أنا ثعلب (إلى أورهان باموق)
أشعرُ بالغضب الشديد، لأنني الآن في قفص، والظلم الذي يقع عليّ لا يُحتمل. أقول لنفسي: ألا يكفي تشويه سمعتي في القصص والحكايات، ليتم وضعي في هذا القفص اللعين، حتى يتفرج عليّ ويشاهدني الحمقى، ويزداد غضبي عندما أسمع أحد الأغبياء يقول لآخر: انظر إليه كيف يدور كثيراً؛ إنه الثعلب المكار؟.
نعم أنا أدور كثيراً حول نفسي، ولا أستطيع الاستقرار أبداً، ويزداد النشاط في عضلات قوائمي الأربعة، كلما تذكرتُ الأيام الجميلة التي سُرقت مني، نعم لقد سرقوا مني أجمل أيامي وجاءوا بي إلى هذا القفص اللعين، لكنهم مع ذلك يحسبون أنفسهم يقدمون لي خدمةً؛ إذ يقدمون لي لحوم البقر المقرفة، التي يظنون أنها سببٌ كافٍ كيما أشعر أنني أعيش حياة السلاطين المترفة.
لكن الشيء الأكثر إزعاجاً لي، هو الإيمان الراسخ لدى الكثيرين بأنني مجنونٌ بالتهام لحوم الدجاج، وأنني أشعر بالسعادة الغامرة، جراء أكل لحوم الديكة الأليفة، وهذا الخطأ الفادح يُرتكب كل يوم، فكثيراً ما أرى أطفالاً صغاراً يأتون إلى هنا من أجل رسمي، ورؤوسهم محشوة بذلك الخطأ الفادح، حيث يحرصون دائماً على تصويري متربصاً بقن دجاج.
إن الشيء الذي يحيرني كثيراً، ويجعلني أكاد أنفجر من الغضب، كلما مكثتُ يوماً آخر في هذا القفص؛ هو ترسخ يقيني بأن الجميع يظنون أنهم يعرفون عني كل شيء، مع أنهم لا يعرفون عني سوى القليل جداً، وفي أفضل الأحوال فإنهم يعطون تفسيراتٍ خاطئة لأفعالي. ذات يومٍ وقف أمامي رجلٌ مهندم الثياب، وخمنتُ أنه قد يكون أحد الرحالة الفرنجة، لأن ملابسه غريبة جداً، سيما قبعته المتوجة بريش طائرٍ جميل، لقد نظر إليّ ملياً ثم دندن قائلاً: أبعدوا الثعالب، الثعالب الصغيرة تفسد الكروم.
هل ذلك صحيح؟ هل نحن مَنْ يفسد الكروم؟ شعرتُ بالأسف الشديد جراء سماعي ذلك الافتراء، الادعاء بأننا الثعالب نفسد الكروم، لكن شعوري بالأسف الشديد تحوَّل إلى شعورٍ بالحيرة الشاملة، عندما علمتُ أن ذلك الادعاء منسوبٌ إلى الملك سليمان، الذي سمعتُ عنه حكاياتٍ كثيرة، مثل القول إنه كان أكثر البشر حكمة على الإطلاق، أسأل نفسي كيف للحكمة أن تكون منحازة؟. مع ذلك فالادعاء بأننا نفسد الكروم، لهو أمرٌ يمكن قبوله لأننا نتلذذ بامتصاص عصير العنب، لكن الجشع وحده في حقيقة الأمر، هو ما يجعل الحق المشروع للآخر، في أكل ما يشاء يبدو كما الإفساد عند الآخرين.
خفَّ الألم والشعور بالحيرة عن كاهلي، عندما علمتُ أن أحد شعراء العرب، قد أقدم على فعل العكس، مما فعله سليمان في كتابه المُسمى عشق نامة، نشيد الإنشاد، إذ قام بحشر اسمي طالباً من أصدقائه طردي، مبرراً الأمر بإفسادي للكروم. ذلك الشاعر واسمه امرؤ القيس كما أتذكر، جاء أمره إليّ بالصدفة المحضة، إذ حدث أن أحد أساتذة اللغة العربية تحدَّى طلابه، عبر الطلب منهم الإتيان باسم صغير الثعلب، وحتى يوغل في التحدي، أضاف الأستاذ المتبختر بعلمه قائلاً: وسوف ينال درجات الامتحانات كاملةً، مَنْ يستطيع أن يأتي باسم مشية صغير الثعلب، لكن أحداً من التلاميذ لم يستطع الإتيان بالإجابة الصحيحة عن السؤال.
لو اجتهد أولئك التلاميذ، لوصلوا إلى الإجابة الصحيحة دون عناء، لقد كانوا يحتاجون فقط الرجوع، إلى القصائد المنقوشة بماء الذهب في الكعبة، قبل إتيان النبي محمد، هذا ما سمعتُ الأستاذ يقوله لرجلٍ آخر أمام هذا القفص اللعين، ومضى ليضيف قائلاً للرجل الآخر: لو عادوا إلى قراءة القصائد المسماة بالمعلقات، لوجدوا أن صغير الثعلب يُسمى تتفل، فيما مشيته تُسمى تقريب، وقد جاء ذلك في وصف امرئ القيس لفرسه، وقد قال في مدح ذلك الفرس المحبب إلى نفسه: له أيطلا ظبي و ساقا نعامةٍ وإِرخاء سِرحان وتقريب تتفل.
رغم أن المدح بأكمله لا يبدو منصرفاً إلينا، نحن الثعالب، إذ بالإضافة إلى افتخاره بامتلاك فرسه طريقة مشي الثعلب الصغير، أضاف أيضاً أن لفرسه بعض خواص الظبي، والذئب، والنعام؛ فإن مدحه يبقى جميلاً، لأنه لم يذكر الكلب أبداً، وهذا أمرٌ نادر الحدوث، ألا يتكرر الخطأ المردد على الداوم، والذي يصر على ذكر الثعالب والكلاب معاً دائماً، بزعم أنهم أبناء عمومة، فهل ذلك صحيح؟ هل الثعالب والكلاب إخوة؟.
إنه سؤالٌ مهم جداً، لأن الجميع يظنون أنهم يعرفون الإجابة عنها، وهي حسب اعتقادهم أن الثعالب والكلاب إخوة، وهذه إجابة خاطئة بكل تأكيد، رغم أن الكتب تصر على صحتها، عبر إيراد الأمثال المبنية على تلك الكذب، ومن الأمثال الغريبة التي سمعتها مثلاً يقول: أم الكلب ثعلب. قلتُ لنفسي عندما سمعت ذلك المثل لأول مرة، إن مَنْ وضعوا ذلك المثل، لا شك مصابون بعمىً لا رجاء في إصلاحه أبداً، فكيف لحيوانٍ مثلي أن يكون له ابن مثل الكلب؟. ألم يروا كم أن الثعالب جميلة، وكيف تصورها النقوش بعيونٍ ساحرة الجمال، تشبه عيون أميرات العجم و بلاد فارس؟.
كيف لنا نحن الثعالب، أن نكون أقرباء للكلاب تلك الكائنات الوضيعة، والتي رغم وفائها المريض للبشر، ما يزال الأخير يستخدم ذلك الوفاء وسيلةً للسب، حيث يقولون كثيراً في سب بعضهم البعض: هؤلاء أبناء كلاب، لكن الكلاب في رأي تستحق ذلك الاحتقار وأكثر، فما يظهر على طباعها من وفاءٍ للإنسان، ليس سوى جبن وخوف متوارث من حياة البرية. ذات يومٍ قصت لي أمي حكايةً فقالت: كان جدَّا الثعالب والكلاب صديقين، لكن الافتراق دبَّ بينهما بسببٍ اقتراحٍ قدَّمه الكلب، لقد عرض الكلب على جدنا الهجرة إلى المدينة، حتى يستمتعا بالحياة المترفة فيها، وكيما يقنع جدنا قام بتعداد المزايا الحسنة في المدينة، مقابل التعب الذي يعانيانه في البرية، فيما الطعام يفيض فيتدفق هنالك لتأكله الفئران. لكن جدنا أجاب صديقه الكلب بكل هدوءٍ قائلاً: إن حياة المدينة قاسية جدناً، انظر كيف يعاني الثور، فرغم الخدمات الجليلة التي يقدمها للإنسان، إنهم في النهاية يقومون ببيعه ليُذبح، هذا دون السياط الكثيرة التي تجلد ظهره، إنها حياةٌ لا يستطيع أحدٌ منا التأقلم معها.
“لا يا صديقي”. قال الكلب، ثم أخذ يقدم المزيد من الأسباب، كيما يقنع جدنا بجدوى الذهاب إلى المدينة، ومضى يشرح أكثر بالقول: هنالك جانب مشرق لم تفكر فيه، وهي الحماية التي سوف نحصل عليها، بالإضافة إلى الرفاهية التي في المواسم الكبيرة، والمتمثلة في أمعاء الخراف التي سوف تقدم لنا خلالها، والحلويات اللذيذة التي يصنعها الدراويش في ذكرى مولد النبي، وسمعتُ أيضاً أن لا أحد يعاني هنالك الصقيع والبرد، لأن الأدخنة المتصاعدة توفر الدفء اللذيذ للجميع.
“ما هذا الصوت الذي يتاوه ألماً؟”، سأل جدنا وقد سمع خواراً عالياً، أجاب الكلب: إنهم يقومون بخصي أحد الثيران، لكنهما لم يتقدما كثيراً فسمعا صوتاً آخر، يخور بألم أشد من الصوت الأول، عند ذلك سارع الكلب المتهلف للذهاب إلى المدينة إلى القول: إنهم يقومون بخصي ثورٍ آخر، لكن يجب ألا تخشى شيئاً، فإنهم لن يقوموا بخصينا نحن. رد جدنا على صديقه الكلب قائلاً: اذهب وحدك، ومهما تكن الأهوال من بردٍ و جوع، فسوف أبقى هنا في البرية. وهكذا افترق الصديقان إلى الأبد.
أستغرب جداً لأن الذين يتحدثون كثيراً عن العلاقة المزعومة، بين الثعالب والكلاب لا يذكرون أبداً تلك القصة، ويكثرون الكلام دائماً حول وفاء الكلب، الذي هو في جوهره محض جبن وخنوع، وخوفٍ من حياة البرية حيث الشجاعة والدهاء تقرران مَنْ يحصل على ماذا، بدل الفتات الذي يُحصل عليه في المدينة مقابل الإهانات، لكن الأمر الحسن أن الكلب نفسه يعرف تلك الحقيقة، لذلك فإنه يهتاج مسعوراً مثل المجنون عندما يراني، فأنا أُذكِّرُه بالعار الذي هو فيه، والخزي الذي يجلبه بخنوعه الجبان للبشر، على سمعة البرية وجميع كائناتها.
سمعتُ أن جريمة بشعة قد هزت جميع أزقة إستانبول، لدرجة أن جلالة السلطان نفسه مهتم بمعرفة الجاني، وقد سمعتُ الحراس الذين يعتنون بالحديقة يتهامسون لبعضهم البعض قائلين: إن جلالة السلطان قد أقسم أن يُخوزق المجرم بحضوره شخصياً، وإنه في سبيل القبض على القاتل قام بفتح خزائن القصر، حتى يتمكن كبير النقّاشين من معرفة اللعين، عبر الأسلوب الذي استخدمه في الرسم، وقيل إن المعلم كبير النقّاشين اختار ذيل الحصان للإيقاع بالقاتل؛ حيث طلب من جميع نقاشي إستانبول القيام برسم ذيل حصان، لأنه لا يستطيع نقاشان رسمه بنفس الطريقة أبداً.
لقد شعرتُ بالأسف الشديد، عندما سمعتُ بأمر تلك الجريمة، لكنني شعرتُ بالأسف الأشد، للاختيار الخاطئ الذي أقدم عليه المعلم كبير النقاشين، لكن ربما للمعلم أسباب منطقية دفعت به إلى ذلك الاختيار، مثل أن يكون المجرم قد ترك خلفه رسماً لذيل حصان، فإنني أعتقد أن رسم الثعلب هو ما يعطي ميزةً في الرسم، فقد سمعتُ المعلم كبير النقاشين نفسه يقول ذلك يوماً، لقد كان صحبة مجموعة من صغار النقاشين، عندما سمعته يسألهم قائلاً: هل تعرفون ماذا يميز الثعلب؟ إنّ ما يميز هذا الثعلب هو اللون الأحمر، الذي يغطي فراءه، وصفاء اللون ذاته في ذيله الجميل.
لقد صدق المعلم كبير النقاشين، فالذي يميزني من بين جميع الحيوانات، هو اللون الأحمر والذيل الجميل، وهو نفسه الذيل الذي يجعل الكثير من الصيادين يهدمون الأوكار علينا، وقد سمعتُ من ثعلبٍ أبيض جُلّب هدية لجلالة السلطان، أن النساء في بلاد الفرنجة الكفار التي جُلب هو منها، يفتخرن بارتداء فراء إخوتنا المساكين هنالك، وإن أميرات الفرنجة الكافرات يسرقن جراء أخواتنا من أجل ذلك الهدف اللعين. لقد اقشعر بدني عندما سمعتُ كل تلك الأمور السيِّئة، التي تحدث لإخوتنا هنالك في بلاد الكفار، وهي أشياء لا يمكن أن تحدث لنا هنا أبداً، لأن جلالة السلطان لن يسمح بحدوثها، فدين المسلمين الحنيف يأمر بالرفق بنا، نحن الحيوانات، وهذا ما يجعل السلطان دائماً يشدد على ضرورة الاعتناء بنا؛ كل ذلك رغم أن كلابه كادت تقطع ذيلي الجميل، عندما كنتُ أقوم بقضم سحالي الحقل اللذيذة، فيما كان موكبه خارجاً في رحلة صيد إلى أدرنة.
* شاعر وروائي من جنوب السودان