ثمار

بحثاً عن الطريق

صفاء نقد

كان يدخن سيجارته بلذة وهو مسترخٍ، يراقب دخانها الذي تجمَّع في غيوم سوداء ضخمة. أخذ ينظر للغيوم وهي تتهادى، وتُغيِّر أشكالها مثل عرض مسرحي مُضحك. بعد أن أحرق سيجارته الضخمة تماماً، رفع الإسفلت الضخم أسفل قدميه ورمى بما تبقى منها، ثم كحَّ بصوت طارت له البيوت وسقطت من أماكنها ولم تتكسر، ثم صرخ والناس نيام، وبكى عليهم بكاءً مدويَّاً، ولم يحس به أحد. جاءت أمه الريح وحملته إلى كهفه البعيد أقصى البلاد، بكى لأمه وقال: “لم يحسوا بي”. احتوته أمُّه بذراعيها بعد أن أعادها الحنين لاسمها الأول: النسيم. وحكت له كيف ولدته دمعةً دمعةً، وفرحاً فرحاً، وغبناً غبناً، وإحباطاً وأملاً، كيف لململته من خلف الأبواب والنوافذ من الشرفات وحيشان البيوت من الرواكيب والعشش والمزارع، ومن الأطراف المعذَّبة، كيف غسلته بماء النيل وغمرته بدهشتها وحبها. بكت النسيم وهي تقول لابنها: “ما عاد الجبل يسعنا”.
كانت هناك أرض وسماء ونجوم كان هناك نيل وشط، وكان هناك بشر وشوارع وقصور ورواكيب، كانت هناك مدن وقرى وصحراء وغابات، وكانت هناك شوارع؛ شوارع تشبه الناس، بأسماء مثل البشر، شوارع دؤوبة وأخرى كسولة، شوارع فارهة، شوارع فقيرة، شوارع ماجنة، شوارع ملتزمة، شوارع ظالمة، شوارع مظلومة، شوارع لصوص، شوارع متشردين، شوارع عشاق، شوارع أحياء، شوارع أسواق، شوارع بأشجار، شوارع قاحلة، شوارع مرضى، شوارع متعلمة، شوارع جاهلة، شوارع عسكر، شوارع مناضلين، شوارع مثقفين، شوارع أموات، شوارع عطالى، شوارع انتظار، شوارع هجرة، شوارع شحاذين، شوارع سجون، شوارع رياضة، شوارع قهاوي، شوارع كجور، شوارع حلاقين، شوارع قذرة، شوارع لا تنتهي، وللشوارع باطن وظاهر!
وكان هناك الإنسان، تجمعوا فسموا بالناس أو البشر، تشرق الشمس فتنفرط الشوارع وتذوب في يومها، لكن كان الإنسان واحداً ومختلفاً ومتشابهاً جداً. وكان هناك ميزان وأرض.
كان ابن أمه غارقاً في صراع لا ينتهي بين رماد أحلامه ورماد واقعه، وهذا أكثر ما يؤلم أمه، إذ كان عليها، ومن المنطقي أن تربي ولداً وبنتاً؛ (أحلام) وأخاها، ولكن لشدة شغفها بأن يكبر ابنها ولشدة ما تزفر به بيوت وعشش تلك البلاد من هموم وآمال وأحلام وجوع وخوف وأمان وطيبة وظلم، (جاطت) عليها الأشياء حد الفوضى حتى لملمته، وهي ريح، وهي عاصفة، وهي غبار، وهي سموم، وهي هبوب، وهي إعصار، فصار (أحلام) و(واقع) ابناً واحداً ضخماً يشبه واحدة من شخصيات الرسوم المتحركة الغريبة، لو رأته الصغيرة لضحكت وقالت: “هذا العملاق إحدى شخصيات غامبول”*.
تغرب الشمس فتهمد الشوارع وتستكين وتطوي ساعتها بصبر، تتلاشى الحركة ويأتي النوم. يخرج ابن أمه من كهفه ويجلس ويمدد جسمه الهلامي، يتفرج على البيوت، تتسامى أبخرة من بيوت البشر، تتسامى أفكارهم وذكرياتهم وبؤسهم، تتسامى همومهم الصلبة الثقيلة إلى بخار بكل الألوان؛ أحمر وأخضر وأسود وأبيض ورمادي، وحتى الألوان المترفة.
قديماً، منذ سنوات كانت تأتي الريح وتلم هذه الألوان، فأنبتت بها ابناً صغيراً كان ينمو بسرعة حتى صار عملاقاً، نهاراً يتبدد في صمت كهفه ويخرج في سكون العتمة ليلاً.
جلس ابن أمه الهلام العملاق يدخن سيجارته وينفخها ويراقب البخار المتسامي من البيوت من داخل الناس وهم ينامون، لم يصرخ، تجشأ، ثم عطس حتى تطايرت المباني كلها هناك، خارج الأرض وعادت لمكانها، والناس في سكينتهم، نومهم، مرضهم، عشقهم، حميميَّتهم، فرحهم، حزنهم، انتظارهم، سكرهم، وصحوهم، والمطارات تضُج بالرحيل.
تأمل ابن أمه جسده وكيف أنه ولد من هذا البخار الملون، أخذ يلعب (تركيب وفك) يركب القصور مع الرواكيب والمدن بالقرى، يلصق الحقول الخضراء على السهول الفارغة، كان يفعل ذلك كأنه يستخدم شاشة لمس، يحدد ويُلغي، يقطع ويلصق، وينقل وينسخ، كأنه يعيد ترتيب ما يراه من عبث وفوضى، أخيراً اكتشف سراً غريباً! وضحك ضحكة تمددت لها البلاد حتى كادت تنقطع، رددها خلفه كورال من صدى.
يضغط بإصبعه على شارع اللصوص؛ يهمد البخار ويتلاشى، يرفع إصبعه عن شارع اللصوص؛ يفور الغبار ويتكثف. أخذ يكرر هذا مثل لعبة مسلية، لكن شارع اللصوص مرن ولزج، وابن أمه كان يتحاشى هذا الشارع ولا يطيقه، فقد كانت أبخرته المتصاعدة تنضح برائحة عطن دميم يزكم أنفه.
رفع العملاق جسراً ضخماً ووضعه تحت رأسه واستلقى، تراقصت على حافة أفكاره مهام كثيرة، يجب – مثلاً – أن يكون له إخوة، يجب أن يخبر أمه أن تأتي بكارثة تزيح كل هذه الأبخرة، يجب أن يلم الشمل، حزن على نفسه حزناً شديداً وهو يبدو كمن يحصد بذقنه. التقط قطعة سحابة بيضاء مثلجة كآيسكريم وأخذ يلعقها حتى يبرد جوفه المحروق، أحس بنعاس لذيذ.
بدأت نقاط مطر تسقط عليه، لم يكن معتاداً على هذا، اندفع مطر غزير نزل على البلاد برداً وسلاماً، وأمه تدندن بنشيد حميم والسحب تلتصق ببعضها وتتفرق مصدرة صوتاً كقرع الطبول، كانت البلاد كأنها في طقس حمام ملوكي.
اغتسلت البلاد، واغتسلت، حتى طهرت.

 

* قاصة من السودان

زر الذهاب إلى الأعلى