ثمار

حذاء

محمد علي العوض

أتلمظ طعم العرق المالح وهو ينهمر عليّ من أعلى زخات وزخات؛ ما أشد حرارة هذا الصيف، فالجو خانق في هذه الأيام من أواخر شهر أبريل، تكون مدينة الخرطوم حُبلى بغبار “الهبباي”، والصيف القائظ، وأكاذيب الحكومة التي تصر على أنّ درجة الحرارة تبلغ 48 درجة مئوية لا 55 كما تدعي المُعارضة.
تصهرني سخونة هذا الأسفلت، وتوشك على إذابة ما بقي من جلدي المتّسخ ولوني الباهت بفعل عوامل المناخ.. يكاد عقلي يغلي، ومخيخي يوشك على التبخر والفرار خارجًا ليندس تحت ظل شجرة يعصمه من الشمس. أحيانًا أحس أنّي لشدة ما أتحمله من صهد ورمض أستحق أن أدرج في الفيزياء ضمن المواد الموصلة للحرارة.
منذ الصباح وأنا أتقافز؛ يصعد بي شارع مترب يغبر وجهي وينخفض بي طريق معبد.. ناهيك عن الوحل الذي لطخ أطرافي في سوق الجلود بأم درمان الذي تفوح منه بسبب عمليات الدباغة الممتزجة بثمار نبات “القرض” رائحة التحنيط المتلاقحة بخبث مع فوح غابات المهوقني – كما تقول نهلة مجذوب.
توقفت طويلاً أمام دكان العم عبد الرحمن إسماعيل المشهور بالبرنس، أبحلق في جلود النمور والتماسيح ومنحوتات العاج، أجول بنظري في لوحات غابات السنط والتيك والمقتنيات النوبية والدارفورية التي تمتلئ بها الأرفف.. اكتفيت من الغنيمة بإرضاء شهوة الفرجة المجانيّة، قمعت حمى الاستهلاك المتغلغلة بمفاصلي بسبب استقطابات الإمبريالية العالمية الحادة.. لبست “جُبّة” سيّدي الأرباب، والشيخ فرح ود تكتوك مستعينا بكل كرامات ود بدر، وود حسونة، وجميع الأولياء الصالحين أن يفرغوا على قليلا عرفانهم الصوفي، وإعانتي على كسر نفسي تحت شعار (أكلما اشتهيت اشتريت؟).. وبفيوض من ناشدتهم رحت أرمق تلك الجلود شذرًا.. لا أحتاج لتحسس خامتها، صرت أنفخ أوداجي تيها حاطًا من قدرها.. متذكرًا كل بطولاتي الريفية عندما امتطيت ذات يوم ظهر ثور أغر سنكيتته (سنامه) أعلى من جبال الأماتونج.. وربما اعتليت يومًا جملًا هائجًا حسبتُ وأنا في قمة زهوي أنّ أمّه كانت من سلالة النوق العصافير التي كانت حكرًا على النعمان بن المنذر ملك الحيرة، وأنّ جده كان جملا أورق شريدًا من مضارب بني عبس أو قريش حتى.
مال هذه الفتاة التي تحفظ قول المعري: (خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد) تمشي متثاقلة كمن تجر مرساة وراء قدميها.. أرى أردافها الخمرية الممتلئة، وبطنها المترهل؛ فموقعي يتيح لي رؤية كل التفاصيل الدقيقة دون أن تستجوبني أدنى سلطة تنفيذية أو تشريعية.. والحق أنّي لا ألومها على عدم ارتداء ملابس داخلية تضفي بعضا من الستر الاحتياطي على تنورتها الطويلة والتفاصيل المتجسدة؛ فلهيب الشمس والأخبار المتواترة عن تعرّض عدد من الباعة المتجولين في السوق الكبير لضربات شمس قاتلة تشفع وتجد لها ألف عذر وعذر..
أسير بحذوها.. ها هي تلج حرم الجامعة.. أسمعها وهي في طريقها لذلك المقهى المنزوي خلف مكتب عميد الطلاب تصافح و”تطايب” زميلاتها في تغنج وشوق مصطنع تجيده النساء جيدًا.. أقدامها وخطواتها التي تقتلعها من الأرض اقتلاعًا تعرف متاهة الطريق جيدًا نحو تلك الطاولة القابعة في نهاية الصالة، والتي تجلس فيها يوميًا بجانب تلك الشخصية المنفرّة.. ياااه كم أكره (شهريارها) المُدّلس هذا.. أحيانًا أهم بأن أنهال ضربًا على رأسه وشعره الأجعد المائل للاحمرار الذي لم يذق يومًا طعم الدهن ناهيك عن كريمات زهرة اللافندر وجوز الهند..
يتساقط من دفعات الخريجين كتساقط الشعر أمام سطوة مقص الحلاق؛ هو أقدم من خفير الجامعة، فقد مضت عليه هنا أكثر من عشر سنوات، وكل ذلك الرسوب الدراسي المفتعل يتم تحت دعاوى “الفعل السياسي”، وأنّ حزبه الليبرالي المغمور يريده كادر تجنيد هنا حتى يستقطب المغفلين من الطلاب الجدد.. هو محض بوق صوتي يملأ أركان النقاش السياسية ضجيجًا بلا طحين.. بل أكاد أجزم أنّ عدد النسوة اللائي جندّهن للانضمام إلى سريره الليلي يتجاوز عدد المنتسبين إلى حزبه مرات ومرات.
يمكّنني قربي منهما من سماع حديثهما الدائر.. يثير حنقي هذا الشهواني عندما تتلبسه حالة “الكوبرا الصيادة” حيث يبدأ نصب أفخاخه بتسبيل عينيه والميل نحو أذنها متوهما أنّه قيس ليلى: (وإنّي لأهوى النوم في حينه لعلّ اللقاء في المنام يكون)..
أو حين يلقي بشباكه من على بُعد عشرات الفراسخ من ضِفافها فيُسمِعها بصوت أشبه بالفحيح رائعة ود المكي: (الله يا خلاسية.. يا حانة مفروشة بالرمل، يا مكحولة العينين، يا مجدولة من شعر الأغنية، يا وردة باللون مسقية)..
وحينما يصل إلى مقطع (…يا مملوءة الساقين أطفالا خلاسيين…) ترفع صوتها في ما يشبه حشرجة بقرة مذبوحة؛ تُقهقه حتى تهتز وترتعش جنباتها التي غادرت خانة الخِصر المهفهف بعد أن تغول عليه قسرا البطن المنتفخ.. ثم بحركة سريعة ماكرة مدروسة وكأنّها تعدل من جلستها تنظر أسفلها لترى إن كانت هناك حقًا أجنة تحاول الإطلالة برأسها من ساقيها، وعندما لا تجد تلك (الوهمة) تمسح دموعها بكفها قائلة: (إنت!! الله يجازي محنك يا حامد)… لتضيف بعدها بدلال فاضح: (لقد بايعتك إمامًا للحب)..
أمتعض من اندلاقها وخِفّتها؛ من يكون لتكون له في عنقك بيعة ملزمة؟ لو سمعك فقهاء السلطان لسلقوك بألسنة حداد وسوط “عنج”، ولربما أفتوا فيك بفتوى لا تمت للدين بأي صلة.. والويل والثبور لك إن سمعكِ الدواعش وأنتِ تتلاعبين بفقه البيعة هكذا؛ لجزّوا رقبتك من الوريد إلى الوريد بعد أن يطلق إمامك المزعوم هذا الريح قبل ساقيه..
تنقشع غيمة الهدوء، وتفشل أحابيل ثنائيات الدجالين والصادقين، تغزو ذاكرتي الخياشيمية رائحة غاز أعرفه جيّداً؛ تتناهى إلى مسامعي أصوات هادرة تأتي من بعيد، أتنصت محاولًا تمييز الضجة التي تقترب رويدًا رويدا.. بت الآن أسمعها بوضوح.. فثمة مظاهرة تحاول الاعتصام بحرم الجامعة بعد معارك من الكر والفر بينها وشرطة مكافحة الشغب.. ازدحام، تدافع، هلع.. تفشل شهقات أصحاب الربو في التقاط أي نسمة هواء نقيّة ولو عن طريق الشراء.. الفتيات يتراكضن نحو الحائط في محاولة للبحث عن أي ثغرة تساعدهن على التخارج قبل أن تتقيأ الفوضى على رؤوس الجميع، فهنّ على يقين بأنهنّ إن لم ينفذن بجلدهنّ قبل أن تغادر سفينة الوقت مرفأها فسيصبحن عرضة للانتهاك من قبل الجميع؛ حكومةً وشعبًا، ولن تمارس هراوات الشرطة وأيدي المتحرشين أي تمييز مستحب أو حتى ممقوت على أساس النوع أو الهرمون..
فجأة ودون أي مقدمات، وجدت نفسي أطير عاليًا، وإذا بيدها الغليظة تمسك بي بقوة، تعتصرني، تطوي ظهري نصفين، وقبل أن أفيق من شهقة الإقلاع وتمدد حجابي الحاجز تهوي بي على رأس أحدهم “طاخ كبع كع”..
هذه الضخمة لم يسعفها حديثها الدائم عن جدلية الموت والحياة في روايات الطيب صالح أو تحليل قصيدة (البحر القديم) لمصطفى سند أو اهتماماتها بكنه فلسفة الوجودية في كتابات سارتر، من أن تشهرني في وجه أحدهم ومن ثمّ تنهال بي على رأسه ضربًا وصفعًا عندما لامس بمنتهى “قوة العين” ساقيها المملوءتين أطفالاً خلاسيين.. انخلع كتفي، تهشم حوضي، تمزقت أرضيّتي، طار الكعب العالي الذي ارتكز عليه بعيدًا بسبب الاعتصار والضرب.. ما عدت أصلح للمشي بعد الآن.. ومهمتي كحذاء مستقبلا صارت رهينة بيد الإسكافي “النقّال” ومدى براعته في جبر ما تضرر من أرضيتي ووجهي.
جعلني التمزق أقلب النظر مرة أخرى بشأن زعم تناسلي من النوق العصافير، فربما انحدرتُ من الأحذية التي انهالت على رأس الملكة شجرة الدر؛ واضطرتها للسفر نحو مسرح الموت..
ربما يكون جدي السابع عشر أحد خُفي حنين.

 

* كاتب من السودان

زر الذهاب إلى الأعلى