ثمار

و من أنا لأكتب عن محمود؟

رسم/طلال الناير
رسم/طلال الناير

-1-
بالتأكيد لا يمكن أن أتردد في الإجابة على سؤال كهذا، ببساطة أنا لا أكتب عن محمود، فأنا مثلي مثلكم، سطرٌ خطه محمود أثناء كتابته للعالم، عالمه العاصف.

-2-
تروي إحدى القصص، لست بأكيد من صحتها، تُحكى على ألسنةِ مُعجبي محمود وأصدقائه، أن لمحمود صديقاً، هذا الصديق هو في محل حب فاعل في حياة محمود، فهو ينهض بكل شيء تقريباً في حياة محمود، من تجهيز هدوم محمود بتاعت الحفلة، مصاحبته إلى الحتات الماشيها، تحضير الطعام للضيوف، بالإضافة إلى مهام أخرى عدة، ولكن لبندر هذا مهمة فريدة من نوعها من بين جميع المهام التي يمكن أن تُسند لمساعدٍ شخصي – إن صح هكذا تعبير – تلك المهمة كالآتي: إذا حدث وقال أحد الضيوف الكثيرين والعديدين في جلسات محمود الدائمة: “يا أستاذ ياخ كدي أدينا الفات الزمان”، أو أي شيء من هذا القبيل، أو صرّحَ بعد العودة من إحدى الحفلات بأن أداء محمود كان جيداً وحاجات من النوع ده، فإن محمود ينادي: “يا بندر باللاهي شوف الزول دا داير شنو”، يسارع بندر بدعوة الضيف خارج الصالون وعندما يصل إلى البوابة يدفعه خارجاً فجأة، يغلق الباب خلفه، عائداً إلى الداخل ضارباً كفاً بكف دلالة على نجاح المهمة.

-3-
“كلِّم الموتَ
قل له محمّد
هذا محمّد
أعدّ لك الرّكلة”

عن: محمد الصادق عن الذين بهدلوا الواقعة

للنعش هيبة خاصة، ففي جميع المآتم والتشييعات الجنائزية، ترى الحشود خاشعة، حانين الرقاب، صاغري الجباه، لجلالته يحلق فوق رؤوسهم، خاطفهم المرعب، يرهقهم خوفاً، أولئك الهزيلين، تجار الساعات الهالكة، من باعوا هوى الوجود ومرحه، بأشواط إضافية في مباراة، غافلين أن مشاركتهم الباهتة، ترديهم خذلاناً، تصفعهم خسراناً، لماذا يخافون الموت؟ أهم يخافونه حقا؟ أم يخافون الحياة؟؟ تلك التي لن يخبروها قط.
ما حداني للانحناء خضوعاً لمحمود – محمود الشخصية العالية، المتجسد كفنان، فقط لأن الفنان، حتى الآن هو من بيننا الذي ما فتئ يغازل المجهول، محاولاً تصيد شهقة حرة، تكونها الحياة، شهقة تغسل خطيئة جنس مُكنكِش في تناهيه وصغره، لأن الفن وحتى الآن لا يملك ماركات رخيصة تباع في سوق مستباح من عوام، شارفوا على الموت لحظة ميلادهم الـ….. – إذن فما حدا بي للانحناء لمحمود كان سخريته واستخفافه، ليس بالحياة طبعاً، كان الركلة، ركلته التي طرح بها البعبع مُرينا معدنه الحقيقي، كان الحياة الزاخرة التي وإن اقتنصت منها لحظة واحدة كفتك أبداً ودهرين، الموت الذي لن يكون بعدك سوى تأكيد أن الحوت مر من هنا، مخترقاً لا مستطلعاً، مصادماً لا مهادناً، كاسحاً للأزمنة، هادماً للأمكنة، مغامراً دون احتراس، علمنا أن الفناء يطال فقط الجبناء، الذين عبرتهم، ولم يعبروا الحياة قط.
تشييع الأسطورة لم يكن مشهداً أخيراً ضيق الرؤية، لم يكن خاتمة لرواية ضعيفة الحبكة، كان مهرجاناً، احتفال الحياة بنصر لا تحوزه سوى نادراً، ونادراً جداً، غرساً سيبقى على هذه الأرض وينمو، ملامساً عنان السماء، متجاوزاً إياها.
في مشاهد التشييع ترى هنا شاباً يتشبث بالقبر الخالي والكل يحاول انتزاعه دون جدوى: “ياخ ادفنوني أنا حي كدا بس خلو الجان دا بره”.
شباب يطلقون صافراتهم في منتصف المقابر، المقابر التي فُطمنا برهبتها، كلما مررنا بها خفق الخوف قلباً في دواخلنا، نعجل الخطى هاربين من شبح يسكن ذواتنا، قبل أن يسكن اللحُود.
أفواج تحتل المدينة المرهقة عاريي الصدور، أيديهم مصلوبة على صدورهم، سباباتهم نحو الأعلى، تلامس روحاً ستظل طافية فوق الأرض ملهمة كل منفلت ومتمرد، حباً صرت يا محمود، حباً كله استحقاق.
من يغمى عليهم فتحملهم سواعد، ما زالت مشدوهة، في حركة آلية تؤدي واجبات مدركة قصورها، من يهددون بالانتحار، أيهددون الموت بالانتحار؟
تباً لك، موت جبان، لو كنتُ أنتَ لسجدتُ لعظمة الفنان.
في تشييع محمود، رسب الموت، وأحرزت الحياة الدرجة الكاملة.
فيا حوتة، يا حبيبي، يا سالك طلع علينا نجماً من سديم مرعب، لقد شربنا الدرس حباً، وتجشأنا التجربة خالصة، سنحيا لك وبك وفيك، ونحوك، أما أولئك الذين اختاروا الحياة أمواتاً، من ظنوا أن الموت حائل بينك وبيننا، بينك ومجدك، بيننا ومجدنا، بين أمجادنا سوية، أولئك الفائضون عن اللزوم، على قول الماهر عطاء مثلك، فليس لدي ما أقوله لهم، ولكني أعرف تماما ما ستقوله أنت:
“يا بندر باللاهي شوف الجماعة ديل دايرين شنو؟”.

 

* شاعر من السودان

زر الذهاب إلى الأعلى