ثمار

الحب في مملكة الجنجويد

 أحمد الملك

الوقت ليس مناسبا للموت في هذه البلدة الغارقة في الرذاذ ورائحة نوّار شجر السنط: الساعة الخامسة صباحا، صوت أذان الفجر يتهادى في ندى الضوء الوليد فوق كثبان الرمال، وأشجار الطلح المتناثرة في المدى الغارق في ضوء الفضة.
استيقظ الملازم معاوية إبراهيم عثمان على صوت أقدام الجنود، بدا له صوت آذان الفجر، القادم عبر الرمال، مختلطا بصوت خطوات الموت، كأنه قادم من عوالم أخرى. تحول صوت المؤذن في ذاكرته إلى صوت ذلك الرجل الذي كان يطوف القرى على حماره ليعلن أسماء الموتى الجدد.
كان يشعر أن هذا هو يومه الأخير في هذا العالم، لم يشعر بالخوف، كل فجر حين يتعالى صوت أقدام الجنود في الممر أمام الزنازين، ثم صوت المفاتيح في أقفال الأبواب، يتم سحب عدد من المعتقلين إلى الخارج، لا يعودون مرة أخرى. يظل الموت الزائر الأكثر حضورا في المكان، لكن ضوضاء الحياة لا تنقطع في المكان أبدا، في نفس اليوم يحضر معتقلون جدد، متمردون ضد الدولة صدرت عليهم أحكام بالإعدام في محاكم عسكرية لم تستغرق سوى دقائق، متهمون في محاولات انقلابية، تجار وطلاب متهمون بالتعاون مع حركات التمرد.
انفتح باب الزنزانة وطلب منه أحد الجنود أن يخرج بسرعة، طلب من الجندي أن ينتظر قليلا حتى يرتدي حذاءه، لكن الجندي رد بصفاقة:
لن تحتاج إليه بعد الآن!
تتكون مجموعتهم من ستة أفراد وقعوا جميعا قبل أسابيع في الأسْر؛ وهم يقومون بتغطية انسحاب قواتهم، بعد أن استطاعت قوات الجنجويد استعادة الحامية العسكرية التي استولت عليها قواتهم المتمردة قبل أشهر. في الخارج كان الجو لطيفا، العصافير تحتفل بالنهار الجديد دون أن تكترث لرياح الموت القادم مع أول خيوط ضوء الشمس، في ضوء الفجر لاحت في السماء سحب كثيفة تبشّر بأمطار غزيرة. ما إن خطا أول خطوة خارج مبنى السجن حتى لامست وجهه قطرات من المطر، كأنه يستعرض المطر مثل حرس شرف في الطريق القصير الذي ينتهي في الموت. كان عاشقا للمطر، في طفولته الأولى كان المطر جزءا من حياته، رائحة الأرض ورائحة الحقول، في طفولته الثانية في مدينة صغيرة بعيدة في عمق الصحراء، كان يشعر دائما بحنين غامض للمطر، لرائحة الأرض ورائحة نوّار أشجار النيم الغارقة في المطر، حين يسقط المطر في أحيان نادرة في تلك المدينة النائية، كان يحتفل به بقضاء يومه كله خارج البيت، كأنه يبحث عن أصداء طفولة سعيدة غابت فيما وراء الصحراء.
كان الجندي محقا، لم يستغرق الوصول لساحة الإعدام سوى دقيقة واحدة مشيا، قام الجنود بربطهم إلى الأعمدة وعصبوا أعينهم، أشرعت فرقة الإعدام بنادقها وصوبت نحو صدور المحكومين في انتظار أمر إطلاق النار. حاول الملازم معاوية إبراهيم عثمان أن يقوم بتثبيت صورة واحدة في واجهة ذاكرته، لتصبح جسرا بين موته وحياته التي لم يبق فيها سوى ثوان قليلة. قفزت صورة سميرة وتراجعت صور كثيرة أخرى، لم يجد فرقا في صورة سميرة بين سميرة شقيقته وسميرة الأخرى كما كان يسميها، سميرة شقيقته كانت تعبر في كل مكان مثل نسمة، لا يلاحظ أحد وجودها رغم أن وجودها هو الذي يجعل الحياة في هذا الجحيم ممكنة، منذ أن جاء جدهما لاصطحابهما للعيش معه في مدينته البعيدة بعد وفاة والديهما.
مرّت الأيام في مدينة الصحراء والقطارات والنخيل، وتفتحت سميرة عن وردة برية جميلة، رغم مسحة الحزن التي ستبقى في عينيها إلى الأبد من واقعة فقد والديها. رآها جالسة فوق بساط قديم مصنوع من وبر الجمال تحت شجرة النيم، وجدتهما تمشط لها شعرها في جدائل طويلة ناعمة، وتمسحه بالزيت والشحم.
في سيل الصور التي تدفقت في ذاكرته كأنها تهرب من تقدم الموت، كأنها فئران تقفز من السفينة المشرفة على الغرق. رأى نفسه صبيا صغيرا يتجول في أزقة المدينة الصغيرة النائمة بين النهر والجبل والصحراء، بملابس رثة وشعر طويل معجون في الغبار والعرق، تبدو تلك المدينة الغارقة في ضجيج القطارات القادمة والمغادرة عبر الصحراء، في صور ذاكرته مثل كائن خرافي ملقى على حافة الصحراء، تتمدد حوافه الأخرى حتى نهر النيل. كل شيء ذائب في الغبار ولون التراب، حتى جدران البيوت، تبدو ذائبة في جحيم القيظ، حتى النهر يبدو مثل خيط ذائب من القصدير.
طوال فترة تمرده وسجنه كان يعيش على ذكريات وصور جدته التي صارت أما له منذ وفاة أمه، وسميرة شقيقته، وسميرة بنت خالته التي كان يسميها سميرة الأخرى. لم يكن قد تبقى لشقيقته في الدنيا شخص غيره سوى جدته، بعد أن توفي والداهما في حادث أثناء رحلة الحج، كان يشعر دائما بالخوف من المسؤولية التي ألقاها والده الراحل على عاتقه قبل رحيله.
حين سافر والداه في رحلتهما التي لن يعودا منها، وقف والده في لحظة الوداع ليقول له: لقد أصبحت رجلا، ستكون مسؤولا عن أختك حتى نعود! سيظل يحمل الأمانة منذ تلك اللحظة وحتى لحظة وقوفه أمام فريق الإعدام.
انتابه خوف غريب حين سمع والده وهو يوصيه على سميرة، لم يتجاوز عمره آنذاك اثني عشر عاما، لم يكن يفهم بالضبط ما الذي يجب عليه أن يقوم به. كأنه كبر فجأة في تلك اللحظة فقط ليقبل تحمّل تلك المسؤولية، لكن اللحظة انقضت سريعا. جاءت خالته مع ابنتها وابنها الصغير من قريتهم البعيدة لتقيم معهم لحين عودة والديهم. خالته امرأة قوية الشخصية، طيبة القلب، كانت زوجة لمزارع وسكير محلي، هجر الزراعة إلى التجارة التي لم يحقق فيها أيضا نجاحا يذكر، قبل أن يصبح مسؤولا بعد تعلقه بقطار أحد الانقلابات العسكرية، أصبح مسؤولا محليا في المدينة يشرف على توزيع وقود الديزل للمزارعين. ويقوم بمحاولة حل النزاعات الصغيرة على الأراضي، وكلما وقع انقلاب عسكري كان يرسل برقية تأييد ثم ينخرط في ركبه، يفتح بيته لاستقبال المهنئين بنجاح الثورة كما يسمي الانقلاب العسكري. ينسى أنه كان في حاشية النظام الأخير حتى أنفاسه الأخيرة، معلنا أنه حذرهم عدة مرات من مغبة الطريق الذي أصروا على المضي فيه فقادهم إلى النهاية المحتومة، يفتح بيته لاستقبال المهنئين وكأنه صاحب الفرح. لا يتغير شيء بالنسبة له، رغم أن كل شيء يتغير مع تغير الأزمنة.

ــــــــــــ

مجتزأ من رواية (الحب في مملكة الجنجويد)

 

* روائي وقاص من السودان

زر الذهاب إلى الأعلى