ثمار

الخرطوم تتغيَّر

المدينة تغيّرت! طبعاً هي حال العالم؛ يتغيّر، وكما تقول حكمة ماركس إن (الثابت الوحيد في الوجود هو التغيير). لكن، وكما لكل شيءٍ في العالم فرادته، يأخذ تغيير الخرطوم الآن ميزته: التوحّش. لا شكّ أن القرن العشرين أتى بتغييرات كثيرة، منها السطحي ومنها العميق جدّاً، أعني في العالم أجمع. تصاعد الحركات الفنية والأدبية والفكرية، ثورات وتغيّرات في مفاهيم الحكم، العديد من الحقوق تم الاتفاق عليها، ضمنياً، ولعب الواقع دوراً فعّالاً في إجبار بعض الشعوب على القبول بحدٍّ أدنى من الخجل؛ تراجعت التمييزات، وتمجّد الاختلاف قليلاً، وأخذت الحياة بالاتجاه نحو الغموض.
تورط الإنسان، وتوصّل إلى أن البحث عن (حلٍّ نهائي للإنسانيّة) أصبح قريباً من الكوميديا، وأحياناً نستغرب رؤية البشر في تجمعات يهتفون لشعارٍ واحد. لقد تحوّل القرن الحالي إلى آلةِ تقطيعٍ لكل ما كان مُصدّقاً، وتمت خيانة الأفكار بصورةٍ فعَّالة، ومن ثمّ، أصبحت أجساد الثقافات والحضارات والهويّات هشّةً، قابلةً للتغيير.
والخرطوم؟: اليوم ستمرّ من الشارع الفلاني، وغداً ستجد ظلاً جديداً لتجلس تحته وتحتسي قهوةً، ولكن الظل، بالتأكيد، لن يكون ظلاً لشجرة، أو عمود إنارةٍ جديد، ربما برج تجاريّ، أو فندق، أو عمارة استثمارية. قريباً جداً سيكون علينا أن نتطاول في الأطوال لنشاهد النيل، فالكائنات الحديديّة تجرف التراب، وتغيّر وجه الشاطئ.
جمعنا العديد من الإفادات حول هذا الموضوع الشائك، التغيير (المعماري، الاجتماعي، الثقافي) بعيون الأدباء والفنانيين والناس.

إذن، هل بإمكاننا أن نراقب بعض التشابهات العالمية: ما معنى أن تتراجع القراءة في العالم أجمع إلى ما تحت الصفر حتّى تتحوّل العيون البشرية لكرات ثلجية؟ معنى أن يكون وضع الكاتب والمفكّر والفنان هو الأسوأ؟ (طبعاً لا أقصد الكتاب والفنانين الذين ينسابون مع تيار السوق والمطلوب)، ما معنى أن ينتشر عشق كرة القدم (بل الهوس) في كل العالم؟ معنى أن تغتصب الإنترنت والميديا المرئية اليوم الأرضي بشراهة؟ معنى أن تقترب أزياء العالم من التطابق؟ معنى أن تتفق إعلانات الصحف والتلفزيون والراديو على استغلال القيم الإنسانية والأخلاقية الأوسع انتشاراً؟ معنى أن يُطَالب الإعلام بالاتجاه نحو (الخِفّة)؟…الخ.
دعونا الآن من ما يعصف بالعالم، كيف تتعامل مدينتنا الكبيرة، الخرطوم، مع نفسها وتاريخها وهويتها (معماريّاً واجتماعياً وثقافياً)؟ ما الذي افتقدناه في الشكل والمحتوى، ما يؤلم من امّحائه، ما جعلنا نتشابه جداً، ما دفع بنا للتقليد؟ سنستمع لآراء، ونقرأ مقتطفاتٍ من كتبٍ تناولت هذا الموضوع بطرقٍ مختلفة، نحن لسنا وحيدين أمام العصف والتخثّر، والزمن الذي كنا نتحدث فيه عن (خطر، وسلبية، وبؤس) العولمة والتغيير قد انتهى؛ لم تعد هناك تصنيفات (أبيض وأسود)، لم يعد هناك (سالب وموجب)، أصبحت هناك قوى استثمارية ستغير كل شيء وشخص ورائحة ولون. رأينا كيف استفادت دولٌ من ذلك، ولم تقف عاجزةً عن الاحتفاظ بما كوّنها لتطوِّره، بينما نحن ندمّر ونمحو كل شيء فقط لكي نلحق بالركب بطريقةٍ سطحيّة.

أم درمان: عابدين الشوافعة
بعد أن طفنا الأحياء القديمة في أم درمان، في محاولةٍ لالتقاط صورٍ لمنازل وجدران قديمة، ومعالم ربما ستزول قريباً، جدران بيوت (الشهداء) و(المسالمة)، (بيت المال) و(حيّ العرب)، و(البوستة)، لنفاجأ بقرارات الإزالة التي تهدد سوق أم درمان القديم (تحديداً أسواق الزنك العتيقة جداً، عرجنا في طريقنا على دكّان التشكيلي المعروف، عابدين الشوافعة. المحل مشغل وغاليري وذكريات، تجد في رفوفه أعمال الشوافعة الحروفية، وصوراً تجمعه برفاق حياته (التشكيلي إبراهيم الصلحي، والبروفيسور الهادي أحمد الشيخ، والتشكيلي عثمان وقيع الله) متفرقة هنا وهناك. فهو، إضافةً إلى التشكيل، مصوّر قديم جداً، ويصادف هذا العام 2008 ذكرى مرور 50 عاماً على افتتاح أول معرضٍ تشكيليٍّ له. نقرأ معاً إفادته حول أسئلتنا، وبالتأكيد لن تجاري الكتابة متعة الاستماع لقصصه وأسلوبه في الحديث، يقول:
(من الأشياء المؤلمة جداً، أن نشاهد (الطبِّيز) التي تقوم به الحكومة بجديّة وإصرار؛ فلنتحدث عن سور الخليفة، سور أثري، ليس من حقّ أي بشرٍ أو حكومة أن تُحطّم سوراً تاريخياً في العالم سوى في السودان، لا أستطيع أن أتصوّر التجاهل الذي تبديه مؤسسات الآثار في السودان! أين هم وما هي وظيفتهم؟ لا أستطيع أن أفهم هذا: أن يُدهن متحف الخليفة عبد الله التعايشي بالبوماستك! بإمكاننا أن نرممه ولكن يجب أن يحتفظ بحياته القديمة. الآثار لا تُدهن بالبوماستك. هناك ما هو أبشع، يعتقدون أن التجميل هو خلع الطوب والحجارة القديمة من الأرض ويستبدلونها بالسيراميك، كيف نستطيع، بعد كل ما حدث، أن نعيش أجواء تاريخيّةً تُعبِّر عن نفسها بالإمكانيات التي شُيِّدت بها؟
انظر إلى قصر الحمراء في أسبانيا، سيتملكك أحساسٌ بأن البنائين قد خرجوا منه قبل نصف ساعة: ذات المواصفات، حتى النوافذ المُعرّضة للشمس والأمطار محميّةٌ بزجاجٍ عازل لتحتفظ بحياتها، الماء لا يزال يتدفق من نوافير قصر الحمراء. سؤالي هو: كيف تتخذ قرارات (كتحطيم سور الخليفة) في السودان؟ قرارٌ كهذا لا يتمّ إلا بتكوين لجنة من المفكرين والفنانين والمؤرخين، قرارٌ كهذا لا يمكن أن يتّخذه أفندي فقط لأن السلطة بيده. حسنٌ: (السّور ده يكسِّروهو ليه؟ يعني الفايدة شنو من تكسيرو؟). حتّى الخطأ الذي أقدم عليه نميري في عهد مايو كان محزناً جداً. المغرب تحتوي أسواراً تاريخية كثيرة جداً، لأن البلاد بأسرها كانت قلعة، عندما تنتوي الحكومة أن تفتح شارعاً يفتحون بوّابة في السور، ولا يهدمونه! يجب تكوين لجنة قومية متخصصة لاتخاذ قرارات كهذه، لجنة تحتوي على أشخاص بخلفية اجتماعية وفكرية وفنيّة حقيقيّة. بإمكان الحكومة أن تفعل أي شيء للبلاد، ولكنني أرجوها أن تترك الآثار في حالها، فتحطيمها لا يفيد أحداً، لا في الحاضر ولا الماضي ولا المستقبل، لا حق لأحدٍ في هذا.

قُبح التجميل:
غير الآثار، أحياناً تقوم الحكومة بإنشاء وتصميم أشكال في الشوارع والمرافق العامة بنيّة التجميل، ولكن هذه الأشياء تكون قبيحة! إدريس الهادي، الفنان الراحل المعروف، صمم وأنشأ مسلّة قاموا بنقلها من أمام المحافظة، ووضعت في تقاطع شارع الأربعين مع شارع العرضة، عمر المسلة يصل إلى خمسين عاماً، ويمكنك أن تلاحظ: ذلك كان مستوانا في تشكيل الحديد قبل خمسين عاماً، كان إدريس الهادي فناناً عصامياً، بدأ عمله كـ(صنايعي)، وارتقى في الفنون من الأساس. الآن، نجد أنفسنا لا نتقدّم، بل تراجعنا لخمسين عاماً، الأعمال التي تُجمّل بها الشوارع (قبيحة)! وتحديداً في الفترة الأولى لثورة الإنقاذ، كانت هناك هرجلة وفوضى عارمة في هذا الاتجاه، ولأنها أعمال غير مؤسسة ومدروسة انتهت وزالت، لقد كانت مؤذية للبصر. لسنا ضد التغيير والتحديث، إن كانوا يريدون تجميل العاصمة، هناك أهل لهذا الغرض.
أنا ضدّ كل الأشياء غير المدروسة؛ ما قام به الوزير يوسف عبد الفتّاح على شاطئ النيل، وقريباً من مقرن النيلين، رغم نيّته بالتجميل، إلا أنه لم يُوفَّق أبداً، لقد حجب النيل من الشعب السوداني كلّه لأجل أن يتوفّر مكان يلتقي فيه القليل من الناس ليشربوا البيبسي! حجب منظراً مهمّاً غير مكرّرٍ في العالم، ملتقى النيلين.
منظر النيل يشبه كثيراً حقنة البنسلين، منظر الماء والخضرة، تهدئة أعصاب الإنسان، منذ متى يجري هذا النهر هنا؟ منذ أجيالٍ، أزلٍ. والله هنا، ومثلما قال التجاني يوسف بشير: (أنتَ يا نيلُ يا سليل الفراديس، عفّروا نظرةَ الجباهِ ببرَّاقٍ) انظر لهذه اللوحة: اذهب إلى شاطئ أبروف، سترى شخصاً يصلي، وبعد انتهائه تلمع ذرات رمل الشاطئ على الجباه، سترى ذرّات تلمع. ينظر للنيل يعبد الله، النيل هو الحياة. جبهتك تُشعّ، فما بالك بالمياه تجري داخل مجرى النيل. لدينا كل أنواع الفنانين في السودان، مزارعين ونحّاتين وتشكيليين ومهندسين، لماذا لا تلجأ إليهم الحكومة؟

كيف يكون التحديث:
يمكنني أن أتحدث قليلاً عن رؤيتي للتحديث، وكيف يمكن أن يكون، بصورة مدروسة ومُخطط لها. قمت، مثلاً، بإعداد تصاميم لمطعم داخل الماء، داخل خور أبو عنجة: أن يغلق الخور من أطرافه، وتُنصب مضخات مياه، تدفع الماء من النيل إلى داخل الخور، فيكون مليئاً بالمياه طوال العام. الآن قاموا بتحديده بصورة جميلة، يمكن أن تتم العملية بصورة أفضل. أن تربّى أسماكٌ في بحيرة الخور، و(وِزِّين) ونباتات مائية. تُنصب أعمدةٌ في وسط البحيرة، ونصنع (كرنك) ضخماً جداً من المواد المحليّة أعلى صبّة الخرسانة، بالقش والقرع والبنابر، يمكن أن يكون مطعماً شعبياً عامّاً، يمكن أن يحوي مكاناً لإقامة الأعراس والحفلات، يمكن أن تُنصب أكشاكٌ في أطرافه للمشروبات والوجبات السريعة وبأسعار معقولة، تنظيم أماكن للنساء لبيع الشاي والقهوة. يمكن أن تزرع أحواض زهور مع الوزين، فُلكّات ومراكب صغيرة للأطفال. وفي وسط الكرنك فتحة كبيرة مسوّرة لإلقاء بقايا الطعام للوزّين والبجع والأسماك، وستكون الطيور مع الناس في وسط المطعم.
الحدائق أصبحت لقلة من البشر، الآن أصبحت الحدائق في الخرطوم بكازينوهات مصممة بطريقة رفيعة وغالية ومكلّفة، وأغلقت. بينما بعض الحدائق، كحدائق مايو، تجد أن أعداد الأكشاك أكثر من الرواد! ما علاقة ذلك بالجمال وفكرة (الحديقة)؟ منطقة المقرن، المليئة بالخرسانات الآن، ستتحوّل إلى مكانٍ مشوّه، وقبيح، وسيتمتع بالنيل قلّة من البشر المقتدرين على تأجير شقق ومكاتب في الأبراج. المقرن ليس ملكاً لأحد، ويجب أن يكون منطقةً سياحيّة عامّة.
إن موقع جزيرة توتي والظروف الطبيعية المحيطة بها لا يمكن أن يتكرر بسهولة في السودان والعالم، جزيرة في النيل، جزيرة تحتويها ثلاثة أنهار، من الممكن أن يتم تعويض سكّانها تعويضاً خرافيّاً، وأن ينقلوا لمناطق أخرى بخدمات سكنية جيّدة، فهم الآن أغلبهم يسكنون في بيوتٍ دون المستوى الآدمي، وإمكانياتهم بسيطة، فبإمكان هذه الجزيرة أن تنعش الاقتصاد السوداني وتدر أموالاً أكثر بكثير من البترول الذي يتقاتلون حوله الآن. تخيّل الجزيرة بمطاعم صغيرة وبسيطة، فنادق بتصاميم راقية وبسيطة أيضاً، شاليهات ومراكب وميادين رياضة وسباحة ومسارح وسينما ومكتبات، مراكز ثقافية وسياحيّة، حديقة حيوان.
السودان قلب أفريقيا ليست فيه حديقة للحيوانات، أن تحرم الشعب السوداني كله من حديقة الحيوانات لتنشئ فندقاً وبرجاً (يقصد برج الفاتح)، ألم يجد القذافي والحكومة مكاناً غير ذلك الموقع؟ لا يمن أن تُلغي علاقة الإنسان والحيوان، فهما مرتبطان كأبناء العم، والفكاك بينهما صعب، لو لا الحيوان ما كان الإنسان والعكس، هما مرتبطان كالزوج والزوجة.
إنهم لا يبصرون، أعني من يتخذون قراراتٍ كهذه، وهي قرارات ذات اعتبارات سياسية في الأساس، كيف نستطيع أن نتخيّل المستقبل بهذه الحال؟ لقد هجمت علينا هذه المادّة الكريهة، البترول، صحيح أنه يساعد في التنمية وإنعاش الاقتصاد، ولكن ضريبته عالية القيمة جدّاً، لن نجد من يصنع (العناقريب) في السودان بعد قليل، سينقرضون، ستأتينا بنابر وعناقريب صينيّة، وستُغلق ورش الفنانين والترزيّة، (تعرفون أن الجلاليب والملابس الداخلية والطواقي قد أصبحت صينيّة وسعودية بالفعل). هل لاخظتم اختفاء طواقي المنسج؟ إبرة اللولي و(الطاقية مشنَّقة). الآن تأتي الطواقي من الصين، ودعني أقول لك: إنها جميلة جداً وجذّابة.

المال: فرَّاق الحبايب
هناك هجمة، ولنكن واقعيين، البترول سيغيّرنا من Y إلى Z. انقالابات مفاهيمية، وعلاقاتنا ستتغيّر، كل ما مضى سيمحى (بالإستيكة)، و(القرش لمن يجي بيفرّق الحبايب زي امتحان الحساب)! كثرة الأموال تُجنّن، وقلّتها تجنن أيضاً. لست داعيةً للتخلف، ولكن التطوّر مع الاحتفاظ بالسمات ليس تخلّفاً، السمات السودانية ليست موجودة في شعوب العالم، نحن لا نشبه العرب ولا الأفارقة، وما لدينا جميل، ومختلف. بدأت الأشياء تتحرّك، والمفاهيم تتقلّب، والصورة أقرب لدعاية التلفزيون: الدقيقة بسعرها، يجب أن تكون سريعةً ومختصرة لكي لا تخسر أموالاً أكثر! عندما أزور الخرطوم أحسّ بأنني غريب، كأنني في جدّة أو الرياض، الخرطوم تغيّرت، أما أم درمان فحركتها بطيئة، الأموال في الخرطوم، وحركة التطور في أم درمان لا تزال عرجاء، حتى على مستوى الإعلانات!
لا مفرّ من التغيير، إنه يشمل كل شيءٍ في الحياة، جزء من طبيعة العالم، ولست ضدّه بأي حال، ولكن الذي يحدث لدينا مختلفٌ كليّاً عن ما يحدث في بقيّة العالم، أعني كيف نتعامل مع هذا التغيير السريع الذي يسم عصرنا! أنا مع كل ما هو مدروس، بالاستشارة وتبادل الرأي مع ذوي الشأن. لقد زرت مدناً كثيرةً في العالم، وطفت كثيراً، من أجمل المدن التي زرتها كانت بغداد، فهي لا تزال، رغم تطورها، محتفظةً بسماتها العربية، حتّى عندما تُهدم منها أشياء (لاحظ أن ذلك في عهد صدام حسين)، يُعاد بناؤها بصورة حديثة وجميلة، بذات الأسلوب المعماري وليد البيئة. وأقبح ما رأيت من المدن كانت المدن الخليجيّة، مبانٍ لا تشبه ساكنيها ولا بيئتها، قبيحة، إنهم يملكون أموالاً لا يعرفون أين يذهبون بها. في الخرطوم، إن توافرت كل هذه الأموال التي تُبنى بها الأبراج وتخطم بها الآثار، من الأفضل أن تذهب للأقاليم الثائرة الآن، أن يشيّدوا لهم المدارس والمستشفيات ومشاريع زراعية لنوقف سفك الدماء. هذه الحروب تحصد البني آدم، ورأسمالنا هو الإنسان، والخسارة ليست لطرفٍ واحد، كلّ إنسانٍ يموت خسارة للبلاد، من كل الأطراف خسارة، وتدفع الثمن جميعاً).
انتهت إفادة عابدين الشوافعة.

أثينا الخرطومية:
قطرات الماء، في السابعة والنصف صباحاً، لها وجهٌ آخر على أرضية مقهى أتينيه البارز، كفمٍ جائعٍ وقديم، من جدران أقدم المباني الخرطومية: عمارات أبو العلا. مخترقةً بالأشجار الصغيرة،صامدةً بها ولها. أول ما تكشَّف معنى اسمها أمامي، كنت أحدِّق في اليافطة القديمة الملوّنة بعلامة بيبسي التجارية قبل التحديث، وأمامي فتاةٌ روسية تكتب مقالةً عن المكان بعنوان (مقهى أتينيه: شعراء ومجنون)، وتسألني عن معنى الاسم، أجابها الخال عبد الماجد، رفيق الخال عمر في إدارة المحل: إنه يعني (أثينا). كانت أتينيه ملكاً لليونانيين، أصبحت منبوذة الآن من قِبَلِ روادها لسهولة وخفّة انتشار الرأي الشفهي، أو بالأصح، عندما يصبح الرأي شائعاً هنا، يكون الخارج عنه قد حكم على نفسه بالغرق في سلبية الرأي الشائع حتى أذنيه. قطرات الماء على أرضيتها، في السابعة والنصف صباحاً، وأقدامي مرفوعةٌ عن الأرض بدرجاتٍ واهياتٍ للسماح بمرور مياه التنظيف الصباحيّ، مع صوت خطوات الماء: (تسطع ابتسامة “جمعة”، والشقوق على الجدران من خلفه تصرخُ أكثر، تخضرّ النباتات الخارقة الأسمنت، وطائرٌ يتلفَّت).
التحوّلات التي مرّ بها المكان، قبل الاستقلال وحتى الآن، النقاشات السياسية وتكوّن الآراء، الشعر الذي احتلّ بجسده الحبري زوايا كثيرة، اللوحات التشكيلية التي عرضت على مساطب الأسمنت، النغمات المنطلقة من جيتارٍ يتمرّن صاحبه بعد أن خرج من درسه الموسيقي، أجيال الكتاب الذين احتموا من فقرهم بالمقاعد الصغيرة للمقهى؛ لن يتم استجوابك عن سبب وجودك دون أن تشتري شيئاً، لن ينظر لك عاملٌ من عمالها كشخصٍ يحتلّ مكان (زبونٍ) مجهول، أنت سيّد ولا مكان للصراع من أجل الأرزاق.

الأتراك الذين لم يعودوا يريدون البقاء أتراكاً:
لفت الروائي الحائز على جائزة نوبل، أورهان باموق، نظر العالم لمدينة إسطنبول، التي تبدو وكأنها ملكٌ خاصٌّ به وحده، استفرد بجسد المدينة؛ بوجوه سكّانها؛ بأحلامهم وكوابيسهم؛ بالطاقة الكامنة في الجدران المهدمة؛ النظرات الخاطفة الموجّهة للحياة من خلف جليدٍ يتساقط، استفرد بها وشرّح قلبها بأدواتٍ مظلمةٍ وعميقةٍ، يدخل من بوّابة السياسة ويخرج حزيناً إلى بوّابة الغموض والأسرار التي تحيط بالعالم؛ بوّابة العالم الآخر.
انتبه باموق إلى أن التغيير، المكتسح لمدينته وبلده، زئبقيٌّ ونسبيٌّ بحيث يصعب القبض على جوهره باستخدام الأدوات المعروفة والمعتادة ذات الوجهين: أبيض وأسود، سالب وموجب. انتبه أورهان للوضع الفكري والفلسفي الذي تمثّله تركيا بموقعها الجغرافي والتاريخي، ومقدرة هذا الوضع على التعبير عن قضايا وهواجس وكوابيس بشرية عدة، والعملية المسماة (الإمساك بخيوط هذا الوضع) كانت معتمدةً بصورةٍ كبيرة على التغيير في (الكتاب الأسود) روايته الأكثر انتشاراً. منذ التغيير في الحياة اليومية، وفي (المواقف)، وصولاً إلى الأحداث الغريبة التي تُصاب بها شخصياته المؤثرة في القصص المتناثرة بجوف الكتاب؛ الأحداث التي تُخرج الإنسان من هذا العالم، بكل محدداته وعقلانيّته ووضوحه، لتدخله عالماً غامضاً، بلا حدود، عالم مرعب يدفع بالإنسان لمحاولة البحث عن مخرجٍ سريع من هذه الورطة الشائقة. القصة بعنوان (أولاد المعلّم بديع) وجلال هذا، كاتب، يكتب زاويةً يوميّةً في إحدى الصحف اليومية، أما المقالات التي يكتبها فغالباً ما تثير صخباً في جميع أنحاء تركيا، وربما الشرق الأوسط كلّه، فالجميع ينتظرون جلالاً كلّ صباحٍ في المكتبات، كما أن قارئ رواية (الكتاب الأسود) سينتظر مقالة جلال المقبلة بين كلّ فصلٍ وآخر.
سنتغوّل على رواية (الكتاب الأسود)، ونعتبر القصة التي كتبها (جلال)، إحدى شخصيات الكتاب المحوريّة، إفادةً في باب (تغيير المُدن)، وهذه الإفادة، لغرابة الزاوية التي كشف بها أورهان التغيير، ستكون إضاءة مفيدة لما يمكن أن يحمله تغيير الخرطوم من معانٍ وأفكار. ومن ناحيةٍ أخرى، ستكون فرصة للاستمتاع بهذه القطعة الأدبية النّادرة.

أولاد المعلم بديع
 (الزمان تأوهات داخلية ترجف الجو الخارجي) دانتي.
منذ بدأنا بطرح مشكلات أُناسنا من الشرائح والطبقات والأنواع كلّها عَبْر أعمدتنا بشكلٍ مباشر، ونحن نتلقّى من قرائنا رسائل غريبة. بعضُ قرّائنا الذين رأوا في النهايةِ أنهم يستطيعون التعبير عن واقعهم يهرعون إلينا دون إبداء الصبر للكتابة، قادمين إلى المطبعة، ويحكون لنا حكاياتهم التي تقطر دماً. وبعضهم، حين يرون أننا نُبدِي شكّاً بأحداثٍ غير معقولة وتفاصيل مخيفة رووها، يأخذوننا من خلف مكاتبنا ويسحبوننا إلى ظلمات مجتمعنا، المفعمة بالأسرار والطين، التي لم يهتم بها أو يكتبها أحد من قبل لإثبات صحة حكاياتهم وما يعيشونه. وهكذا عَلِمْنا بالتاريخ المخيف لدُمَى عروض الأزياء في تركيا المدفوع تحت الأرض.
دعوا جانباً تفصيلاً صغيراً، مثل خيال المآتة الفولكلورية التي تفوح منها رائحة القرية وروث الحيوانات، فإن المهنة المدعوة (صناعة دُمَى عروض الأزياء) لم يعلم بها مجتمعنا عبر قرون. أول من بدأ هذا العمل هو (المعلم بديع) الذي حَضَّر أولى الدُمَى اللازمة للمتحف البحريّ الذي افتُتِحَ نتيجةَ اهتمام الشيخ زادة* عثمان جلال الدين أفندي في عهد عبد الحميد وبأمره، وغدا هذا المعلم جِنيُّ هذه المهنة. والمعلم بديع أيضاً هو الذي صنع التاريخ السريّ لصناعة الدمى؛ هو الذي وضع دُمَى ضباطنا البحريين، وشُهُومنا الميامين بشنباتهم المعقوفة إلى أعلى وهيبتهم، أولئك الذين حَرَّموا البحر المتوسط على البحارة الطليان والأسبان قبل ثلاثمائة عام بين سفن السلطنة ومراكبها، وحين رآها زوار المتحف الأوائل تجمَّدوا من الدهشة بحسب روايات شهود العيان.
استخدم المعلم بديع في إبداعاته الأولى تلك مواد مثل الخشب والجص وشمع العسل وجلود الغزلان والجِمال والأغنام وشعر رأس ولحية الإنسان، غَضِبَ شيخ الإسلام، ضيِّق الرؤية، إزاء تلك الإبداعات الإعجازية التي حققها الفنان الكبير بنجاح: لأنه رأى أن تقليد مخلوقات الله بهذا الكمال نوعاً من التحدّي لله، فقد رفعت الدمى من المتحف، ووضع بين السفن خيالات المآتة.
ذهنية المنع هذه، التي رأينا آلاف المحاولات لها في مواجهة أمثلة التغريب غير المكتمل في تاريخنا، لم تستطع إخماد (لهب الفن) المتأجِّج داخل المعلم بديع. وكان يصنع دمى جديدة في بيته من جهة، ويحاول أن يتفاهم مع المسؤولين من أجل إدخال أعماله التي يدعوها (أولاده) إلى المتحف مجدداً، أو عرضها في مكانٍ آخر من جهةٍ أخرى. وحين تعرَّض للفشل قاطع المسؤولين والدولة، ولم يقاطع فنّه الجديد. استمر بإنتاج الدمى في قبو بيته الذي حوَّله إلى ورشة عملٍ صغيرة. في ما بعد انتقل من إسطنبول القديمة إلى بيت في (غلاطة)، أي في الجانب الإفرنجي، للحذر من اتهامات الجيران بالسحر والانحراف والزندقة من جهةٍ، ولأن (أولاده) المزدحمين باستمرار لم يعد يتسع لهم بيت مسلم متواضع.
مع استمراره بالعمل الدقيق والمتفاني في هذا البيت العجيب الموجود في حي (قوله ديب) الذي أخذني إليه زواري، علَّم ابنه هذه المهنة بعد أن بدأ بتعلّمها وحده. وبعد عملٍ استمر حوالي عشرين سنة، ووسط موجة التغريب الجيّاشة في سنوات الجمهورية الأولى وخلع السادة الطرابيش عن رؤوسهم ووضع القبعات (البنمية) مكانها، ورميُ السيدات أغطيتهن ولبس تلك الأحذية عالية الكعب في أقدامهن، وبالتزامن مع هذا بُدِئ بوضع دمى عرض الأزياء في واجهات دكاكين الألبسة الشهيرة في شارع (بيه أوغلو)، وحين رأى المعلّم بديع تلك الدمَى المجلوبة من الخارج، اعتقد أن يوم النصر الذي طالما انتظره قد جاء، فقفز من ورشته القائمة تحت الأرض إلى ذلك الشارع. ولكن شارع اللّهو والتسوق الاستعراضي المُسَمَّى (بيه أوغلو) قابَلَهُ بإحباطٍ شديدٍ دفعه مجدداً إلى ورشته تحت الأرض حتّى الموت.
ردَّه كلّ من جلب له نماذجه كي يراها، أو أخذه إلى ورشته، من أصحاب (بون مارشيه) وباعة الألبسة الجاهزة وأصحاب الواجهات التي تحوي بزات وتنانير ولباساً كاملاً وجوارب ومعاطف وقبعات. قيل له إن الدمَى التي صنعها وطُرُز الألبسة التي أنتجها لا تشبه تلك التي في الدول الغربية وهي تشبه إنساننا. وقال أحد أصحاب الدكاكين (الزبون لا يريد شراء المعطف الذي يرتديه المواطن الجافّ المعوجّ الساقين ذو الشنب الذي يَرَى يومياً عشرات الآلاف منه، بل يريد ارتداء سترة إنسان (جميل) وجديد قادم من ديارٍ مجهولة كي يؤمن بأنه تغيَّر بتلك السترة). أحد الناضجين بأعمال الواجهات، بعد أن قابل أعمال المعلم بديع بالإعجاب الشديد، صرَّح له بأنه لن يستطيع وضع هؤلاء الأتراك الحقيقيين والمواطنين الحقيقيين في واجهاته مقابل حتى ثمن لقمة عيش: “لأن الأتراك لم يعودوا يريدون البقاء أتراكاً، بل يريدون أن يصبحوا أُنَاساً آخرين”. لهذا السبب ابتدعوا ثورة اللباس والهندام وحلقوا ذقونهم وغيّروا لغتهم وحروفهم.. صرَّح صاحب دكان يحب الكلام الوجيز بأن الزبائن في الحقيقة لا يشترون الألبسة بل يشترون خيالاً. ما أرادوا شراءه في الحقيقة هو أن يكونوا مثل (الآخرين) الذين يرتدون تلك الألبسة.
لم يُجَرِّب المعلم بديع، حتى مجرّد التجريب،صنع دمى مناسبة لهذا الخيال الجديد. كان منتبهاً إلى أنه لن يستطيع منافسة تلك الدمى المتغيّرة دائماً وقفاتها العجيبة وابتساماتها الشبيهة بابتسامات معجون الأسنان، وهكذا عاد إلى خيالاته الحقيقية التي تركها في ظلمات ورشته الخاصة. في خمسةٍ وعشرين عاماً حتى وفاته اكتسى عظم خيالاته المخيفة والمحلية لحماً، وصَنَع ما يزيد عن مئة وخمسين دمية كلها عبارة عن روائع فنية. ابنه الذي جاء إلى جريدتنا واصطحبني إلى ورشة أبيه التي تحت الأرض أراني تلك الدمى واحدة واحدة. وكان يقول لي إنه في داخل هذه الأعمال المدهشة يُدفَنُ (جوهرنا) الذي يجعلنا (نحن).
صعدنا طريقاً طينياً في (قوله ديب) ودرجاً معوجاً، وعبرنا رصيفاً نازلين إلى الزقاق وكنا في قبو البيت. كان مليئاً تماماً بتلك الدمى ذات الحياة المتجمّدة وكأنها تتململ حولنا تريد فعل شيءٍ من أجل أن تعيش. ثمة مئات العيون والوجوه المحمَّلة بالمعاني وسط الظلال تتبادل النظر في ما بينها وتتطلع إلينا؛ بعضها جالسٌ وبعضها يحكي عن بعض الأمور وقسمٌ منها يتضرّع بالدعاء. أما بعضها الآخر فكأنها تتحدى الحياة التي في الخارج (بوجودية) بَدَتْ لي في تلك اللحظة غير محتملة، كل شيء شاخص أمام الجميع بوضوح: في تلك الدمى حيويّة لو وضعت في زحام جسر (غلاطة) وليس في واجهات (البيه أوغلو) أو (محمود باشا) لما شعرنا بها. على بشرة الدمى المزدحمة والكثيفة والمتململة ثمة ضوءٌ يتدفَّقُ بالحياة. سُحِرْت، أتذكّر أنني اقتربت من إحدى الدمى متوجساً تواقاً عاملاً على الاستفادة من حيويتها والوصول إلى الحقيقة في هذه الدنيا وسرها. وأردت الوصول إلى ذلك الشيء (عمٌّ مسنٌّ دَفَنَ نفسه بهمِّه الذاتي باعتباره مواطناً) ولمسته. البشرة القاسية كانت مخيفة وباردة مثل الغرفة.
قال ابن صانع الدمى مباهياً (كان والدي يقول بأنه علينا قبل كل شيء أن ننتبه إلى الحركات التي تجعلنا نحن). بعد ساعات طويلة ومتعبة من العمل كان يخرج الولد وأبوه من ظلمات (قوله ديب) إلى سطح الأرض، ويجلسان إلى إحدى طاولات مقهى قوَّادي (بيه أوغلو) في (تقسيم) المطلّة على أحد ا لمناظر، ويطلبان الشاي ويتطلعان إلى (مواقف) الناس الذين في الساحة. كان أبوه في تلك السنوات يتفهَّم أن أحداً ما يستطيع تغيير (طراز حياته) وتاريخه وتقنياته وثقافته وفنه وأدبه، ولكنه لا يضع بحسبانه، ولو احتمالاً، أنه يمكن أن يغير (مواقفه). وبينما كان يشرح الابن لي هذه التفاصيل في وقفة سائقٍ يُشعِلُ سيجارته، وطريقة مباعدة فتوة من فتوات (البيه أوغلو) ذراعيه ولماذا وكيف يسير جانبياً مثل السرطان، ويَلْفِتُ نظري إلى ذقن أجير بائع الحمص المحمّص الضاحك فاتحاً فمه إلى أقصى حدٍّ مثلنا، ويحكي لي عن معنى التوجّس في نظرة المرأة التي تسير وحدها في الشارع حاملةً شبكة خضارٍ بيدها وهي تتطلع أمامها، وعن مواطنينا الذين ينظرون إلى الأرض دائماً في المدن، وإلى السماء دائماً في الحقول، من يعلم كم مرة لَفَتَ انتباهي مجدداً إلى مواقف تلك الدمى كلها المنتظرة حلول ساعة اللانهاية التي ستحركها، وإلى ذلك الشيء المأخوذ (منا) في مواقفها، فوق هذا يمكنكم إدراك أن تلك الإبداعات الرائعة لديها إمكانية ارتداء ألبسةٍ جميلةٍ وعرضها.
من جهة أخرى في هذه الدمى وهذه الإبداعات المسكينة ثمة أمر كذاك الذي يدفع الإنسان إلى الخارج نحو الضوء. كيف أُعبِّر عنه؟ كأنه جانبٌ مظلمٌ لنوع من الرعب والتوجّس والألم. حين قال الابن (في ما بعد لم يعد أبي يراقب الحركات اليومية)، أعتقدُ أنه شَعَرَ بذلك الأمر المخيف. بدأ الأب والابن تدريجياً بفهم أن تلك الحركات اليومية كلها التي سمّيتها (مواقف)؛ وهي ممتدةٌ من مسح الأنف إلى إطلاق القهقهة، ومن النظرة المتحدية إلى المسير، ومن المصافحة إلى فتح الزجاجة؛ بدَأَت تتغيّر وفَقَدَت صفاءها. وبينما كانا يتفرّجان على الزحام من مقهى القوادين لم يستطيعا معرفة النموذج الذي يقلده أو يتخذه مثالاً الإنسان الذي في الشارع، الذي لم يكن يرى من يقلّده غير ذاته وأمثاله. حركات الجسد الصغيرة التي تُنَفَّذ في الحياة اليومية، والمسماة (مواقف) وهي (أهم خزائن إنساننا)، بَدَأَت تتغير تدريجياً وبشكلٍ متناغمٍ بقيادة قائدٍ (غير مرئيّ)، وتأخذ مكانها حركات جديدة لا أحد يعرف من أين تؤخذ. في ما بعد حين كان الأب يعمل على مجموعةٍ من دمى الأطفال فهم كل شيء. صرخ الابن قائلاً (إنه بسبب تلك الأفلام الملعونة).
بسبب تلك الأفلام الملعونة المجلوبة من الغرب في عُلَب، والمعروضة في دور السينما لساعات، بدأ إنساننا في الشوارع بفقدان صفاء مواقفه، وبسرعةٍ لم ينتبه إليها تَرَكَ إنساننا حركاته جانباً، وبدأ يفضّل حركات أناس آخرين، ويقلدها. من أجل أن يريني أن أباه على حق بغضبه من هذه الحركات الجديدة والمصطنعة والمواقف غير المفهومة، صبَّ الابن تفاصيل كثيرة لا أريد أن أطيل الكلام بها: القهقهات كلّها، ومن طريقة فتح النافذة إلى صفق الباب بقوة، ومن الإمساك بفنجان الشاي حتى ارتداء السترة، من المواقف المُتَعَلَّمة والحركات المؤداة في غير مكانها المأخوذة عن الأفلام، إضافة إلى طريقة هزّ الرأس ونحنحات الأكابر ولحظات الغضب والغمز واللكم والنظرات المحملقة، تلك العيون وتلك الأكابرية أو القسوة التي قتلت طفولتنا الفظّة. لم يعد أبوه يستطيع حتّى مجرد إلقاء نظرةٍ إلى تلك الحركات الهجينة، ولخشيته من التأثر بهذه الحركات الجديدة ومفتعلة التركيب وتخريب صفاء (أولاده) قرر ألا يخرج عن مشغله: عندما أغلَقَ على نفسه المخزن أعلن أنه أساساً عرف ومنذ زمن بعيد (جوهر السر والمعنى) الذي يجب أن يُعْرَف.
بينما كنتُ أنظر إلى الأعمال التي نفّذها المعلم بديع، في الخمس عشرة سنة الأخيرة من عمره، شعرت بدهشة (الطفل الوحشيّ) الذي عَرِفَ هويته الحقيقية بعد سنوات طويلة بمعرفتي معنى هذا الجوهر غير المحدد: بين هذه الدمى التي تُجَسِّد هذا العمّ وهذه الخالة وهذا الصديق والقريب وأحد المعارف والبقال والعامل، التي تنظر إليَّ، وتتقدّم نحو حياتي وتمثّلني، كانت هناك دمى تشبهني حتى إنني كنت موجوداً وسط ذلك الظلام البائس والساحق. دمى المواطنين المغطّى أغلبها بغبارٍ رصاصيّ (بينها قَتَلَة البيه أوغلو المأجورون، وفتيات يخطن، والثري الشهير جودت بيك، والموسوعي السيد صلاح الدين، إطفائيون أقزام لا شبيه لهم، مسنون متسولون، نساء حاملات) وظلالها المخيفة التي تُبَالِغ بها المصابيح الشاحبة ذكّرتني بآلهةٍ تتعذب لفقدانها صفائها، أو بمعذّبين يفنون أنفسهم لعدم استطاعتهم أن يكونوا مكان الآخرين، وبيائسين يقتلون بعضهم بعضاً لعدم استطاعتهم ممارسة الحب. وهي مثلي ومثلنا، كأنها اكتشفت ذات يومٍ معنى الوجود الغائم الذي سقطت فيه بالمصادفة، ولكنه بَقِيَ بعيداً بعد الجنة، وفي ما بعد نسيت هذا المعنى السحريّ. كنا نتألم من أجل هذه الذكرى، انكسر ظهرنا ولكننا على الرغم من هذا نصرّ على البقاء كأنفسنا نحن. في الحقيقة إن شعور الحزن والهزيمة المتغلغل في مواقفنا، والأشياء التي تجعلنا (نحن)، وطريقة مسح أنوفنا وحكّ رؤوسنا وخطو خطواتنا ونظراتنا هي عِقابٌ لمقاومتنا في سبيل البقاء على ما نحن. وبينما كان ابن المعلم بديع يحكي عن أبيه قائلاً: (آمن أبي دائماً بأنه سيضع دُمَاه في واجهة دكانه الخاص. لم يقطع أمله أبداً بأن إنساننا سيغدو سعيداً إلى حدّ عدم تقليده أحد ذات يوم). كنت أعتقد أن هذه الدمى تريد أن تخرج معي إلى سطح الأرض من هذا المستودع المغلق والعفن، وتنظر تحت الشمس إلى الآخرين وتقلّد الآخرين، وتعمل على الكينونة كالآخرين والعيش بسعادةٍ مثلنا، وبذل كل ما يمكنها في هذا السبيل.
عَلِمتُ في ما بعد أن هذه الإرادة تحققت. صاحب أحد الدكاكين المهتم بالتحف اشترى قطعة أو اثنتين من (البضاعة) التي في المشغل ولعله أقدم على هذا لمعرفته أنه سيأخذها بسعرٍ رخيص، ولكنها كانت بمواقفها وحركاتها تشبه الزبائن الذين على الطرف الآخر من الرصيف والزحام المتدفق هناك، وهي مألوفةٌ وواقعيةٌ تبدو وكأنها (منّا)، مما جعلها لا تلفت نظر أحد. إثر هذا جعلها صاحب الدكان الشحيح قطعةً قطعةً بوساطة منشاره. حين فقدت التكامل الذي يمنح مواقفها معنىً، غَدَت الأذرع والسيقان والأقدام في الواجهات الصغيرة للدكاكين الصغيرة تُستَعملُ منذ سنواتٍ طويلة لعرض المظلات والقفازات والأحذية لزحام (البيه أوغلو).
(انتهى الاقتباس من أورهان باموق).

نسيانٌ أخَّاذٌ وقاتل:
أن ينسى شعبٌ بأكمله، أشخاصٌ مجهولون، حركاتٌ مجهولة لا يُعرف منبعها الأصلي، ولكن باموق يمسك بلحظة انفلاتها من ذاكرة ذات البشر. لكن المؤلم أنه، وفي النهاية، يُترك البعض في منتصف الطريق، مذهولون يحدّقون في ظهور الجموع، القافلة الذاهبة باتّجاهٍ مجهول. نعم، إن المخيف في عالم اليوم أنه كشف حقيقةً قديمةً جداً عن العالم عموماً، ليس عالم اليوم ولا الأمس ولا المستقبل، بل العالم ككتلة مُصمتة مجرّدة، الكرة الأرضية وما يتعدّاها من خيالاتٍ حول النجوم والأقمار والكون والكواكب. الحقيقة القائلة بأن العالم غامض، وغير مفسّرٍ أبداً، سقوط هذه الحقيقة/الصخرة على الواقع فجأةً، بكل قسوتها وخشونتها وقبحها ورعبها، جعل الجميع، بعد الفزع الأوَّلي، يتجاهلونها ويسيرون في الطريق الذي لا يؤدي إليها، بينما هي تحيط بكل شيء، يسيرون في الاتجاه الذي لاحظه المعلّم بديع، ولكنه يجهل نهايته، وقرر، بغتةً، أن يجمّد اللحظة السابقة لهذا الهروب الجماعي في قبوٍ مظلمٍ مليءٍ بـ(تلك الدمى ذات الحياة المتجمّدة وكأنها تتململ حولنا تريد فعل شيءٍ من أجل أن تعيش. ثمة مئات العيون والوجوه المحمَّلة بالمعاني وسط الظلال تتبادل النظر فيما بينها وتتطلع إلينا؛ بعضها جالسٌ وبعضها يحكي عن بعض الأمور وقسمٌ منها يتضرّع بالدعاء. أما بعضها الآخر فكأنها تتحدى الحياة التي في الخارج (بوجودية) بَدَتْ لي في تلك اللحظة غير محتملة، كل شيء شاخص أمام الجميع بوضوح: في تلك الدمى حيويّة لو وضعت في زحام جسر (غلاطة) وليس في واجهات (البيه أوغلو) أو (محمود باشا) لما شعرنا بها. على بشرة الدمى المزدحمة والكثيفة والمتململة ثمة ضوءٌ يتدفَّقُ بالحياة. سُحِرْت، أتذكّر أنني اقتربت من إحدى الدمى متوجساً تواقاً عاملاً على الاستفادة من حيويتها والوصول إلى الحقيقة في هذه الدنيا وسرها. وأردت الوصول إلى ذلك الشيء (عمٌّ مسنٌّ دَفَنَ نفسه بهمِّه الذاتي باعتباره مواطناً) ولمسته. البشرة القاسية كانت مخيفة وباردة مثل الغرفة).
ومن ثمّ، أفكِّر، أن تركيا متقدّمةٌ في (النسيان والفقد) أكثر منّا، أفكّر أننا نجلس في بيوتنا المُغلقة نشاهد التلفزيون وننتبه لغناءِ طفلةٍ صغيرةٍ في البيت فنكتشف أنها تترنّم، عن ظهر قلبٍ، بأغنيةٍ مصريّةٍ سطحيةٍ ولكنها ذات موسيقى متقنة وجذّابة، ننتبه إلى سريان عمرٍ طويلٍ أمام الانترنت وأجهزة الكمبيوتر والأفلام والمسلسلات الأمريكية المُتقنة أيضاً، والسطحية جداً، الجذّابة. وقاحة (التشويق) هي العامل الأساسي المشترك؛ لقد أبدع العالم، واستخدم الفنون، بطريقةٍ خسيسة، في طرح الشخصية الكونية القادمة، التي يجب أن يتطابق معها البشر في جميع أنحاء الأرض، واستخدمت التشويق والإثارة.
اندفعت إلى الشارع، ركبت المواصلات، يوماً ما، ونسيت نفسي هناك، داخل صخب المحرّكات، وفرقعات الكماسرة، والتنفّس غير الملحوظ لأجسادٍ معروقةٍ ساهية، ولم أسأل إلى أين أتّجه، لم أقاوم متعة النزول والركوب من حافلةٍ لأخرى بلا اتجاه، يسقط بصري على صفحة كتاب، ويرتفع ليُصدم بوجهٍ منسيّ: حركات هذه البقعة من العالم، المسماة (جزافاً) السودان، منسيّةٌ في بصاتها العامة، الثقيلة والقديمة، طريقتهم في إدخال ذواتهم داخل (أنا) جامعة تُسمى (المريخ) أو (الهلال). تسمع: (“أنا” غلبتك المرة الفاتت في ميدانك) و(إنت السَنَة دِيْ حَقّو تَنْسَى موضوع الكَاس)، “أنا” عائدة لفريقٍ ما. تسمع طريقتهم في التذمّر من نظام الحكم، مخلوطة بنوستالجيا لأزمنة الثورات. أقدامهم المغبّرة الغبشاء داخل شَبَط الجلد الذي (تموت تخلّي). رائحة النساء المتسللة من ثيابٍ عاملةٍ تكاد تكون متشابهة، أيضاً انتقال النساء في جماعاتٍ مع أطفالٍ مذهولين، نساء يتحدثن في ذات الوقت ويفهمن بعضهن، من سيجمّد هذه اللحظات؟ ما الذي يجعلنا (نحن) ويضيع؟ هل نلمحه في نظرات المجانين للبشر الحائمين في الشوارع؟ في زهو المراهقين بثيابهم (النّاصلة) وحركات أيديهم التي تشبه ذيل عقربٍ يَلدَغ؟ ربما نجد من يجيبنا.
ـــــــــــــــــــ
زادة: لقب أحد أولاد السلاطين الذكور
(نشر في الملف الثقافي لصحيفة الأحداث – تخوم – 2008)

 

* شاعر وكاتب من السودان

مأمون التلب

كاتب وشاعر وصحفي من السودان
زر الذهاب إلى الأعلى