ثمار

كتمهيد لعلاقة طويلة

حنان شافعي

منذ زمن طويل لم تَجْتَحْنِي حُمَّى.
وفي الحُمَّى، تنافس نار الجسد نار الجحيم، أيهما يحرق الروح أولاً؟
تعلو نبضات قلبي في الفراغ، تستقل أطرافي وتذهب بعيداً إلى حد فقدان الأمل في الرجوع.
صعوبة التركيز تعادل صعوبة نسيان الوطن، وتصبح اللحظة ثقيلة حين يتوقف العالم عن الصخب ويخلو المشهد من كل شيء عدا هذيان متقطع.
أحلام مكبوتة يطل فيها وجه جدتي وهي تحمل عروس المولد. كنت أنتظرها كل عام، أجلس القرفصاء على عتبة المنزل، أراقب القادمين وكلي  يقين أنها ستظهر في أي لحظة بمصدر البهجة -ربما الوحيد- حتى العام القادم. تدريجيًا كثر عدد الأطفال في عائلتنا، توقفت جدتي عن الزيارة.. ماتت وطال انتظاري لها وللعروس.
في الحمى،لا شيء يطفئ النار سوى دموع تنفلت عنوة وقطرات بائسة من ليمون أمي أو كمادات أعدتها على عجل.
لا شيء داخل بؤرة الوعي غير مثانتي، أفاوض نفسي على إطلاق سراحها كفرصة للتحرر، وإمكانية تغاضيهم عن تدنيس جلبابي الكستور. رغم تكرار الحمَّى قديماً والتفكير كل مرة في فرصة التحرر، لم أكن شجاعة بما يكفي لأفعل، ربما احتراماً لمرتبة الزواج التي طالما رددت أمي أنها قطن مصري أصيل، من كناسة المصنع.
يبدأ انتشار الخبر بالعجز التام عن الحركة وربما مرور يومين من الهذيان لينتبه أبي ويسأل سؤاله المكرر عند مرض أي منا: ماذا بك؟ هل ستموت؟
كأن ارتكاب الموت أو الحياة فقط، هو الحدث، وما بينهما غير جدير بالاهتمام.
يجس جبهتي بيده الخشنة، ليتأكد من صحة الخبر، ومن ثم يغدق في حنوِّه الخجول، فتتسع مساحة النشوة وينفتح باب للتأرجح بين إدراك الكائن والمستحيل.
لم يكن المستحيل وقتها مستحيلاً، كأن يغني لي ابن الجيران بصوته الجميل في غفلة من أمهاتنا، أو أن أتصعلك فجراً في شوارع العاصمة المضيئة دون أن أخشى عقاب العودة إلى بيت أبي صباح يوم جديد.
لم يخطر ببالي أني سوف أنسى هذا الولد بعدها بأيام، كما ستصبح شوارع العاصمة بيتي وعمال مقاهيها أصدقائي.
لعبتي مع الحمَّى كانت الحوائط، تقترب من جسدي المسجى على السرير أو على الأرض فأقاومها..
أزحزحها بأطرافي إلى الوراء حتى لا تطبق عليّ فتقتلني أو تقطع عليّ الحلم.
الوجوه المتخيلة على سقف الجريد كانت لعبتي أيضاً، تؤنسني.. تخيفني وتتحدث معي في أمور كثيرة.
أحياناً كنت أتعمد تعذيبها، بأن أراها من زوايا مختلفة، أمنحها خصائص حيوانية مرة وإنسانية مرة أخرى، ربما كان ذلك نواة لخطيئة مستقبلية، أرى الناس بحسب ما يتراءى لي ثم يأتي دورهم ليفاجئوني.
كان جسدي صغيراً خفيفاً لم يعرف بعد أعباء الأنوثة ولا الأمراض السيكوسوماتية.
أما الروح فأظن أنها من كان ينتظر الحمى ليدربه على لذة الألم كتمهيد لعلاقة طويلة.
ويظل قلبي عصفوراً أخضر يلهبه اشتعال الجسد فيطير، كما يطيره غرور التفوق في المدرسة وإلقاء القصائد في المناسبات الوطنية، والركوب أمام أبي على الدراجة، ثم بعد أن أورثوه التردد، وأصاب الصياد أصدقاءه العصافير لم يعد مفيداً حمايته من مشكلات سوء التغذية أو تكرار الحمى.

 

*كاتبة من مصر

زر الذهاب إلى الأعلى