بابل أفريقيا.. في أنطلوجيا الشعر السوداني
إذا كانت الأنطلوجيا ــ بصورة من الصور ــ ترتبط عضويا بالاختيارات المتصلة بذائقة نقدية حيال موضوعة الشعر في بلد ما؛ فإنها في السودان تعني أكثر من ذلك بالضرورة.
فالسودان الذي عوَّمت فيه الثقافة العربية مسارا ثقافويا هيمن على ذائقة الجميع وحولها لحساسية عمومية، كان سياساته السلطوية تقمع باستمرار إمكانات ساحرة للتعدد والغنى في بنية ثقافاته ولغاته المحلية، التي لم تشاكس العربية يوما، بل أدمجت معاييرها في نظام أصواتها الأعجمية الحميمة (رغم الإكراهات الرمزية التي كانت تتعرض لها من سلطة الوسط الثقافوي) وهي حالة تضع أمامنا عقبات منهجية في تكوين معيار أنطلوجي معبر عن حالة شعرية عمومية عابرة للغة، ومعبرة عن الوطن في الوقت عينه.
واليوم بعد أن انفصل جنوب السودان بأصواته الشعرية وحساسياته الإبداعية (وهي بالضرورة حساسية سودانية رغم الانفصال السياسي)؛ لا تزال في السودان أصوات ثقافية وتعبيرات جمالية لشعر لم يأخذ حقه من الحظ القومي في السياسات الثقافية نتيجة لغياب سوية إبداعية؛ من أهم أسباب غيابها: تخلف النشر، ومركزية الفعل الثقافوي في الوسط، والهجرة، والأزمات السياسية، وغير ذلك من انعدام آليات التفاعل والتواصل التي تصالح صورة الوطن، إبداعا وثقافةً، مع نفسها؛ فضلا عن تقديمها للآخرين.
إلى جانب ذلك ترتبط الأنطلوجيا الشعرية في جوهرها بآفاق من الحرية والتجريب والمغامرة، قد لا تنعكس على واقع الشعر السوداني وحساسياته اليوم نظرا لمركزيات حزبية ثقافوية ارتبطت ببيئات عكس وعيها الأيدلوجي معيارا شعبوياً منمذجا لصورة الشعر والشاعر في المجال العام.
فالأنطلوجيا، فيما هي تجريب فردي وحر لاختبار الأصوات الجمالية في الشعر عبر موجات متجددة، يعكس ازدهارها، من جهة ثانية، طورا متقدما من حالات تسييل الشعر بوصفه حيوية فنية، شفافة ومتحولة نحو إزاحة مستمرة للرموز والحساسيات المكرسة.
وبالرغم من أن تكوّن النمط الصوري الذي عوّم نماذجه الشعرية عبر المركزيات الحزبية والثقافوية في السودان تزامن مع بيئات عربية مماثلة إلا أن تلك الحالة التسكينية المنزاحة من حيوية الشعر إلى تراتبية التقليد، ربما كانت التحدي الحقيقي لفاعلية الكتابة الأنطلوجية؛ فهنا ستتكشف عمليات تخليص الهامش الجمالي للشعر من المتن الأيدلوجي للكتابة الحزبية عن ضربات استباقية ضرورية ومتبادلة.
فليست الأنطلوجيا اختيارات جمالية واستنسابية للنصوص فقط، وإنما هي أيضا اشتغال على تجديد الذائقة الشعرية، وتوطين قناعات وحساسيات جديدة لا يمكن تسخينها في المتن الجمالي للشعر إلا عبر زحزحات عسيرة تقطف معها رؤوسا ورموزا، عبر نقد استعادي يفرز حدود طاقة الإبداع عن رافعة الأيدلوجيا. وهكذا حينما تتعدد الأنطلوجيات، لا سيما تلك التي ينتجها الشعراء يقف المتلقي على مفاجآت لا متناهية للغنى والتنوع في الشعر.
في واقعنا السوداني، سيواجه مشروع الأنطلوجيات بوصفه اختيارا واختبارا للشعراء، بالكثير من ردود الفعل التي ستكشف بالضرورة عن أحوال موازية لأحوال الحياة الأخرى من جمود ومحافظة، وعدائية، وأوهام سيادة، ورموزية وغير ذلك من الأسباب المانعة من توطين تقليد جمالي لتفقد أحوال الشعر بالشعر.
إن الأنطلوجيا بما هي ضرب من اشتغال الشعر على الشعر ستسيل حراكا غير مقدس في الأنساق الشعرية، وستعمل باستمرار على إعادة إنتاج علاقات الفرز والإزاحة عبر جدل لا نهائي يعزز فقط حيوية الشعر دون أن يترك شعراء في حالات رموزية غير قابلة للإزاحة.
أمام انسدادَين منهجيَّين يقف مشروع الكتابة الأنطلوجية في السودان حائرا؛ فمن جهة لا بد من استكمال وجه الشعر في السودان منهجيا ولغويا بما يقتضي نقل نماذج شعرية متعددة، وأصوات مختلفة عبر وسيط الترجمة من اللغات السودانية الأخرى إلى العربية، وهذا عمل موسوعي ومؤسسي غالبا ما يدخل في إمكانات الدولة أكثر من مساهمات الأفراد.
ومن جهة أخرى ثمة حاجة للبحث عن سوية إبداعية تعكس الشعر حرا كما هو، بعيدا عن نظم إدراك حزبية أو شعبوية؛ وهذه قضية تتصل في جوهرها بمدى استحقاق الإبداع والكتابة، في الفضاء العام للتفاعل الموضوعي معه بحسبانه إبداعا أولا وأخيرا، بعيدا عن أي اقتران شرطي لحالة جماعية مفترضة وقائمة على صلات وعلاقات أشبه بالتناصر منها بالتفاعل الحر والإنساني مع المبدع أو الكاتب. هذا أيضا سيقودنا إلى افتراض آخر، كثيرا ما يلقي بظلاله كأصل لتك الحالة التي ذكرناها آنفاً، وهو افتراض يقوم على: تصور غالب لدى كثيرين لعلاقة الإبداع؛ فكرا وسردا، وشعرا بجماعة معينة أو لفئة معينة يمنحها التصور الشعبوي لأتباع (المثقفين) امتياز حيازة خاصة للإبداع فقط لكونها أصبحت بالنسبة لأولئك الشعبويين (عادة ما يطرحون أنفسهم كمثقفين، أو مثقفاتية كما يقال لهم في السودان) متخيلا حصريا للحداثة؛ فيما واقع الفكر والأدب والسرد والشعر والفنون عامة لا يفترض بالضرورة ذلك التصور لسبب بسيط هو: الشرط الإنساني للإبداع ـ إنتاجا وتلقيا ـ فالإبداع كائن موضوعي لا يقبل القسمة على أحد، لا جماعة ولا قبيلة، ولا طائفة إلا في كونه متحققا بشرطه الإنساني.
بناء على ما سبق، ونتيجة لفاعليات كثيرة ومركَّبة لعلاقات التفاعل التي تشتغل على تحريكها أحيانا بُنى وحيثيات تخترق وعينا وتضغط على أعصابنا وذهنياتنا بقوالب معينة ورؤى محددة؛ تأتي خياراتنا واختياراتنا وحتى تفاعلنا الجمعي ضمن مفهوم السياق الذي لا يتصور للإنسان المعيَّن معنى خارجه.
ما أعنيه هنا أن حاجتنا لاختبار ذائقة مستقلة للإبداع في سياقنا الثقافي السوداني لا تزال راهنة وملحَّة من أجل تحقيق ذلك الفرز الذي يجعل من حيازة الإبداع استحقاقا حرا، إنسانيا، وعابرا للجماعات والأحزاب والقوالب الجاهزة.
الأنطلوجيا صوت حر، يرفع شعراء ويخفض آخرين، باستمرار، أو هكذا يفترض لوظيفتها داخل الحركة الشعرية.
وفي مثل هذه الاهتزازات الضرورية لفعل الأنطلوجيا ينعكس التسخين في الشعر ليحرك جمود الموقف الكلاسيكي والأنماط المكرسة (كما هي الحالة الشعرية العربية اليوم)، وليسمح على الأقل بتحقيق شرطَين جماليَّين للإبداع هما: الحرية والإنسانية.
فحين تقترح كتابة أنطلوجية ما، تعويم شعراء مطرودين من جنة الضوء في الفضاء العام، لأسباب آيدلوجية مثلا، فإن معيار التعويم هنا ينبغي أن يعكس، إلى جانب الإبداع، شرطي الحرية والإنسانية الجماليَّين.
وإذا ما اقترنت الشجاعة الفنية بالوعي الأنطلوجي للشعر؛ فإن كثيرا من نواميس التعويم المتصلة بنظم الإدراك الشعبوي وبإسناد العلاقات الإعلامية والشللية، سوف تتخلع، وباستمرار أمام حيوية الاختبار النقدي في كل موجة من موجات الأنطلوجيا المتجددة. بهذا المعنى تطرح الأنطلوجيا وظيفة مزدوجة، في كونها تضمر تجديدا أو تنظيفا دوريا للذائقة داخل الحركة الشعرية من ناحية، وتعريفا بها في الخارج، من ناحية ثانية.
هكذا إذا ما أمكننا اليوم أن نستعيد رأيا نقديا عن مرحلة ستينية من الشعر السوداني آنذاك؛ سنجد أن شاعرا متوسط القيمة الشعرية كالشاعر صلاح أحمد إبراهيم حظي شعره بتسخين وتسييل شعبويَّيْن أكثر من شاعر آخر هو محمد عبد الحي مثلا. ففيما كان صاحب (غابة الأبنوس) متصلا بجماعة أيدلوجية ساهمت في تعويمه كان صاحب (العودة إلى سنار) فردا بعيدا عن ذلك التعويم، وبانتظار زمن آخر في المستقبل البعيد.
أنطلوجيا نصار الحاج
قبل سنوات صدرت في الجزائر أنطلوجيا سودانية عن طائفة متنوعة من شعراء السودان بعنوان رمزي حار (تحت لهاة الشمس)، من إعداد الصديق الشاعر السوداني نصار الحاج الذي بذل فيها جهدا متميزا، وهي اختيارات خضعت بالضرورة لذائقة حاولت أن تختبر حساسية شعرية جديدة للعديد من الشعراء السودانيين الشباب داخل وخارج السودان، ويمتد فضاؤها لأربعة عقود.
ربما كانت المفارقة الأولى في هذه الأنطلوجيا أنها لم تكن طاقة لشعاع خفيف من الشعر السوداني إلى الفضاء العربي فحسب؛ من بلد بدا للكثيرين لا يملك تعريفاً نفسه للآخرين إلا من أبواب المأساة (دارفور ـ حرب الجنوب)، بل أيضا هي محاولة لإعادة تعريف وجوه الإبداع الشعري بنفسها في ذلك البلد ـ القارة، نتيجة لغياب سوية ثقافية تشد حالات الإبداع في بنية مركبة متعددة الأطياف.
وبالرغم من الحيثيات العديدة التي تشفع لصدورها بسياق يقفز بالضرورة على خارطة الإبداع الشعري المتعدد في السودان ومدارسه ـ كما كتب الشاعر نصار في المقدمة ـ إلا أن في الإصغاء إلى أصوات مغمورة للأسباب أعلاه، ربما كان كذلك من أهم خصائصها.
وإذا كانت هذه الطائفة من الشعراء بدت كأصوات نابضة بتعبيرها الموحي لجهة تشير إلى حساسية سودانية ما، للمتلقي العربي؛ فإن تعبيرها ذاك، رغم أهميته، يستدعي تفكيرا في تعبيرات شعرية أخرى من خارج اللغة، ومن داخل الوطن في شطره الجنوبي، كتذكير حارق بمعنى أن يكون الإبداع ـ الشعر خصوصا ـ صوتا للسلام والسكينة والجمال في ذلك الجزء من الوطن الذي ظل مغمورا بالحرب والموت لسنوات طويلة. ثم انفصل قبل ثلاثة أعوام، لتسكنه الحروب مرة أخرى.
وأخيرا ستظل هذه أنطلوجيا الصديق نصار الحاج تعبيرا عن إبداع شعري منساب بجمالياته المتعددة الأطياف؛ لجهة انبثاقها عن عمل حر يتعلق بمحررها أساساً وبوعيه العميق بأصوات الهامش الجمالي في الإبداع الشعري بالسودان؛ تلك الأصوات التي قد لا تجد انتشارا حتى في المنشورات الرسمية للخرطوم ولأسباب لا علاقة لها بالإبداع أصلا.
ـــــــــــــ
نُشر في دورية (عبقر) نصف السنوية التي تصدر عن النادي الأدبي بجدة، العدد 13 /14 يناير يونيو 2014
* ناقد وشاعر من السودان
jameil_2004@hotmail.com