ثمار

“فراشة” بابيون.. ملهمة الهاربين من السجون: قراءة استعادية

ابراهيم مبارك

لم يكن شارير الملقب بـ(بابيون) مجرد سجين يائس، بعد أن تمت إدانته بالسجن المؤبد مع الأعمال الشاقة. بابيون المتمرد والهارب من السجون والزنازين الانفرادية باسم الانتقام من المدعي العام والمحلّفين الذين زجوا به في (طريق العفن) ـ حسب تعبيره ـ وتارة باسم الحرية التي يراها ملكه الخاص، وليس لأحد انتزاعها منه في قضية جائرة، ناسياً أو متناسياً الانتقام الذي يدرك تماماً أنه يسلب منه طاقته التي كان يشحذها كل يوم للخروج من تلك الجزر النائية عن الحياة والإنسانية، لأن في اعتقاده؛ أنه يليق بالحرية، وباستطاعته أن يكون مواطناً صالحاً، وأن يكون كما أراد لنفسه لا ما أرادت له السلطة؛ مجرماً ومستسلماً، منتقداً السجون الفرنسية وطريقتها في التعامل مع السجناء والمُبعدين، مُتَّهِمَاً بلاده في ما توصلت إليه من حضارة إنسانية بالتناقض والنقص، فعاش عمره باحثاً عن وطنه الحقيقي الذي يمنحه حقَّه الإنساني من العدل والمساواة، الوطن الذي يمنحه الأمان الذي لطالما بحث عنه ووجده مؤقتاً في قرية هندية على شبه جزيرة كولومبية ـ فنزويلية تدعى (كاجيرو)، تعيش حياة بدائية بعيداً عن الحضارة المادية، حيث التماهي مع الطبيعة والتصالح مع الذات، قائلاً: (لأن أكون هندياً متوحشاً خير من أن أكون مجازاً في الآداب والقضاء). ولا ينسى بابيون أصدقاءه الطيِّبين الذين ساندوه في أشد المواقف حلكة، ورافقوه في رحلة الهرب؛ فمنهم من قضى نحبه قبل أن يتحقق حلمه، ولكن من ظلَّ عالقاً في ذاكرة بابيون، صديقه (كاربونييري)، حين رمى جثته في البحر حسب الطقوس التي يتم التعامل بها مع السجناء الميِّتين برميهم في البحر فرائس جاهزة لأسماك القرش.
لم يحضر اسم الفراشة في رائعة هنري شارير، إلا بطريقة رمزية لمرتين فقط، كإيماءة مدروسة أو لوناً خلفياً خفيفاً من خلف قضبان الزنزانة الانفرادية، إنها (ملحمة إنسانية) كما أورد الناشر في الطبعة العربية الأولى بترجمتها الكاملة عن الفرنسية، التي ترجمها: تيسير الغراوي عام 1982 عن دار التنوير بيروت. هنري شارير الذي انتقم من المؤسسة العقابية لمرتين متتاليتين فالأولى بالهروب من السجن ثم بالكتابة وفضح القيم الأخلاقية التي تتعامل بها المؤسسة مع السجناء لتصبح روايته من أكثر الروايات شعبية في العالم، ومن ثم تحولت إلى فيلم في مطلع الثمانينيات. إنها شجاعة الهروب من حضيض القمع والاستبداد إلى فضاء حريةٍ يسطر أبطالها مواقف فريدة من الإخلاص للحياة أو للموت، إن لم يكن هناك بدٌّ منه وكأن الموت هو الهروب الحقيقي عندما تتحول الحياة إلى سجن كبير.

 

*شاعر وكاتب من اليمن

زر الذهاب إلى الأعلى