاحاً، كلاماً ليس مثل الكلام، معنى لا تحمله قشرة لفظ، ليس بصوت، ليست لغة، ليس بشيء، تحسُّه دون أن تفهم، وتفهم دون أن تعي، وتعي بلا تأويل، كلاماً مؤوَّلاً من نفسه بنفسه. حين انتبهت وصحا خاطري، إذا ببخيتة تقرع بخفوت على البرمة، وتغني بصوت نائح وحزين وبكلام يحمل في طياته مثل كلام إغفاءتي المنصرمة، لكن بمعنى دنيوي عميق، صوتها في الليل حزين ومشروخ ولكأنها تنادي خلقاً بعيداً، بينهم وبينها عتامير وفراسخ وبحار، قوماً غابوا في ظلمات هائلة وحملتهم ريح إلى أرض موحشة ومجهولة، لن تجدهم أبداً. دنوتُ منها برفق، كان دمعها الهمير يغسل قتامة وجهها، ويجلو نقاءه الغريب، كانت تتحسس بيد عاجزة صديدها المنحدر بين الجبلين، وبيد من حنين تقرع البرمة، حين انتبهت لوجودي هبَّت واقفة مذعورة، وجمعت جلبابها تغطي به جبليها البكرين، وتكسو أثر السوط. بين يدي، مثلما مات حماد الدقلاشي، أخذت بخيتة تحكي، دمعها يجري بين مآقيها المعذَّبة، وجهها القاتم يتنقَّى ويتجلَّى، يكشف عن أغوار بعيدة من الحسن والجمال، قالت: كان عاماً سيِّئ الطلعة، هاج فيه الثور وماج ونطح الحمل، خسفت الثرية وغرق أب ريَّة في سديم الدم، أدركت البنات النعش، بلغ النعش جبانة السماء الخامسة. العام الأول، ماتت جدتي بغَّادية، علمتني كلّ شيء، قراءة الكف ومنطق النجوم، ضرب الرمل ورمي الودع (الناس كواكب تسيرُفي أفلاكها). أورثتني جدتي بغَّادية ودعها البابلي وقالت: “تحملين الأمانة يا نسل الكهانة”. في ذلك العام السيِّئ، كلُّ شيء انقلب رأساً على عقب، دفن الآباء أبناءهم، انطمست أقمار واغ الغزالة، نصلت حِزَّامية الرجال وحثت النساء الرماد فوق الرؤوس الحاسرة، كان النحاس يقول حين نقرعه صباحاً: “الحُرابُ في كومة التراب”، وحين يقرع ليلاً يقول: “السيف ُفي الجراب، غاب دليل غاب”. قلت لأبي نخلّي واغ الغزالة، أرض الله واسعة، يشرق نجمُ في سماء أخرى، أبي قال: “أفرشُ فروتي وأموت”. متأخراً جداً، أدرك دليل ود عدلان مك واغ الغزالة فداحة ما ارتكب من حماقات. ليلاً يتسلل مع أبي إلى مطمورة العظام وينتحب، حفرة ضخمة وكريهة، حفرها رجال كاسف الزلقوني، وزير دليل الجديد، ورقدت عليها هياكل فرَاس واغ الغزالة، من يعتقد دليل أنهم يتآمرون على سلطانه المُهدَّد، على عرشه الآيل للسقوط في أية لحظة، نبوءة جدتي بغَّادية، يؤتى بالرجل المشكوك بولائه إلى فسحة العرضة مقيداً من خلاف، تنزع قسراً جبته بينما يقرع النحاس والطبول، حشد حشيد من الناس ينحدرون من جهات الدنيا العشر، يترك الرجل يترمّض تحت شمس واغ الغزالة الحارقة، في جمر الحصى وملالة الرمل، ثلاثة نهارات متصلة، ويلهب جسده بالسياط العنجاوية الضخمة، ليلاً، يترك في الساحة كأنه جثة هامدة. في اليوم الأخير يأتي دليل في حاشية من الجند، على ظهور الخيل المطهمة، الموشاة أعناقها بالسكسك الملون، ألجمتها من الحرير الأسواني، سروجها من خشب الصندل الهندي. يقرع النحاس بشدة، يهبط دليل من جواده، يحاكيه وزيره الزلقوني، يلقي الزلقوني خطبة عصماء، بينما يكون دليل يبول على رأس الفارس، (يأتي زمان تكوس فيه عني يا مولاي، ولا تجدني) عشرة رجال من الزلقونية يحملون الرجل، مقيداً من خلاف لا يزال، يهوُون به في حفرة العظام. انطفأ صوت بخيتة، خبأ رنينه وضاع، غوَّر عميقاً في فجاج الصمت، تجلَّى وجهها كأنه كهرمانة متقدة أبد الدهر، كأنه نار درية أو كوكب يسيح في ظلمات ثلاث. نهضت، أفرغت ساعدي من عنقها، كان الليل يتلكأ في السماوات وما أشرق سوى وجهها الدّري. جلست على ركبتيها، كان دمعها يتيبس على مآقيها. قالت: فرش أبي فروته، قعد قعدته الأخيرة، قرأ أوراده كلّها، نادى شيوخه أجمعين، نده جميع الرجال الذين في القباب، ما استجاب أحد، كان نجمه يتهاوى ويتشظى في عتمة الأبد، قال القدر كلمته النافذة. لا تحذر شيئاً كالذي بين يديك، لا يخوننا غير أولئك الأقرباء الذين نثق بهم، في ذلك اليوم خرج عساكر الزلقونية من حيث لم يحتسب أحد، توهج الثور وهاج كما لم يحدث قبلاً، نطح الحمل وامتلأت جبانة السماء، خرجوا من بين ثنايا واغ الغزالة، في جبات تشبه جبابتنا ولا تشبهها، على خيل ودروع هي لنا وليست لنا، نعرفها وتنكرنا، حمل رجال الزلقوني دليل ود عدلان إلى مطمورة العظام مقيداً من خلاف وهوَوا برأسه المبلل ببول الزلقوني، هووا به هناك بين هياكل الرجال، فراس واغ الغزالة. لبس الزلقوني جبة السلطانية وركب فرس دليل ود عدلان وتزوج بامرأته كنانة بت سبيل .
* كاتب من السودان