شهادات

أن تعيش عادياً كما ينبغي: مقابلة مع عماد البليك

 

تقول سيرته الذاتية إنه عماد الدين عبد الله محمد البليك، روائي سوداني، من مواليد بربر 1972 ولاية نهر النيل، درس مراحل التعليم الأولى ببربر، وتخرج في كلية الهندسة جامعة الخرطوم عام 1996. عمل عقب تخرجه، لفترة قصيرة بالهندسة، لكنه سرعان ما فضل العمل في الصحافة والإعلام، إذ كانت تلك هوايته بالجامعة، حيث كان أول مقال نشره بالصحف في صحيفة الإنقاذ الوطني في الصفحة الأدبية في 1992 بعنوان “فوضى الأدب والبحث عن الجديد” وهو مقال ضمن أربع حلقات، ومن ثم عمل متعاونا بالصحيفة في القسم الأدبي ولاحقا بصحيفة ألوان، وكتب في العديد من الصحف قبل السفر للخارج في سنة 1999. في العام 1998، أسس شركة إعلامية اسمها “إسبلتا” وهو ملك نوبي قديم، وتوقف المشروع في بداياته، عمل بصناعة المؤتمرات ثم الصحافة في دولة قطر.
نشر أول روايتين دفعة واحدة، وتم عرضهما، لأول مرة بمعرض أبوظبي للكتاب في 2003 وهما رواية “الأنهار العكرة”، ورواية “دنيا عدي”. وفي عام 2008 نشر روايته الثالثة “دماء في الخرطوم”، كذلك نشر كتاباً في النقد الأدبي بعنوان: “الرواية العربية – رحلة بحث عن المعنى”. نشر في العام 2013، رواية “القط المقدس”، عن ثورة الشباب في فرنسا، وكتبها في 2010، وشارك بها في جائزة الطيب صالح. في أغسطس 2014 نشرت له دار مومنت بالمملكة المتحدة روايته الخامسة “شاورما” التي وجدت رواجا كبيرا في الأوساط الأدبية العربية. من كتاباته غير الروائية كتاب “قابوس بن سعيد الأمل المتحقق” وهو عبارة عن سيرة لحياة سلطان عُمان، ومشروعه السياسي، ووجد صدىً في الأوساط العمانية، كما صدرت له في 2008، دراسة سياسية بعنوان “مجلس التعاون مرئيات التكامل”.

* عماد البليك، وكأنك على عجلةٍ من أمرك، نشرت أول ما نشرت روايتين دفعة واحدة” الأنهار العكرة” و”دنيا عدي”، ألم تكن مجازفة منك أن تدفع بعملين دفعة واحدة، خاصة وأنك لم تكن معروفاً؟
الفعل الإبداعي في حد ذاته مجازفة.. الحياة أساساً مغامرة. ليس ثمة مشكلة برأيي.. كان هناك عملان جاهزان وخرجا للنور في وقت واحد عبر جهتين مختلفتين، كأنهما توأمين. المهم بالنسبة لي التجربة أن أقدمها ولم أتعمد هذا الشيء أبدا. بالنسبة لأن أكون معروفاً أم لا؛ لم يكن ذلك يشغلني، كنت أفكر بحدود ما أقوم به من فعل وأنا على قناعة تامة به. في كثير من الأحيان يجب أن نفكر في خطواتنا بالطريقة التي نحبها، أي ما يجعلنا متماهين مع ذواتنا وعوالمنا، فالعالم الخارجي يتخلق ويكون من خلال إرادتنا ووعينا به وليس بمحض صدف بحتة.

* “دماء في الخرطوم”، نزعة إثارة توحي برواية بوليسية من خلال الاسم للرواية الثالثة؟
فيها من البوليسية نعم، لكن الاختلاف أنها رواية تبحث في السياقات الاجتماعية وليس في الجريمة ومن قتل ولماذا؟ هذه ليست أسئلة “دماء في الخرطوم”. فالإيحاء قد يكون صحيحاً، لكن الرواية شيء آخر.

* هجرت الهندسة مبكراً لأجل العمل بالصحافة والإعلام كما تقول سيرتك الذاتية، هل للأمر علاقة بمشروعك الإبداعي؟
تقريباً.. لكن كثيراً لا نفهم مسارات الحياة إلى أين تقودنا. أنا كنت أجرب اكتشاف نفسي، وأن أقوم بعمل أحبه، وهذا وجدته في الإعلام والصحافة. ومن الأمور المعاشة أن الكتابة شيء وعالم الصحافة والإعلام فكرة أخرى مختلفة تماماً، لأنك سوف تكتشف أن هذه الأخيرة صناعة وتلك ليست نزهة أبداً، أي الكتابة الإبداعية.

* كيف تنظر الآن إلى تجربتك الكتابية، وماذا أخذت منك الكتابة، وماذا أعطتك بالمقابل؟
أنا أسير في طريق يتطلب مني العمل المستمر، الكتابة ليست بحثاً عن التسلية، هي سؤال حياة ووجود ومعنى يكون لك معه أن تفكر وأن تمارس المغامرة والانتباه أيضا. ومن هنا فالنظر إلى التجربة لا يعني تحصيل نتيجة معينة، إذ لابد من الشك دائماً للوصول إلى مرحلة ثانية، اجتياز العقل لذاته في سبيل تشكيل صور أكثر ديناميكة وفاعلية في التعايش مع مفهوم الإبداع. بالنسبة لفعل الأخذ، تأخذ الكتابة كثيراً منك، شعورك الإنساني بأن تعيش عادياً كما ينبغي، بأن تنسجم مع الروتين وإيقاع دفء الحياة اليومي، وأن تكون كائناً اجتماعياً، وعلى العكس فهي تعطي التوازن النفسي والبعد الخامس لتبصر هذا العالم في أن ثمة حقيقة وراء كل غموض، والعكس صحيح.

* بدأت بالشعر وسرعان ما هجرته إلى الرواية؟
الشعر كان تجربة مبكرة، في فترة كان فيها النزوع الإنساني في مجتمعنا شعرياً ولا يزال، وفي وقت كان ينبغي عليك أن تكتشف بنفسك ماذا تكون، فنحن في مجتمع لا يقف ليقول لك هذه موهبة اهتم بها أو كيف تطورها. لكن بالنسبة لي الشعر سياق خاص جداً، ومفهوم الشعر تطور كثيراً عن تلك النطاقات الكلاسيكية، حتى إنه تجاوز ما يعرف بقصيدة النثر، هو حالة ذهنية ووعي خلاق بالوجود والإنسان والكينونة، أنا أمارسه إذن أو أكتبه ولكن بطريقتي ومن خلال نصوصي، ومن خلال الفهم الذي أتحدث عنه، أنا لم أهجر الشعر بهذا المعنى.

* كيف تنظر إلى المشهد السردي في السودان؟
هناك ثورة سردية في السودان، عدد كبير من الروايات التي تنتج سنويا، وفي مختلف المعالجات والموضوعات والتقنيات. غير أن التحدي النوعي ما زال قائماً، فالرواية كفن أمر غاية في التعقيد، كما أن كثيراً من الأعمال تقع في مصيدة التماثل مع الواقع أو هي مجرد مناحات “بكائيات” سياسية أو تماسات مع المشكل الاجتماعي والوعي الخارجي. لكن الوقت يفرز الأشياء ويرتبها، بالشكل الجدير بالتأمل، وعمومية الظاهرة في حد ذاتها جيدة وتتطلب الدراسة وبأكثر من بعد، ولدينا قصور كبير في هذا الجانب فالحركة النقدية ضعيفة قياساً للمنتج السردي.

* لا أحد يعرفك هنا، رواياتك لا توزع داخلياً، ألا تشعر بالإحباط جراء ذلك؟
الإحباط؟ لا. لا سبب يدعوني لذلك، أنا أؤمن بالعمل والاستمرار في التجربة، كل شيء كما يقال في أوانه جيد. البذرة تحتاج سنوات طويلة لكي تصبح شجرة. هذه فلسفة الحياة وقيمتها. والآن هناك شباب كثيرون يعرفونني جيداً ويقرأون لي وأتواصل معهم عبر الوسائط الاجتماعية خاصة الفيسبوك ونتبادل الآراء حول النصوص الأدبية والإبداع والحياة عموما. وبالنسبة لأعمالي هي موجودة ولكن ليس بالشكل الذي يتيح وصولها لكل من يرغب، هذه إشكاليات تتعلق بالنشر والتسويق داخل السودان، ولا علاقة لي بها.

* كتابك عن السلطان قابوس (قابوس بن سعيد الأمل المتحقق)، ألا تخشى أن يوقعك في دوائر تصنيفك كأحد كتاب السلاطين، كتاب البلاط، مثقفي السلطة، وما إلى ذلك من تهم تنال من المبدع؟
أبداً. لأن هذا الحكم ينطلق من قراءة خارجية للنص، وهذا لا يهمني. ماذا كتبت هو المهم، أي نقاش يأتي من خلال دائرة النظر للنص سوف أتوقف عنده وما سواه لن يهمني. ما كتبته عمل مفاهيمي بحت حول التجربة العمانية في التنمية، لأن سلطنة عمان لديها مشروع يهتم بالإنسان وترقيته على المستوى الفاعل وهي مجتمع ذو تركيبة مختلفة عن باقي الخليج وله امتداده الأفريقي وفنونه الشعبية وعمقه الحضاري، هذه أمور تلهم الكاتب لأن يقول الكثير. وهذا ليس كتابي الوحيد، فقد كتبت أيضاً عن علاقة عمان ومجلس التعاون، ولدي مشروعات كثيرة في إطار الرؤى الفكرية والسياسية في هذه الجوانب وهو اهتمام جاء من خلال معايشتي لمجتمعات الخليج عموماً وعمان بدرجة أخص، ومن خلال عملي في الصحافة كذلك، فأنا أعيش هذه التجربة وأكتبها.

* (الرواية العربية – رحلة بحث عن المعنى)، كتابك النقدي الوحيد، هل كتبت نقداً روائياً وحاولت استلهام الاسئلة وتعميقها عن الرواية العربية لقلة المنتج النقدي في المجال الثقافي العربي؟
كتبت كثيراً في النقد قبل أن أسافر من السودان ونشرت بالصحف ومجلة الخرطوم في الرواية والشعر وغيرها من الموضوعات الإبداعية، وكثير من زملائي يعرفون هذه التجربة جيداً. لكن لم أخرج هذه التجارب في كتب سوى هذا الكتاب الذي كان عبارة عن سؤال ذاتي حول ماهية الرواية ومعناها بالنسبة لي، وكذلك الإجابة على سيرة الرواية العربية من خلال التفكير الذاتي أيضاً، فهو ليس كتاباً في تاريخ الرواية ولا النقد الصارم بالمعنى الحرفي، هو قراءة تأملية في مسار هذا الفن وتشكله في الخريطة العربية منذ قرن ونيف تقريباً. وكتاباتي النقدية مستمرة لم أتوقف عنها، حيث أكتب بشكل راتب بعدد من الصحف العربية حول قضايا إبداعية وروائية وحول الحراك الثقافي عموما.

* لماذا أثارت “شاورما” في رأيك كل هذه الضجة، وحظيت بهذا الاقبال دوناً عن بقية رواياتك، أو هي الأكثر حظوةً بردود أفعال؟
هذا السؤال طرح علي كثيراً. ولم تكن لدي إجابة محددة. قد يبدو أن الفعل الإبداعي تراكمي لكن ليس هذا هو التخريج المناسب للإجابة. ما اعتقده أن القراء لديهم ذائقتهم الخاصة في التلقي وهذه لا تخضع لأي شروط من قبل الكاتب ولا يمكن إملاؤها، ما حدث ومن خلال الآراء التي سمعتها وتصلني عن “شاورما” أنها اقتربت من هاجس إنساني ومن أسئلة تشغل الكثير من الناس في الحياة بشكل عام، استفهامات تتعلق بالنجاح وقدرة الذات على المقاومة والاستمرار ومواجهة التحديات. كما أن هناك من نظر إلى الجانب التاريخاني في الرواية كونها تسائل ثلاث حقب من تاريخ السودان المعاصر، مع الإشارة إلى أنه لا توجد رواية تقوم مقام التاريخ. فالفن يظل فناً. ويبقى القول بأن “شاورما” فتحت الأفق لقراءة الأعمال الأخرى مثل “دماء في الخرطوم” و”القط المقدس” التي صدرت في 2013 أي قبل “شاورما” بسنة، وهذا في حد ذاته جيد.

* قال الروائي أحمد حمد الملك: “شاورما عمل جدير بالقراءة. جدير بالتقدير”؛ في خاتمة مقاله عن “شاورما”، وهذا كان رأي كتاب ونقاد كثر، بماذا يشعرك هذا، وهل يؤثر على كتابتك، لاحقاً؟
شعور رائع وجميل أن يقرأ الناس لك وأن يحبوا ما تكتب، وهذا يكسب الكاتب حيوية ويعطيه دافعية في أن يكون مُجدّاً بدرجة أكبر، كما أن ذلك يشعرك بالمزيد من المسؤولية تجاه الكتابة كمهمة إنسانية، يجب أن تكون أكثر تركيزاً وقادراً على العطاء بالدرجة نفسها إن لم يكن أفضل بكثير. وهو تحدٍ يستلزم أموراً كثيرة وتوابع من القراءة والتنوير المستمر للذات ومحاولات الاكتشاف الأعمق لتعقيدات هذا العالم، لأن أي كتابة هي مساءلة مستمرة للوجود. التأثير إذن ينعكس في تلك الحالة التي تتطلب من الكاتب أن يكون أكثر قدرة على أن يعطي أفضل ما عنده.

* وأنت تكتب، بمن تفكر، هل ثمة قراء في خيالك يؤثرون على كتابتك؟
لا أفكر في أحد سوى الناس الذين يعيشون داخل السرد.. فقط أكون متعايشا مع نصي ومع فعل الكتابة لذاته، فأي محاولة لربط النص أثناء كتابته بصور ذهنية لشخوص خارجه تخصم من فاعليته، على الأقل في زمن الكتابة ومتعتها. فأنا أيضا أكتب بنوع من المتعة وأرى في الكتابة نوعا من الانتصار على جنون الحياة، وأن تكتب ليس شبيها بأي حال بتدوين رسالة إلى رئيسك في العمل، لهذا فإن الإبداع في أساسه عمل ينطلق من الذات باتجاه العالم على اطلاقه في ما بعد، وفي البداية فإن الكاتب أو الفنان يعاني الوحشة ربما ومخاوف كثيرة في محيط التفكير الذهني العاصف الذي يعيشه ولاحقا بعد أن يكون النص قد اكتمل فإن هذه العوارض كلها تتلاشى ليبدأ ظهورها مجددا مع عمل جديد.

* من من الكُتَّاب أثر على عماد البليك ودفعه للكتابة؟
سؤال البحث عن الأثر صعب جدا، كأن تحاول أن تكتشف المغذيات التي كونت خلية معينة في جسدك. فالأثر شيء كلي في تقديري، مجموعة من الخبرات والقراءات وتجربة الحياة عموما، لكن يمكن أن أجيب بشكل أبسط أن هناك كتاب شكلوا مصدر إلهام لي وساعدوني في الرؤية بشكل أفضل في ظلمات العالمين، وهم ليسوا بالضرورة روائيين أو أدباء، فهناك مفكرون وفلاسفة وبعضهم فنانون تشكيليون ونحاتون ومعماريون كذلك بالنظر إلى مرجعيتي الأكاديمية في دراسة العمارة. هل أذكر لك أسماء بعينها، ليس سهلا استحضار قائمة تطول وصعب علي أن أحدد بالضبط.

* عماد البليك، تقيم سهوباً من السرد لدرجة أن تغفل أسماء الشخصيات في شاورما تحديداً وتشير اليهم بصفاتهم، هل تعمدت ذلك؟ وألم تخشى مغامرة كتابة عن شخصية بلا اسم؟
لم أتعمد ذلك، في البداية كان لبطل الرواية اسم محدد.. وبعد أن كتبت قليلا منها أحسست بأن هذا الاسم ليس إلا عبئا يجب التخلص منه، لأن اختزال هذه الشخصية في اسم بعينه كان صعبا بالنسبة لي، لهذا قررت مباشرة أن أترك الاسم مفتوحا ومن ثم انطبق ذلك على بقية الشخصيات التي صارت تتنقل في تلك “السهوب” بلا اسماء، وكما عبر أحدهم كأن العالم خلق للتوّ أو بطريقة ماركيز كما تعلم “بلا اسماء”.. لم تكن مغامرة بقدر ما تلاءم ذلك من طبيعة السرد في الرواية عموما، وإن كانت الاسماء تسعى لتعريفنا بالشخوص واختزالها فلا أحد توقف عن القدرة على الفرز بين شخصية وأخرى في الرواية، بل ما حدث أن الشخصيات اكتسبت نوعاً من الإبهار بهذا الشيء كما سمعت من كثيرين.

* مؤخراً أرى اهتمامك بالراحل المفكر محمد أبو القاسم حاج حمد، هل ثمة نوايا كتابة محددة أم استلهام فكري وإعادة قراءة لمنتج الرجل؟
تجربة الأستاذ حاج حمد من التجارب الثرة في الفكر السوداني الحديث ولم تجد النقاش ولا الجدل الكافي حولها، وقد آن الأوان لكي يبعث الرجل بشكل أنيق يستحقه، وبالنسبة لي فقد كنت على معرفة شخصية به وتأثرت ببعض أفكاره، فقد كان إنساناً ملهماً بحق، وميزته أنه كان مفكراً وفيلسوفاً متعدد المواهب والمواعين، وكانت لديه نظره كلية وشاملة للأشياء بحيث لا يمكن فصل وعيه للدين عن مفهومه للسياسة وهكذا.. وفي العشرين من ديسمبر مرت عشر سنوات على رحيله، وارتأيت أن أسجل بعض من التأملات حول مشروعه باسم “في محراب حاج حمد” وهي أسئلة حول مشروع الرجل وجدليات الفكر والمثقف وغموض مستقبل السودان، ومنذ سنوات وبصدق أفكر في أكتب عنه شيئاً يليق بمقامه، كتابا، ولكن لم تكتمل الفكرة بعد عندي لتتبلور في هذا المشروع الذي سوف أكون سعيدا بإنجازه.

* تعود العالم على الإنتاج الإبداعي القليل لكتابنا وشعرائنا: روايتان لا أكثر، ديوانان بالكثير، لكن تكسر هذه القاعدة الآن، ثمة كتاب كانوا يبررون قلة إنتاجهم بأن الكتابة تصادر حيواتهم، ألا تفعل؟
قد تكون ظروف الحياة لها دور في عدد المنتج من الكتب، تعقيدات كالنشر مثلاً، لكن هناك جانب ملحوظ وهو قلة الإنتاج لدى الكاتب السوداني عموماً وهذا يرجع لطبيعة الحياة السودانية التي تأخذ تفاصيلها الاجتماعية الكثير من وقت الإنسان فيكون ذلك خصماً على أي مشروع إبداعي، ويترادف ذلك في الراهن مع الوضع الاقتصادي المتدهور، والأزمات المتواترة التي نعيشها بحيث يتحول الإبداع أحيانا لترف.. في مقابل ذلك فإن الغربة ورغم مثالبها توفر طاقة من الوقت والدافعية للعمل والإنتاج، وهي تفتح الذات باتجاه الرؤية والتأمل من البعد ليكون ثمة إنتاج مستمر. ما أقوله إن الكتابة لم ولن تصادر أي حيوات أبدا بل هي تفتح الأشرعة للتنفس وإحياء النفوس وترميم الذاكرة الخربة وتعزيز الأمل بالحياة الأفضل.

*”هذا زمن السرد”؛ كلهم يقولون ذلك، ما رأيك؟
نعم باعتبار الاتجاه الواسع نحو الرواية، كتابة وقراءة.. لكن هناك كتب أخرى تقرأ وبكثافة مثل الكتب التي تركز على مهارات الذات والنجاح والتنمية الإنسانية، كذلك المدونات الدينية، كل ذلك يلقى رواجا. وبالتحديد وفي مقصدك فـ “زمن السرد” هو حالة تتعلق بالإبداع الكتابي والفنون الأدبية، وهذا يعني الانفتاح نحو النصوص السردية بإطلاقها وليس تصنيف محدد اسمه رواية وربما هذا ما سوف يسير عليه الاتجاه في المستقبل القريب، لأن السرد مسألة متشعبة؛ ليست الرواية إلا جزءاً من عالمه.

* كل جيل كتابة يجيء معه نقاده، أين نقادكم يا عماد؟
فعلاً النقد ضعيف ويكاد يكون غير موجود، ربما هاجس هذا الجيل كما أشرت سردي بحت. هذه الحساسية الجديدة. وللأسف هناك من يرى أن النقد أقل شأنا من أن تكتب رواية أو شعراً مثلاً، هذا طبعاً كلام غير صحيح.. فالنقد عملية إبداعية معقدة هي الأخرى، وربما لكي نفهم المشهد أفضل فهذا الغياب مرتبط لحد كبير بالكثير من ثقوب المشهد الثقافي في تقاطعه مع السياسي والاقتصادي وغيرها من مركبات الواقع، لا يمكن فهم الغياب والحضور إذن سواء للسرد أو النقد أو حتى السينما إلا في ظل قراءة مشهدية كلية وشاملة لما يجري في راهننا، وهذا غائب، لا يوجد لدينا مثل هذه القراءات، لدينا قحط من حيث الرؤى الفكرية الشاملة والتفكير والخيال المطلق الذي ينظر بما فوق المحددات الظرفية ويستقرئ مجمل الحراك الإنساني بطاقة خلاقة تستحضر المكونات الخفية للظواهر والمرئيات.

* لماذا يكتب عماد البليك؟
إذا لم تكن كل الأسئلة السابقة بالإجابة عليها أسهمت في الإجابة على هذا السؤال، فثمة قلق سوف يستمر يلازمني بأن هذا السؤال ليس صعباً بقدر ما هو يشبه سؤال الحياة بحد ذاتها، لماذا نعيش ونستمر في وجودنا؟ فالكتابة هي نسيج يقترن بالذات التي تقوم بهذا الفعل، هي البحث عن المعنى وعن الحضور وسط غياب تفرضه اللحظة، فالزمن يمحو بقدر ما يثبت، والتاريخ يتغير بقدر ثباته.. ما نحن إلا انعكاسات أو تجليات لقدريات وظنون كبيرة وغموض مربك يحيط بنا، وسط كل ذلك يكون من الضروري لي أن أكتب بمحاولة مني على الأقل في أن أفهم ولو قليل من السر الغامض. ولكن هيهات.

* وكأنك مولع بكتابة حياة الدكتاتوريات، (عُدي صدام حسين، القذافي)؛ ماذا ترى في تلك الشخصيات ويجذبك هكذا؟
كتبت عن القذافي في “رسام الآلهة” وهي رواية غير منشورة، كما كتبت عن عدي في رواية “دنيا عدي”، وهنا كنت استعير الشخصية في بناء عالم سردي أحاول من خلاله فهم الواقع المعقد، فالمنحى عندي فني بحت يفتح التأمل في التجربة الإنسانية.. وشخصياً لم أر القذافي في الرواية بالتصور السائد عنه خارجياً، بل هو إنسان آخر له بعده وحساسيته وكان رساماً وهي الهواية التي لا يعرفها الكثيرون عنه والتي تدور حولها الرواية. لكن إن تسألني عن حقيقة القذافي كرسام لن أؤكد لك ذلك أو أنفيه، غير أن ذلك موجود في الرواية. بالنسبة لعدي، كان المشهد يتعلق بالحرب الأميركية على العراق ولم يكن عدي هدفاً في حد ذاته، إنما مجرد استعارة لمشهد كلي عاشه العراق في تلك الأيام والدمار الذي خلفته الحرب وما زالت انعكاساته حاضرة.. أخيرا فإن مفردات كديكتاتور أو غيرها لا تعبر عن حساسيتي لأن هاجسي النصي لا ينطلق من أي دوافع سياسية أو تصفية حسابات ضد أزمات معينة، فداخل كل شخصية حتى لو كانت بنوازع هتلر توجد مساحات متنوعة من الرؤية والدلالات المفتوحة لأي كاتب أو مفكر يبحث عن ملء الفراغات في وجوده بهذا العالم.

 

* كاتب وصحفي من السودان

عبد الرحيم حسن حمد النيل

شاعر وكاتب من السودان
زر الذهاب إلى الأعلى