مشاهد محمودية

(حلو الغنا في خشم محمود)
ما بلومكم
في ظنونكم
فرحي مقبوض بين حصونكم
مأسور جريح بين سجونكم
أصلي زول مما قمت طيب
اسألو العرفوني فيكم
ما جنيت على زول حبيتو
قدمت (روحي) و(فني) ليكم
جنيت على نفسي المسالمة
ولي لما ما حنت يديكم
يا أقدار الله، هذا من لطائف محمود، ها هو يترافع عن نفسه، بالغناء أيضاً، مشروعه المديد الذي وهبه الناس وذهب، فقد تفرجنا عليه وهو يغادرنا هكذا حتة حتة وبالتصوير البطيء، امتصصناه قطرة قطرة وها نحن لا نكتفي بموته، عودوا هداكم الله إلى مشاهده في سنينه الأخيرة، وقد هده ظلم الأحبة وظلم النُّظم الخرقاء التي لا تعرف للنجم الثاقب حرمة، بل وتتشفى، تفرجنا عليه وقد هده ظلم الآكلين من سنامه النحيل، ثم اللامبالاة، ظلم الفرّاجة (ورَّاهم العدو وقعدوا)، قبل أن يهده المرض ويغير ملامحه الوسيمة ويرسم ذلك الحزن المقيم في وجهه الطليق.
وهو إذ يترافع عن نفسه هكذا، يتوارى المجتمع كله خجلاً وحزناً على رحيل النوارس باكراً وتباعاً، ويتحكّر في مشهد وداعه الأخير من أنهكوا جسده النحيل ومن اتهموا موهبته ومن ومن، ولكن محمود يتجلى في مذهب وداع المبدعين لأنفسهم، فارقد في سلام يا حبيبنا.
نعود إلى مشهده مع الغناء الشعبي، ومحمود يغني يثير إعجاب الناس المشفقين على كثير غناء يندثر، يثير إعجاب الشباب الباحث على ربط جيناته بانتمائه لوطنه، يثير إعجاب الموسيقيين الذين طالما حلموا بالتوقيع الجميل للأغنية الشعبية، يثير إبداعاً كثيراً هو نثار من ذهب النبوغ والتفرد، وقد يثير الغيرة والحسد والرغبة في التشفي، لكنه يغني:
مفارق كيف تخلينا
لشوقنا وذكرى ماضينا
وكيف بعدك يكون الحال
وكيف تصبح ليالينا
يحدّ محمود صوته في موصل كهرباء القلب، يتحكم في النبض ويشدو، فيما يشدو بعبقري اختياره يهب الحاضر عودة اللحن من الماضي، يجعل للبهاء خلفية موسيقية ساحرة، طلاقة الآلة وجذب الحالة وسمو الهالة، فإذا غنى كما غنى لعملاق الغناء الشعبي هذا، فهو يغني له أيضاً:
كنت فاكرك معاي
حبيبي فاكرك معاي
تسعد بي سعادتي
وتشقى عشان شقاي
والمغني الشعبي العملاق قد اختط لنفسه طريقة أداء حركية تميز بها في انفعالاته في لحظات التعبيرات المصاحبة لمعاني الكلام المغنى، هو محمد أحمد عوض، وهو من مشاهير الغناء الشعبي الأماجد، صاحب مدرسة في ذلك، غنى له محمود فانقلب مشهده الغنائي رأساً على عقب، موسيقى حالمة وأداء صوتي باهر، ودنيا من التطريب ساحرة، وقالب جديد يذهب الألباب، يا ويح محمود إذ يغني:
مع السلامة مع السلامة
ما تنسي لي ترسلي
يسعدني أنك تذكريني
وعني دايما تسألي
وصوت محمود خارق للعادة يعمق اللحن الطروب لمحمد أحمد عوض فنخرج بمشهد من الغناء عجيب، ونقف على عظيم ما تغنى به المغنون في بلادنا الكبيرة، يا ويح محمود، وهو يغني ويغني ونحن نغني، والآفاق تغني في مشهد وداعه الحزين: مفارق كيف تخلينا.
ثم يأتيك صوت محمود من بعيد الشجو، إلى قريب الصحو، إلى عميق استغراق، ويغني، ويغني، ليغني:
بقيت ما زي زمان
كنت بتدورنا وتزورنا
وتسعدنا يا أمل الزمان
الريدة بين الناس صلة
ريدتنا ألحق حصلا
ليه يعني داير تفصلا
الدنيا حب ومواصلة
ماذا لو لم يتغن محمود بهذه الأغنية متجاسراً على مثبطي للهمم محترفي وضع المتاريس أمام المبدعين؟ فمن للشباب بها؟ الأغنية لمحمود علي الحاج، المغني الشعبي الذي كان يغني في الناس حتى انزوى (بشكي ليك يا ربي آه من حبيبي الظالم الاترسم في قلبي آه)، غنى حتى بح صوته وانحصر في عالم الغناء الشعبي بحدوده المعروفة فإذا بمحمود يزيح هذه الحدود ويخرج به إلى فضاء التذوق العام.
صوت محمود يأتيك من بعيد أيضاً بطرق حنجرته الذهبية بلآلئ تكاد تصدأ، يحرك ساكن المشهد الغنائي فيمشي الناس بالأقاويل في تجربة اختياراته الفريدة، ينتقدونه ويتهمونه ويتسامى فوق كل ذلك، ليغني ويغني، فيشيدون به، ويسلب الشباب عقولهم ويسهم في تسكين الإبداع الغنائي في ذاكرة الراهن الجمعية المهددة بالاستلاب، فانظر يا هداك الله ماذا يغني:
حبيبنا الأولاني
فلان الفلاني
لينا معاهو ذكرى
دايرين نعيدا تاني
لا مرة يوم قابلنا
نحن الشوق كتلنا
للديمة قلبو حاني
الأسمر الكناري
زي نسمة العصاري
قلوبنا الريدة تداري
في عيونا نلقى تاني
يا أول ريد نعيشو
بيهو القلوب يجيشو
الطير القصو ريشو
أحزانو في الأغاني
لو الدرب يجيبو
أو يفتكر حبيبو
ده الحب محال نسيبو
لو نشقى فيهو ونعاني
من يصدق أن مغنياً شعبياً يمكن أن يغني هذه الأغنية؟ ولكن محموداً فعل، هذا تنقيب محمود، والمغني الشعبي المعني كان يغني في الناس آناء الليل وأطراف الأماسي حتى (فقد) صوته، إنه عبد الوهاب الصادق، غنى وغنى حتى فقد صوته فانزوى حتى أتاه الحوت فعرف المشفقون أنه كان هنا، وتحرك المثبطون والصحف الصفراء والملاحقون بالحق وبالباطل، ولكن محمود كان قد غنى وأشار بحنجرته الذهبية في اتجاه الذهب فعرف الناس أنه عبد الوهاب الصادق الذي طالما غنى بينهم (جيت تاني تعتذر ترجع أيامنا الزمان من وين أجيب ليك العذر من بعد ما فات الأوان)، فيكادون يعتذرون فيعرفون أنه الذي غنى (مالك مجافي الناس عايش براك في غربة ما نحن ناس جيرانك قضينا عشرة وصحبة)، لقد فتح عليه محمود كوة الأضواء وتحمل في جسارة المغنين المطاليق ضيم المترصدين، ثم أكرمه بعد أن أعاد تقديم أعماله، وأكرمه في بعض مكرماته، يعرف الشباب الآن أنه هو الذي تغنى بـ(يمة الليلة مالو ما ورانا أخبارو)، وهو الذي تغني بـ(حليل زمن الحنان يابا).
فانظر يا هداك الله محموداً في هذا المشهد، يطرق على الذهب فيلمع بل وينقب عميقاً في ما يخص وجدان الناس وبراء المغنين ووفاء المجايلين، وانداحت أغنيات عبد الوهاب الصادق (بعد ده كلو كمان بتبكي أي كمان بتبكي ما كفاية الشفتو منك ولا أكتر من ببكي)، وكأنه يشير إلى الطغمة. ويغني (حبايبي الحلوين) تنداح أغانيه، فيغني (ست الريد بقت قساية)، أما محمود فيخرج حنجرته الذهبية في وجه من تقاصر عن رؤيته.
إنه فضل محمود على الأذن السودانية الكسولة، وفضله في تسكين إبداعه سودانياً ملمحاً ومكمناً في وجدان الناس بالصوت الجديد.
فيا محمود في العليين يرحمك الله بقدر ما أبدعت.
ويا محمود
يا محمود
يا محمود:
الكنت قايلو فات زمان
رجعتو بي طعم الغنا.
* شاعر من جنوب السودان