ثمار

نصار الحاج.. وراءٌ شعريٌّ ممتد

عبد المنعم حسن حاج

الوراء الممتد في نسيج نصار الشعري غبار للاستنشاق، وكتابة للاختلاف، وكلام للتأجيل، عبر تهويمات بصرية، تظل فيها العين حاملاً للأنا، تلك العين البانية لكثير من سبل الانهيارات، لأي مركزية قد تلوح في عراء النص أو عتباته. كتابة طليقة تحرر اللغة من نفسها، ولا تحيي الآخر إلا عبر موته. تأمَّل عدمية هذا النص وعبثيَّته:
هذا البحر
يخرج من حفرة الينابيع
بذاكرة ترخي ثياب السفر
تلوح للعابر بالمناديل التي يحتاجها طير المسافات
كلما نفض جناحيه من مكان بعيد
يضيء روح العشب وسيقان الشجر
يفتح شريان الينابيع بالمعاول التي قالها البحر
حينما سفح المياه بموازاة المطر
لا إخلاص هنا، ولا وفاء، غير أن تدلف في جوف هذه المخيلة المترامية، وتكون قارئاً ضالاً، فاجراً ومهتدياً، معتدلاً تجاه هذا الاعتباط، لتنجو من التدنيس بآخر، وتقرَّ بأن القراءة الجدية للنص هي قراءة خاطئة. فالنجاة هي العدمية، والانشغال بمزالق التحرير مقابل نص عدمي، لا نفوذ فيه غير السباحة، وفق أفق بلا ضفاف. فالكل هنا لا ينتمي إلى صورته الذهنية، والدال يتمرد على دالته، والذاكرة تتوارى في الخارج وتنسفه في آن واحد، فالطيور والعشب والمطر والمسافات مبعثرة كشظايا أحلام لا تتجاور إلا في بعدها الوقتي، وفي إطار البصر النافذ، حيث لا نفوذ هنا سواه، ليدنس البصر هذا النص باستقلاليته وتحكمه بتغريب اللغة والاقتراب منها أيضاً، لا بمطلقاتها المتعالية وإنما باقترابها من وسيلتها التبليغية. انظر أيضاً ولا تقرأ:
نهراً من الضوء يمشي عالياً نحو الينابيع
بلهفة يطهو مواعيد الغروب
يتوكأ على نجمة في الطريق إلى السماء
يلمُّ أشجار الظلام التي كانت تخيط اليباس
لحظة من بهاء الخروج
والأفق يدخل في ثيابه الرمادية الأسى
حليقاً من ضوء القمر
يرصد الغبار في الشبابيك الموصدة
انحرافات للتحسس وطبطبة، مهارة الإخضاع التدميري للعلامة – فالينابيع عالياً تمشي كضوء فوق النهر – علامات كذوات فاعلة تتمتع بعلائق إنابة مع كونية الإنسان، من حيث البروز والتداخل والإظهار المعتبط، إنها أيقونات بمؤشراتها ورموزها، لا تلبث أن تنعزل عن بعضها، رغم دينامية التمتع بها كسينوغرافيات تتهادى على فضاء مكتظ، لتكسب انكبابها من القدرة على تحرير شغل المخيِّلة من مغبَّة المجانيات، فالتماثل مثلاً مجاني بطبعه، وقصدي لا يثير شغف المفارقة، ولا وفرة منه بين البحر وطهو الينابيع ورمادية الأفق وشبابيكه الموصدة، وما يتوفر تلذذات نفعية عبثية تدمن سبل الانقضاض على متلازمات المعنى وتحريم الاتكاء المتراخي والمنتفع بتكاسله على مصاطب المحاكاة والبنيات الوصفية المندثرة.
في الأدراج الخائنة
يقطع من ذيل التقرير شهادته
صورته البيضاء
يظللها بالحزن
ليكتب في الهامش
مرتزق
كان يشيع الثورة في الأحراش
يخرج السرد مفارقاً ومخالفاً لمجمل لما هو نمطي فيه، وإنما عبر بلاغة الموقف والصور البصرية في تضافر موجي الشكل، يشغل العين باكتناه داخلي يرسم إيقاعاً متحولاً وفق أدوات القراءة؛ ولا رائز هنا لإيقاع خارجي صوتي، سوى ما تمليه هذه اللحظة، وفق هاجس التمرغ والاندحار في جلباب هذا التلاطم وارتجاجه بين مسافات الأدراج وأسرارها، وشهادات الأحراش وارتزاقها؛ إنها فجوة للتوتر والخيبة والحزن وإزاحة للبياض، وفتح آفاق لإرهاف السمع قدر ما يتسع لطقطقة المخيلة، لتؤرخ ميلاداً متحركاً لكل قراءة جديدة.
نص نصار الحاج نص قصدي، لا يحتفي كثيراً أو قليلاً بالمساحيق الشعرية المصكوكة الرتيبة والمعهودة؛ لتتلبس ثراءً يثير شغف الاختلاف والمغايرة.
الشرفة واسعة
تفرش أوراقاً لاهثة الخطوات
والطفل جريحاً
يمزج ألواناً من دمه
يرسم خارطة للبحر
بأمواج الريح الخضراء
نشيداً ينجو من وحل الطين
وسرب الطير يناوله رائحة الماء
الشعر هبوب الفراغ، ومغادرة لشيئيَّة تعبر عماء الحواس إلى نور الكلمات؛ فللوساع انزياح وللشرفة أيضاً مقابل لهاث لخطوات لا تستنفده، بينما البحر فعل إعاقة لا فعل ترويض وتنضيد؛ والجرح والخارطة والريح ورائحة الماء سينوغرافات تنبثق كجليد عائم في ميعة الإرهاق والأرق، واقتفاء أثر الحياة من براثن الوحل والطين والموت والنشيد أيضاً؛ لينزاح المعنى من معناه عبر إيقاعات تشبع العين وتعاقر تهويمات الموت والتخييل. إنها كتابة رفيعة متجلية وشامخة تستثمر فيها اللغة كطاقة وكخريف ولهاث يصنع شمعته الأخيرة بأكياس مذهولة الصدفة؛ لغة ترمق الغيم ولا تهاب الانحراف؛ إنه الولوج عبر البوابات المحرَّمة لتبكي فصولها وتغتسل في سماء الظهيرة:
عندما كان العراء
يفتح الطريق إلى الجبل
كانت الريح تغسل فخذيها
من عليقة المطر للمرة الأخيرة
تفتح الطاقة التصويرية نافذتها وتجرجر علائق داخلية بين العراء- الجبل – الأفخاذ – وتدحر طابع التأمل الانطباعي؛ فالجبل عامل سد للعراء، بينما الريح حبيسة المطر ووعورة الطريق، لينبثق بينهما إيقاع الإلغاء والانمحاء – انمحاء الكبت وبواعث تدويره وصولاً لجدار مبدأ اللذة وتناسلها؛ إنها شعرية تؤسس شعريتها عبر كثير من جسور الفجوات ونتوءاتها ومجمل توترها المسافي، بين أشياء تبدو لا رابط بينها؛ ليبني نصار نصه بقصدية رفيعة تحول ما هو نثري إلى حالة شعرية شديدة التوهج، بلغة مبرَّدة أحياناً تدخل مفاصل الحواس والبصر أوّلها.
وعاء الشكل أكثر ما يميز هذا الخلق الشعري؛ فالتسطير وتوزيع الكلمات وتراتبها، يتم وفق إيماءات الانفعال المرتجاة، وللإيعاز بدلالات متفاوتة وغير مرئية؛ كما يتأسس الشكل في هذا النص المتحقق شعرياً، وفق انحياز بصري. فبمقدور العراء مثلاً، إنجاز الكثير لذا يأتي – عندما كان – وحيداً في المطلع، وليس أمامه غير هذا البياض، للإحساس بوخز الزمن واجتراره – إنها مسافة القارئ وموقفه الآني؛ لذا لا يفتح الطريق إلا عبر فجوة خاصة للتبريد، ولخلق حالة من التأمل. إنها كتابة المواربة.. مواربة الشيء بالشيء؛ فالكل يتعالق بحركية كلامية حرة تعادي محاولات التقعيد؛ وتعزِّي انجرافها، وتطمس تصورها اللحظي المتموضع في السكون، كطمس ملامح التعامد والتوازي لثنائيات الموت والحياة، بتهجيرها المبطَّن لشغف المفارقات المعلنة:
حارس الموتى يقلب دفاتر الأوراق
أرشيف الشهادات القديمة
دون أن ينزع تواريخ الوفاة – من إبر القيامة
ساعة الشمس انتقت صلواتها
من غرب ناصية الأفق
بينما؛ صفصافة بالأرض
أرهقها الوقوف المر بالميدان خلف المقبرة
نامت
على خيط الجنون

في آخر الليل
أرصفة المقاهي
لم تعد تفسح مكاناً للجنون
أشياء وأمكنة وفضاءات تنسل عبر شعرية لا تستنجد أو تعلن عن رموزها؛ بل تتقرح وتتبعثر، وتظل في ملاحقات ومطاردات تبعدها عن ملامحها وسماتها وتنسف باطنها وتظل طليقة لا ترنو إلى جمع أو قسمة؛ هي هنيهات لجماليات الموت المتعددة حتى يشيخ الموت في قعر المنافي، ويبقى سادراً كالليل في صمت الجنازة؛ إنها خصوصية التجريب في أروع حالاتها؛ فكل تجربة تخلق شكلها ومعاييرها بعيد عن أي غنائية طافحة أو منبرية طائشة، تعتني بالخارج، ولا تصغي لما هو داخلي وعميق.

 

*قاص وروائي من السودان

زر الذهاب إلى الأعلى