ثمار

أحمد الملك: غرباء في مدينة الموت

غلاف

بالنسبة إلى بلدٍ لم يخرج من عتمة الحروب الأهلية منذ استقلاله وحتى اليوم؛ تبدو قليلة هي الأعمال الأدبية السودانية التي اتكأت على ثيمة الحرب في تجلِّياتها المختلفة؛ الاجتماعية، والنفسية، وهو أمر ربما يعود إلى “مركزيَّة” الأدب السوداني، التي تبتعد به عن الأطراف المشتعلة بالنزاعات. هذا غير  سيادة وجهة النظر الرسمية عن تلك الحروب، ومن ثم الخطاب الأيديولوجي المضاد لها؛ على الأعمال الأدبية المتوافرة، إلا ما ندر.
لكن رواية أحمد الملك، “سبعة غرباء في المدينة” (دار أوراق 2014)، رغم أنها تتحرك في فضاء الحرب، إلا أنها تتميز بكونها تروي جانباً آخر من النزاع؛ وتُظهر وجهاً مختلفاً للحقيقة؛ لا ينحاز لأيٍّ من الخطابين.
تبدأ الرواية بالمصادفة القدرية التي ألقت سبعة غرباء هاربين من موتهم، إلى المدينة الحدودية التي تظلّها الحرب الأهلية، في ذات ليلة هروب أحد الأسرى قبل إعدامه بساعات، من عهدة حارسه، الرقيب عبد الحي، الذي أفرط في شرب الخمر.
يفكر الرقيب في وضع أحد هؤلاء الغرباء مكان الأسير المفقود، ففي النهاية لا تميِّز الحكومة ولا جنود فصيلة الإعدام بين مذنب وبريء، كما أن موت أحد الغرباء في ذلك الصقع الحدودي لن يثير ضجة، فكما قال أحد الأسرى من قبل للرقيب عبد الحي: “إن كنت تريد أن يعرف العالم بموتك، عليك أن تذهب وتموت في العاصمة. لكن حين تموت في الأطراف، يكون ذلك قضاء الله ولا يجادل فيه أحد”.
السبعة الذين يقضون ليلتهم في إنداية (خمارة) المدينة، غير عالمين بالموت الذي يتربص بأحدهم في الخارج، متمثلاً في الرقيب عبد الحي؛ ينوء كلٌّ منهم بقصته مع الموت، وهي قصص تتلاقى في كون حيواتهم ضرباً من البحث عن حب ضائع، وفراراً من موت يقتفي خطواتهم، ليجدوا أنفسهم في مدينة يختلط فيها الاثنان بلا انفصام: الحب والموت.
ففي اثني عشر فصلاً (152 صفحة)، يتوغل الملك، داخل تفاصيل حياة الغرباء السبعة، وحياة الإنداية، والبلدة، ومعسكر الجيش، ليغطِّي قسماً كبيراً من الأحداث التي تلتقي كلها في نقطة تبعث برسالة مفادها: انهيار النظام، وعبث الموت ومجانيته.
حيث نجد ضمن الغرباء الذين يرمي الموت نرده من أجل أحدهم؛ الديكتاتور السابق المنسلخ من بؤس أحلامه باستعادة عرشه، عبر حروبات عبثية، يشنها من حدود دول الجوار، الذي يلقيه بحثه عن امرأة عبرت ذات ليلة بفراشه، تاركة في قلبه رائحة أزهار شجرة البونسيانا الاستوائية؛ في إنداية “النسيم” تلك الليلة، مجذوباً باقتفاء أثر الحياة، فيصبح أحد الاحتمالات السبعة للموت.
كذلك نجد “سليمان العسكري” حارس الإنداية المثخن بجراح الموت، والهارب من ذاته إلى حياة الحانة ملاذاً من ذاكرته، ليجد نفسه مركز حروبات نسوية عليه، بين فتيات الحانة، تدفعه دفعاً نحو هدم الجدار الذي أقامه عازلاً بين ذاكرته وذاته. إضافة إلى اثنين من الطلاب الناجين من الموت في مجزرة معسكر العيلفون للخدمة العسكرية الإلزامية (1998) التي راح ضحيتها مئات منهم؛ مثلت الإنداية لهما محطة انتظار أحد مهربي البشر، ليأخذهما بعيداً عن الموت الذي يطاردهما أينما حلَّا.
أيضاً يتحرك الملك نحو التخوم الغربية؛ إقليم دارفور، في قصة الصبي “آدم” عازف المزمار الخشبي، الذي نجا وحيداً من الإبادة قصفاً بالطيران، فظل يلسعه الحنين إلى قرية لم تعد موجودة إلا في خريطة أحلامه، فارّاً من موت يتربص به في زنازين الأمن، وأسلحة مليشيا الجنجويد، إلى احتمال موتٍ أقرب مما يفر منه.
إلا أن الغريب الأكبر – إن جازت التسمية – يظل هو الرقيب عبد الحي، حارس وأنيس السجناء المحكومين بالموت صباحاً، ظلّ الحكومة ويدها الباطشة، والمتمرِّد السري في دخيلة نفسه فقط. الذي رغم إيمانه بضرورة التمرد على الحكومة إلا أنه يرفضه حين يلوح به بعض الجنود المتذمرين، بسبب فقدانه الثقة في السياسيين المعارضين، مثلما لا يثق في الحكومة.
الرواية المكتوبة بلغة كثيفة ومحتشدة بالتفاصيل، وتعبق بصور غرائبية وطقوس سحرية محلية، مثل بقية روايات الملك؛ ترسم في نهايتها لوحة عبثية، مكوَّنة من عشرات الصور والأحداث والمفارقات الطريفة والقاتمة في آن، لتجعل الحرب معادلاً – كما ينبغي لها أن تكون – لهدر الإنسان كقيمة، وكمعنى يوازي الحياة.
ففي المشهد الأخير، يخرج أخيراً أحد الغرباء السكارى من الإنداية، ليقع بين براثن الرقيب عبد الحي، الذي يسارع بإيداعه الزنزانة الخالية قبل وصول فرقة الإعدام، التي سحبته نحو مصير ظل يفر منه حتى تلك اللحظة. لكننا لن نعرف، كما لم يعرف الرقيب عبد الحي، أيّ غريب من الغرباء هو من يتعالى صوت رصاص إعدامه في ذلك الفجر.
يُذكر أن “سبعة غرباء في المدينة” هي الرواية الخامسة للروائي السوداني المقيم بهولندا، أحمد الملك (47 عاماً)، إذ صدرت له قبلها روايات: “الفرقة الموسيقية” (دار جامعة الخرطوم للنشر 1991)، “عصافير آخر أيام الخريف” (دار المكتبة الأكاديمية 1996)، “الخريف يأتي مع صفاء” (المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2003- ترجمت إلى الفرنسية 2007، والهولندية 2010)، “بيت في جوبا” (دار الحضارة 2010). إضافة إلى مجموعة قصصية باسم: “نورا ذات الضفائر” (دار عزة 2006).

* كاتب وصحفي من السودان

زر الذهاب إلى الأعلى