ثمار

السودان: كتم أنفاس الثقافة

من فعاليات مركز الخاتم عدلان - facebook
من فعاليات مركز الخاتم عدلان – facebook

مساء يوم الشعر العالمي (21 مارس/ذار) من العام 2013، وصلتُ بحري، في لهفة، قافِلاً من حي العمدة في أم درمان (حيث مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي)، إثر منع جهاز الأمن والمخابرات – دون إبداء أي مبررات – إقامة احتفائية يوم الشعر العالمي هناك، مما اضطر إلى نقلها – على وجه السرعة – إلى مركز علي الزين للثقافة والفنون (تم تعليق نشاطه لاحقاً في أبريل العام الجاري)، وتمكنتُ مع عدد محدود من حضور الفعالية.
ما حدث لم يكن مستبعدا في سياق عمليات العرقلة والتعطيل والتجفيف، للنشاط الثقافي ومراكزه ومتنفساته – على قلّتها – ضمن النهج المعادي للثقافة والفنون الذي تبنّاه النظام الحاكم في السودان منذ انقلابه على النظام الديمقراطي في يونيو 1989. رغم ذلك، كان أشد وقعاً، الإلغاء القسري من قبل جهاز الأمن السوداني لمؤتمر إعلان نتائج الدورة الثانية عشرة لجائزة الطيب صالح للإبداع الروائي التي يرعاها مركز عبد الكريم ميرغني، وتعد ملتقى سنويا للأدباء والمثقفين، في موعدها الراتب الذي يزامن ذكرى ثورة 21 أكتوبر/تشرين الثاني الشعبية 1964.
إلا أن النهج المعادي للثقافة والفنون دخل مرحلة جديدة أكثر تعسّفا مع نهايات العام 2012؛ إذ أغلقت الحكومة السودانية – وقتها فقط – أربعة من أهم المراكز الثقافية – دون سند قانوني واضح – كما صادرت ممتلكاتها وحجزت أرصدتها المصرفية. ذلك بالترافق مع حملة إعلامية، متهمة فيها – الحكومةُ – المراكزَ الثقافية، بالعمل على تقويض النظام. وقد شارك في الحملة الإعلامية النائب الأول لرئيس الجمهورية – حينها – علي عثمان محمد طه.

وبدأت الحملة الحكومية بإغلاق المراكز الثقافية، مع خط رئيسي (مانشيت)، لصحيفة (آخر لحظة) في عددها الصادر في 25 ديسمبر/كانون الأول 2012، بأن “حملة دهم واسعة على عدد من المراكز الثقافية خلال ساعات”؛ وجاء في خبر (آخر لحظة): “ذلك بعد أن ضبطت السلطات وثائق ومستندات تؤكد صحة الاتهامات الخاصة بتلقي أموال بالعملات الصعبة للعمل على تقويض النظام، من خلال دعم مباشر وغير مباشر، لقوى سياسية مناهضة للحكم في السودان، بمساعدة سفارات أجنبية متورطة في الأمر”. في الوقت الذين لم تتخذ أي إجراءات قانونية، ضد أي شخص أو أية سفارة، بشأن الأمر، حتى الآن، على الرغم من خطورة الاتهامات المفصح عنها إعلامياً.
في ذات اليوم؛ وصلت قوة من جهاز الأمن والمخابرات، إلى مركز الدراسات السودانية، وسلّمت المدير التنفيذي للمركز عبد الله أبو الريش، خطابا ممهورا بتوقيع وزير الثقافة والإعلام د.أحمد بلال، بتجميد نشاط المركز لمدة عام بادعاء أن المركز يهدد الأمن الوطني. ما دفع مدير المركز، أستاذ علم الاجتماع، د.حيدر إبراهيم علي، أن يصدر بيانا، شديد اللهجة، من محل إقامته في القاهرة، متحديا فيه الحكومة، بأن تقدّم وثائق تثبت صحة دعواها، وقال فيه إن استباق إغلاق المركز، بخبر صحفي، الهدف منه “اغتيال الشخصية”، إذ إن مثل هذه القضايا محلها المحاكم وليست الصحف. على كلّ فإن “عام العقوبة غير المبررة” قد مضى، بل نحن نمضي نحو إكمال عام آخر، ولم يتمكن المركز من تجديد تسجيله أو معاودة نشاطه بسبب تعنّت واضح من الجهات الرسمية.
وفي 26 ديسمبر/كانون الأول 2012؛ استدعى جهاز الأمن والمخابرات، للتحقيق، مديرة منتدى السرد والنقد، الروائية، زينب بليل، وأمرها بقطع علاقات المنتدى مع المستشارية الثقافية الإيرانية، التي تموّل المنتدى في السنوات الثلاث الأخيرة، فاضطر المنتدى إلى ترك المبنى، الذي كان يتخذه مقرا له، لأن المستشارية الثقافية الإيرانية، هي التي تدفع إيجاره. ذلك على الرغم من العلاقات الوطيدة بين الحكومتين الإيرانية والسودانية؛ بحيث إن المستشارية الإيرانية تملك مقرّين في العاصمة السودانية. ذلك قبل قرار إغلاق المراكز الثقافية الإيرانية (أيلول/سبتمبر 2014). وفي نفس اليوم أغلقت وزارة الثقافة مركز (بيت الفنون) الثقافي الذي أسسه ويقوم عليه الفنان الدرامي طارق أمين.
وفي 30 ديسمبر/كانون الأول 2012؛ نظمت (كونفدرالية منظمات المجتمع المدني)، بمشاركة عدد من أعضاء اتحاد الكتاب السودانيين، وقفة احتجاجية أمام المفوضية القومية لحقوق الإنسان، لتسليم مذكرة للمفوضية تطالب بالحقوق الدستورية لحرية العمل والنشاط الثقافي، إلا أن قوة من جهاز الأمن والمخابرات، شكّلت حاجزا بشريا أمام مبنى المفوضية ومنعت المحتجين من تسليم مذكرتهم، ما دفع بالمفوضية القومية لحقوق الإنسان، أن تصدر بيانا، في وقت لاحق من اليوم، تستنكر فيها تصرف جهاز الأمن وتتوعد باتخاذ الإجراءات القانونية حياله. وفي صباح اليوم التالي (31 ديسمبر/كانون الأول 2012) تم اعتقال المدير التنفيذي لمركز الدراسات السودانية، عبد الله أبو الريش، من منزله، ثم إطلاق سراحه بعد 24 ساعة، دون توجيه تهمة له. وفي نفس اليوم وصل 26 شخصا – قالوا إنهم موظفون بمفوضية العون الإنساني – إلى مركز الخاتم عدلان للاستنارة والتنمية البشرية، وسلموا إدارة المركز خطابا ممهورا بتوقيع مفوض العون الإنساني د.سليمان عبد الرحمن، بإلغاء تسجيل المركز؛ كما قام الموظفون بجرد محتويات المركز لأنها صودرت، حسبما أخبروا إدارة المركز. هؤلاء الموظفون كانوا يحملون أسلحة ويستخدمون نفس نوع وموديل السيارات التي يستخدمها جهاز الأمن.
هناك جهتان تسجل بهما المراكز والمنظمات الثقافية في السودان؛ وزارة الثقافة والإعلام (وزارة الثقافة سابقا)، ومفوضية العون الإنساني (HAC). الجهتان لم تبديا أسبابا مدعّمة قانونا، ولم تشيرا إلى مخالفة المراكز، للوائح التسجيل أو لقوانين العمل الثقافي، كما لم تحرّك الجهات العدلية أي إجراءات قانونية تجاه المراكز. إلا أنه في الثاني من يناير/كانون الثاني 2013؛ بثّت القنوات الفضائية السودانية الثلاث الأكبر؛ (السودان، والنيل الأزرق، والشروق)، في توقيت واحد، مقابلة مع النائب الأول لرئيس الجمهورية – حينها – علي عثمان محمد طه، أجراها رئيس مجلس الصحافة والمطبوعات علي شمو، قال فيها طه، إن عددا من المنظمات تلقّت دعماً أمريكيا لإسقاط النظام. صباح اليوم التالي (3 يناير/كانون الثاني 2013)؛ وصلت قوة من جهاز الأمن، إلى مقر اتحاد الكتاب السودانيين، حاصرت المبنى، وطلبت منهم عدم إقامة ندوة كان مقررا لها ذلك اليوم، حول (مفاهيم الديمقراطية والعدالة الاجتماعية في السودان)، كان من المفترض أن يتحدث فيها التشكيلي والكاتب السوداني المقيم في فرنسا، د.عبد الله بولا.
في الأيام اللاحقة من العام 2013 صرح مسؤولون حكوميون، وقياديون في حزب المؤتمر الوطني الحاكم، بما يؤيد تصريحات نائب الرئيس، إلا أن التصريح الأخطر كان من أمين أمانة العمل الطوعي بالمؤتمر الوطني – حينها – عمار باشري، الذي هدد بإغلاق مزيد من المراكز التي “لا تلتزم بالقوانين”، ذلك في سياق حديثه عن كشف الحكومة في فترة قادمة عن مراكز للماسونية في السودان. الحكومة وفت بوعيد المؤتمر الوطني ناقصا فلم تكشف عن أي مراكز للماسونية وواصلت نهجها في التهرب من المواجهة القانونية، إلا التي اضطرت إليها اضطرارا كالقضية التي رفعها مركز الخاتم عدلان للاستنارة والتنمية البشرية إلى المحاكم مستنكرا قرار إلغاء تسجيله، وبعد عدة جلسات تم سحب ملفها من ذمة القاضي من قِبَل “جهات عليا”، مما أكد حدة التعسّف الذي طال بأنوائه مركز علي الزين للثقافة والفنون فتم تعليق نشاطه في 5 أبريل/نيسان العام الجاري، قبل يوم من ذكرى انتفاضة 6 أبريل/نيسان الشعبية 1985م – بما يحمله التوقيت من إشارة فزع سلطوي بسبب الاحتفاء العفوي في الشعر والغناء بذكرى الانتفاضة – وطولب المركز بتجديد التسجيل، الأمر الذي قابلته جهات التسجيل بمماطلة مستمرة سبق أن طالت مراكز أخرى أبرزها المركز الثقافي الشبابي YCC. وبذا تصبح أهم خمسة مراكز ثقافية معطلة – إضافة إلى مراكز أخرى – إلى جانب حالة شبه الشلل لنشاطات مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي بسبب المنع المتتالي من قبل جهاز الأمن والمخابرات، وبما أن هذه المراكز تشكل الجزء الأساسي والأكبر من ماكينة النشاط الثقافي في السودان فإن هذه الماكينة تعاني تراجعاً في الإنتاج، خاصة مع الانحسار المماثل في الصحافة الثقافية. في المقابل فإن القدرة على التعويض والاستعادة لا تفتر أبداً بـ”تروس”/متنفسات جديدة.

 

* كاتب وصحافي من السودان

زر الذهاب إلى الأعلى