عن أبو ذكرى.. قطع من شظايا الذاكرة

يسبقنا عبد الرحيم أبو ذكرى بجيل تقريباً. كنت أقرأ له ونحن في الثانوية أشعاراً وترجمات من الروسية بالملف الثقافي لصحيفة (الأيام) الذي كان يحرره الأستاذ عيسى الحلو، وبصدر كل يوم جمعة. كان ملفاً يشكل بوصلة ولسان الحال الثقافي الأدبي وقتها. بعد ذلك بدأت صلاتي تتوطد بالوسط الثقافي من خلال المشاركات الشعرية والتشكيلية، ونشرت عدداً من الرسومات في مجلة الثقافة السودانية، وكان عبد الرحيم ضمن طاقم العمل في المجلة، وكنت أراه لماماً، وأتذكر حواراً مهماً أجراه مع محمد المهدي المجذوب حينها.
جاء أبو ذكرى من رومانيا إلى موسكو، التي كنت قد ذهبت إليها. جمعت بيننا المناسبات الثقافية، وغرف الداخليات، والشقق في بعض الأحيان، مثل شقة بدوي محمد الأمين، وبدأت تتعمق العلاقة بيننا إلى أن صرت أزوره في داخليته ويزورني.
الأدب الروسي، والفنون، وأحوال الثقافة في السودان، كانت تشكل موضوعات لقاءاتنا، ولم نكن نتطرق إلى الجوانب الشخصية قط، ولا أظن أنه كان لعبد الرحيم توجه كهذا مع الأشخاص الذين تعامل معهم في موسكو. هو لم يكن كتوما بالمعنى الحرفي ولكن كان قليل الكلام، تتحدث بسماته ولغة عينيه أكثر من فمه، ولكنك تحس بوداعته وبساطته كإنسان.
استمرت زياراتنا المشتركة رغم أنه كثيراً ما ينقطع ولا تعلم عنه شيئاً. وقتها لم تكن الموبايلات أو التلفونات متوافرة بالنحو الذي يتفقد فيه الناس بعضهم بعضاً.
أذكر أنه كان حاضراً أيضاً في عرض مشروع تخرجي؛ فيلم (أطفال الشمس)، وبدا سعيداً للغاية بعد العرض. زارني ومعي فايز دشين في الداخلية بعدها، بأيام وقرأ لنا ترجمته لقصيدة: (غيمة في سروال) للشاعر السوفيتي ماياكوفسكي. ذاك كان اللقاء الوداعي.
عندما صدر كتاب (أبو ذكرى أخذ زهور حياته ورحل)، تعرفت على جوانب محزنة تتعلق بصحته النفسية المعتلة. ولكن وجودي في موسكو قبل أيام، أتاح لي لقاء شخصية مفتاحية لمعرفة الجانب الخفي من أبو ذكرى؛ التقيت بالدكتور محمد عبد المطلب ساتي، الذي زامله منذ الأيام الأولي للدراسة. عرفت منه كيف أن أبو ذكرى وفي فترات الإجازات الصيفية والاختفاءات، غالباً ما كان زائراً لإحدى المصحات النفسية، ولكنه كان يخفي ذلك عن الناس لشدة حساسيته.
واجه عبد الرحيم ظروفاً مالية صعبة، رغم أنه كان ينشر في كبريات المجلات العربية، التي يعلم المتعاملون معها أنها لا تنتظم في التحويلات، إضافة إلى عفة ونزاهة عبد الرحيم في أنه لم يكن يذهب إلى أي سوق موازية لتحويل العملة الصعبة إلى روبل روسي، رغم الفارق الكبير.
نعم، علاقته بالمرأة ربما كانت فيها جروح، ولكن التحولات العاصفة التي جرت في المجتمع الروسي بعد 1986 أصبحت تخيفه بنحو خاص.
لصديقنا الدكتور محمد عبد المطلب اعتقاد بأن أبو ذكرى لم يقفز لوحده من النافذة، بل تم دفعه. ويبني عبد المطلب اعتقاده هذا على أن عبد الرحيم قفز بـ”فردة” واحدة من الحذاء البيتي، بينما ظلت الأخرى تحت النافذة. وأكد لي أنه وفي تلك الأيام انتشرت ظاهرة الدفع بالطلاب الأفارقة من نوافذ الطوابق العليا للداخليات، وقد جرى ذلك في الداخلية التي تجاور داخلية أبو ذكرى قبل يوم.
على كل حال، قفز أم تم الدفع به؛ فقد خسرنا شاعراً ضخماً، ومترجماً مقتدراً، وإنساناً شديد النبل، له الرحمة والمغفرة.
* مخرج ومنتج سينمائي من السودان
انظر أيضاً: