ثمار

صورة تذكارية مع بعّاتي

يوسف حمد

(يا عيشي الما لميتا..
ويا هشابي الما طقيتا
ندمان أنا “محمد نجيب”
الما كسيتا)
أغنية منسوبة لبعاتي من البعاعيت الذين خلدهم الطيب محمد الطيب، قام من مرقده يندب بها حظه، لكون الموت غافله قبل أن يحصد محصوله من الذرة، وقبل أن يقطف صمغ شجر الهشاب الذي يخصه، وكذلك، عاجله الموت قبل أن يكتسي من قماش الستينيات الفاخر الذي سمته الذاكرة الشعبية “محمد نجيب” إجلالاً للزعيم المصري. على ذكر الأغنية، أدعو الجميع إلى نبش البعاعيت وأغنياتهم… وبالطبع، في حياة كل منا، نحن الذين هبشنا الحياة في الثمانينيات، في حياة كل منا صورة ذهنية متخيلة لبعاتيٍّ ما، غالب الظن هو الذي صاغ حياتنا وجعل في قلوبنا مكاناً للخوف. فقد كنت أنا، مثلاً، أعمل ألف حساب للبعاتي الذي سيأتي من الجهة الجنوبية الغربية لـ(جنينة حاج عبد الله)، في زاويتها ذات الأشجار المتشابكة المجاورة لمصرف المياه الضخم، وسيكون مُضحكاً لو قلت إن تلك الجهة من الجنينة كانت تمثل عندي أبعد مكان في الكون، ولا أتصور أن ثمة حياة بعدها، وفي سنين المدرسة الأولى تنازلت عن ذلك التصور وظننتُ لردح من الزمن أن (واق الواق) هو المكان الذي يلي جنينة حاج عبد الله من تلك الجهة. كنتُ أتخيل أن ذلك البعاتي سيأتي في ملابس ناصعة البياض، هي محض كفن، وغالباً ما تكون غايته أن يختبئ في زريبة من زرائب القصب المحيطة بالقرية، إذ عادةً ما يصنع الأهالي هذه الزرائب من أغصان الأشجار في مساحات شاسعة خارج القرية، وتُملأ بسيقان القصب والحشائش المجففة، لتكون بمثابة علف للحيوانات. وسيكون مضحكاً أيضاً، لو قلت إن البعاتي الذي أتخيَّله يشبه، إلى حد كبير، الممثل الأمريكي أنطوني كوين، حين أدى،دور عمر المختار، بالذات، في فيلم (أسد الصحراء) الذي أخرجه مصطفى العقاد. بالطبع، لم أكن قد شاهدت أنطوني كوين، قبل أن أرسم صورة البعاتي، فقد كان البعاتي سبَّاقاً إلى حياتي، بل أزعم صادقاً أن أول مرة أشاهد فيها التلفزيون بتمعن كانت بعد أن أكملت مرحلتيْن دراسيَّتيْن، وصادفت مشاهدتي حدث كأس العالم لكرة القدم، وحينها كان جهاز التلفزيون الوحيد يمتلكه السيد آدم الزاكي، وكان يعمل لساعات مسائية محدودة بواسطة بطارية السيارات، وكي أكون صادقاً معكم، فأنا حتى الآن أجد صعوبة بالغة في تشغيل التلفزيون، أو الانتقال بين قنواته، وغالباً ما أستعين بآخر وقت الحاجة لذلك!. عليه، لا يمكن أن أجد في نفسي ما يربط بين التلفزيون والصورة الذهنية المتخيلة للبعاتي مطلقاً، بل يمكن الإشارة مباشرة إلى خالتي زينب (أصبحت أستاذة فيما بعد)، فهي التي ساهمت بحكاويها التربوية العجيبة، في رسم تصوري الذهني للبعاتي، بل، ومن أين يأتي!. لا أذكر أن خالتي زينب حرَّضتني على اختيار لونه، ولا سِنِّه، لكن هناك شبه اتفاق لدى الجميع أن البعاتي فوق الستين، ولا يمكن أن يكون طفلاً، ويبدو لي أنه اُختير في هذه السن حتى يستطيع أن يغنِّي وحسب، لا لشيء آخر. كنت أزعم أنني وحدي الذي اخترت أن يكون البعاتي أبيض اللون، ويشبه أنطوني كوين، لكنني كنت مخطئاً لآخر الخطأ، إذ تعتقد قبائل (الباندا) الأفريقية، أيضاً، أن جلود الموتى تصير مبيضة اللون، وتعتقد قبائل أفريقية أخرى كثيرة أن الرجل الأبيض من أسلافهم، وربما يكونون محقِّين في أن أسلافهم الذين ماتوا قبل سنوات متطاولة قد هاجروا ليكوِّنوا الشعوب الأوروبية. وعلى كل حال، فإن قبائل (المانجا)، حتى الآن يعتقدون أن لموتاهم أجساداً مغطاة بشعر طويل أبيض اللون. في الشارع العام وبعيداً عن خالتي زينب، كنت أستمع إلى حكاوي أبطالها بعاعيت تصحبهم الأغنيات. من ضمن تلك الحكاوي، حكاية المرأة التي ضبطها البعاتي منفردة، فما كان منها إلا أن أخذت تغني له:
يا الأخدر أب جيبين
 من الحلة ليك سنتين
حبابك، جيت متين؟
فيطرب البعاتي لذلك الغناء المسجوع، ويتقافز بعصاه فرحاً، ويرد على المرأة: أبِشرِّي، جيت البارح!!.  وهكذا، جرجرته المرأة بالأغنية إلى أن دخلت الحلة وأدركها أهلها، وطردوه؛ لذلك عادةً ما أتصور أن البعاتي كائن مستأنس، ولا ينوي الشر، لكنه مخيف على أي حال. إلى جانب ذلك، هناك حكاوي البعاتي (ود أم بعلو) التي صبغت جزءاً من حياتنا وحيوات أجيال قبلنا، وعرفت لاحقاً أن ما يسميه السودانيون (ود أم بعلو) هو شخصية طوطمية كجورية أسطورية، موجودة بذات الاسم (adoumboulou) لدى طيف واسع من القبائل الأفريقية، ولم تكن بأي حال من إنتاج الثقافة والذهن السودانيَّيْن كما يتصور الغالبية، وأحاجِجُ في ذلك بدراسة كنت قد وجدتها بالصدفة المحضة، كانت مبعثرة الأرواق كما لو أنها نجت من عبث بعاتي حديث في هيئته الجديدة.. الدراسة أعدها هوبير ديشان قبل 80 سنة، وهو أيضاً أستاذ، مثل خالتي زينب تماماً، وسماها (الديانات في أفريقيا السوداء)، وذكر فيها حشداً من القصص الطريفة التي تخص البعاعيت في أفريقيا وعلاقتهم بالعادات الدينية. كان في ذهني أن البعاتي سيأتي مسرعاً للغاية، في يوم ما شمس ظهيرته حارقة، وجميع الناس والمخاليق قد خلدوا للقيلولة، هرباً من حرور تلك الشمس، ولا أتصور أن البعاتي يمكن أن يأتي في الشتاء أو الخريف، وربما هذا ما يفسر حالة التوتر والقلق التي تصيبني كلما كان وقت الظهيرة ساكناً وخاملاً.

 

*كاتب وصحافي من السودان

زر الذهاب إلى الأعلى