ثمار

تخليص النقد من العلم

هشام آدم

كثيرًا ما نسمع عبارات يتم تداولها بين المثقفين والنقاد على نطاق واسع جدًا، وتختلف العبارات شكلًا – لا مضمونًا – من شخص إلى آخر، ومن موطن لآخر، ولكن تتمحور جميعها في أن النقد علم له أدواته ومناهجه ومدارسه وطرائقه، وقد لا يقصد به العلم الطبيعي Science ولكن بالضرورة يقصد به العلم الإنساني كبقية العلوم الإنسانية: الفلسفة، علم النفس، علم الاجتماع وعلوم اللغة وما إلى ذلك. وقد أشار الدكتور سعيد يقطين إلى تجلي المرجعية المعرفية في الإطار النقدي “الذي تبلور في أوربا، وفي فرنسا خاصة، خلال القرن التاسع عشر مع ما يعرف بالنقد العلمي.”(1) في كلامه عن الإبدالات(2) المعرفية الثلاثة في الفكر النقدي. وبالترافق مع مصطلح النقد العلمي، فإن عددًا من المصطلحات والتعابير تسقط في ذات الوعاء، الذي يحاول تصوير النقد كعمل موضوعي منهجي أكاديمي، وهو ما نرفضه تمامًا في هذا المقال، ونحاول إيضاح أسباب ومبررات هذا الرفض. ولنا رؤية شخصية للأسباب التي دعت إلى اعتبار النقد علمًا وعملًا منهجيًا مؤطرًا، وسوف نتطرق له في هذا المقال بشكل مفصل ومسهب.
في البدء دعونا نحسم مسألة الموضوعية والذاتية اللتين سوف يتكرر ذكرهما في هذا السياق، فقط لدواعي منع الإرباك، وإزالة سوء الفهم؛ فالنقد الموضوعي الذي يُقصد به ألا يتناول النقد الناص، ويصب تركيزه على النص نفسه، ليس هو موضوعنا في هذا المقال، كما أن النقد الذي يتناول النص من خلال الناص قدحًا أو مدحًا، هو أيضًا ليس موضوعنا على الإطلاق. على أننا نرى – مخالفين في ذلك رأي بعض النقاد – أن معرفة الناص وسيرته ليس أمرًا ضروريًا، على العموم، في وضع تصورات أو قراءات نقدية جيدة للنص، متفقين في ذلك مع الرأي الذي يذهب إلى اعتبار النص الأدبي في النقد “أساس ومحور اشتغاله، فلا يتعرض لصاحبه أو لظروف إنتاجه، وإن فعل فمن خلال معطيات النص ذاته.”(3) حيث يتفق جمع مقدر من النقاد على أن معرفة خلفية تاريخية عن الناص قد تفيد أو تضيء بعض المساحات النقدية لنصوصه، ونحن لا نتفق مع ذلك في العموم، لأننا نرى أن الناص في هذه الحالة ليس سوى ماعون للنص الأدبي، وتنتهي علاقته بالنص تمامًا بعد الانتهاء منه وطباعته. ولا نرى جدوى تذكر للبحث وراء الناص لنتعرف على سيرته الذاتية أو خلفيته الثقافية أو السياسية أو حتى الظروف التي كتب فيها نصه. كل هذه الأمور لا نرى لها أهمية تذكر؛ بحيث قد تؤثر سلبًا أو إيجابًا في عملية النقد.
عندما نقول إننا نرفض ما يسمى بالنقد الموضوعي، فإننا نقصد تمامًا جعل عملية النقد، في حد ذاتها، فعلًا موضوعيًا، لأن النقد ليس عملية موضوعية على الإطلاق، فالنقد عملية ذاتية في المقام الأول، وهو ليس علمًا؛ بل هو فن. وقد يتضح للقارئ مسارنا القاضي بنفي العلمية عن النقد وإثبات فنيته، وهو ما يجعل الرؤية إزاء الموضوعية والذاتية، اللتين نقصدهما هنا، أكثر وضوحًا. لقد حاولنا في ما سبق من مقالات أن نوضح رؤيتنا عن النقد، وقلنا ما خلاصته إن محاولات تطبيق المدارس والنظريات النقدية الأوربية، هو ضرب من العبث، لأن النظريات النقدية الأوربية في أساسها قائمة على واقع النصوص الأوربية، القائمة بدورها على واقع مجتمعي، هو ذاته قائم على عناصر ثقافية غير متوافرة في مجتمعنا العربي؛ وبالتالي قدمنا دعوتنا لإعادة التنظير في واقع النقد الأدبي العربي، من خلال النص الأدبي العربي نفسه. وفي علمنا اليقيني أن هذه الرؤية لن تنال ترحيبًا من سدنة النقد المنهجي أو كما سماهم هادي العلوي بالأكليروس(4) اللغوي، الذين يرون ضرورة تأطير النقد في أطر منهجية وموضوعانية، وهذا هو ما نرفضه في هذا المقال تحديدًا.
ولا نزعم بطبيعة الحال أننا أول من أشار إلى خطورة وعبثية محاولات تطبيق مناهج النقد الغربي على النصوص الأدبية العربية، أو انتبه إليها، فهناك كثير من النقاد الذين تناولوا هذا الموضوع من زوايا مختلفة ومتباينة في أحيان كثيرة، ولكنهم في المجمل اتفقوا على أن “المناهج النقدية الأوربية فرضتها ظروف محددة عاشتها تلك المجتمعات، لأن كل تغير في مجال الفكر والفن لا يحدث بمعزل عن القوى الأخرى الفعالة في المجتمع. ولذلك كانت ولادة هذه المناهج وتطورها يحدث بصورة طبيعية. أما عندما عمدنا إلى نقل هذه الاتجاهات النقدية الجديدة دون تأمين الوسط المناسب، فإننا نكون قد حكمنا عليها بالموت سلفاً.”(5) إلا أننا ندعو، ليس إلى التخلص من المناهج النقدية الغربية؛ بل إلى عدم تطبيق هذه المناهج على النصوص الأدبية العربية من ناحية، والعمل على إيجاد نقد عربي معاصر بمواصفات متسقة تمامًا مع النصوص الإبداعية العربية، ومستقاة من حركتها وحركة تاريخ المجتمع العربي ذاته الذي نشأت فيه هذه النصوص.
ولعلي في هذا السياق يجب أن أبدأ أولًا في تثبيت: لماذا نعتقد أن النقد المنهجي صنعة أكاديمية ونخبوية، أو لماذا أريدَ له أن يكون كذلك. وفي اعتقادنا الخاص فإن هذا الأمر كان بدافع الحفاظ على المسافة الفاصلة بين المثقف وغير المثقف، وهي وسيلة ينزع إليها غالبية المثقفين العرب، بغرض التقوقع على الذات، وهذا في رأينا ما يجعل دور المثقف العربي ضعيفًا، وبلا فاعلية تذكر في مجتمعه؛ إذ كيف يمكن له أن يكون فاعلًا إذا نأى جانبًا واستعصم بحصنه عن المجتمع، سواء أكان هذا الحصن حصنًا لغويًا، أو أكاديميًا، أو منهجيًا تنظيريًا أو ما يعادل كل ذلك مما قد يساعد على خلق هوة كبيرة بينه وبين المتلقي العادي البسيط؟ لقد ظلت الإنتلجنسيا العربية مستشعرة بالخصوصية التي تمنحها شعورًا بالتعالي، حتى في تناول تلك القضايا الحياتية المهمة، فلا يتم تناولها بالطريقة التي تتيح للجميع فهمها ومعرفتها، وبذلك تكون المعرفة حكرًا على النخبة، وهو الأمر الذي أدى في نهاية الأمر إلى جعل المثقف كائنًا منفصلًا عن واقعه، بعيدًا كل البعد عن وظيفته الأساسية، وهو أن يكون فاعلًا ومؤثرًا في مجتمعه. كما أننا نرى أن هذه النزعة ليست نتاجًا لإرهاصات الحداثوية أو ما بعدها، ولكنها عميقة؛ بل وضاربة في عمق التاريخ.
تعود جذور هذه المشكلة في اعتقادنا إلى عصور الإقطاعية الكلاسيكية عندما ظهرت الزراعة لأول مرة، وانقسمت المجموعات البشرية بناءً عليه إلى طبقة عبيد أو أجراء وطبقة أسياد أو ملاك. في تلك المرحلة كانت طبقة العبيد أو الأجراء منصرفة تمامًا بالبحث عن الأساسيات المتمثلة في توفير لقمة العيش لها ولأبنائها، فكان عليها لتوفير ذلك أن تعمل لدى الأسياد، وأن يقوموا بتلك الأعمال نيابة عن أصحابها. ذلك وفر لطبقة الأسياد الوقت؛ إذ لم يعد لديهم ما يقومون به، فهناك من الأجراء من يعمل تلك الأعمال التي كان من المفترض أنها منوطة بهم، وبذلك أصبح الأسياد في واقع الأمر أثرياء عاطلين عن العمل، ولم تعد تلك القضايا الحياتية –التي يسعى إليها الأجراء حثيثًا- ملحة بالنسبة إليهم، ما جعلهم يميلون إلى التفكير والتأمل في ما حولهم، وعندها فقط ظهرت الفلسفة للمرة الأولى في تاريخ البشرية. وعلى ذلك فإن الفلسفة في أساسها هي نزعة برجوازية أحدثها تغير نمط الإنتاج في المجتمع الإقطاعي. وبطبيعة الحال؛ فإن الفلسفة كانت بالنسبة لطبقة العبيد والأجراء ترفًا فكريًا باعتبارها عملًا منفصلًا عن الواقع ومتطلباته وضرورياته. هذا الفصل الأولي، وهذه الهوة بين الطبقتين بدأت في الاتساع؛ لاسيما عندما ظهرت طبقة وسيطة بين الطبقتين (الطبقة الوسطى)، وهي غالبًا متمثلة في طبقة الموظفين، فبعد أن كانت الفلسفة حكرًا على طبقة واحدة، أصبح بعض من أفراد الطبقة الوسطى ينازعون البرجوازيين في الفلسفة ومقولاتها، وهذا في اعتقادنا ما أدى بالبرجوازيين إلى استخدام مصطلحات شديدة التعقيد، ليبدو فعل التفلسف أمرًا نخبويًا ليس بوسع أحد أن يمارسه. وهذه النقطة أشار إليها جورج بوليتز في محاولته للإجابة على سؤال: هل دراسة الفلسفة شيء صعب؟ قائلًا: “من المعتقد عادة أن دراسة الفلسفة هي شيء كثير الصعوبة بالنسبة للعمال، ويتطلب معارف خاصة، وينبغي الاعتراف بأن الطريقة التي صيغت بها الكتب البرجوازية إنما اعتمدت لتثبت في روع العمال هذه الآراء، وتدفعهم إلى مجافاة الفلسفة.”(6)
إن الأمر كما نراه لا يقتصر على الفلسفة؛ بل يتعداه إلى كل الأعمال الفكرية، على اعتبار أن الفلسفة هي الأم البيولوجية لكل العلوم؛ لاسيما العلوم الإنسانية. وفعل التفلسف من حيث هو القدرة على التأمل والتفكير والبحث في النتائج والمسببات، لا يختلف كثيرًا عن العمل الفكري بكل أشكاله، بما في ذلك النقد الأدبي. وعلى أي حال فإن هذه الرؤية، كما أسلفنا، تظل رؤية شخصية قد تحمل في ثناياها شظايا من الصواب وشظايا من الخطأ، على أن الفكرة الأساسية هنا هي اعتقادنا بأن علمنة النقد الأدبي ومنهجته لم يقصد به إلا الفصل بين العامة والنخبة، وكانت من نتائج هذا الفصل أن يظل النقد الأدبي حكرًا على مجموعة من الأكاديميين، في حين قد لا يلتفت إلى الآراء النقدية الصادرة عن العامة، بحجة أنها غير مبنية على أساس علمي أو منهجي؛ وبالتالي يتم تصنيف هذه الآراء النقدية على أنها نقد غير موضوعي، أو نقد غير منهجي. والواقع أن النقد –كما نراه- هو فعل يمكن لكل من له اهتمام بالأدب أن يدلي بدلوه فيه، وكما قلنا من قبل، فإن الناقد في المقام الأول هو قارئ حصيف، وحيثما وجد الشغف بالقراءة يمكن للنقد أن يوجد بلا تكلف أو تأطير. وللسخرية فإن المبدعين عندما يصدرون أعمالهم الأدبية، فإنهم لا يصدرونها بشكل خاص للخاصة، وإنما يتم توزيعها وتداولها بين الجميع، وفي كثير من الأحيان فإن الشهرة التي ينالها بعض المبدعين لا يكون النقاد أو الخاصة سببًا فيها؛ بل العامة ممن لا تتوافر لهم أدوات نقدية منهجية، ولا يملكون دراية عن مدارس النقد، ويصوغون آراءهم ومقولاتهم النقدية ببساطة تعادل في معناها تلك الآراء النقدية المنهجية المليئة بالمصطلحات الأجنبية، مما قد يقرأ القارئ بعضها في كتابنا هذا.
نحن نؤكد على اعتقادنا بأن النقد ليس حرفة موضوعية؛ بل هو ذائقة ذاتية أو فطرية كما سماها أحمد أمين في كتابه (النقد الأدبي)، وعلى هذا فهو ليس علمًا حتى يحتكره الأكاديميون؛ بل هو مشاع للجميع، على أننا نرى أن موضوع الأكاديميين ربما قد ينحصر في تقييم الناتج الأدبي بشكله العام وليس الخاص، فهم من تكون إجابات أسئلة الأدب ووظيفته وفاعليته منوطة بهم. أما نقد النصوص فهو فن وليس علمًا يمكن أن يدرَّس في المعاهد أو الجامعات، وإنني لأتساءل كيف يمكن أن يدرَّس نقد النصوص الأدبية في الجامعات؟ كيف يتم تعلم الذائقة الأدبية أو الفنية؟ إن الأمر الوحيد الذي يساعد في تطوير هذه الذائقة هو القراءة وليس شيئاً آخر، وبالتأكيد فإن ذلك لا يكون إلا بوجود شرط الاستعداد والقابلية، وهو ميل الفرد للأدب وهي مسألة ذاتية تمامًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش والمصادر
 هذا المقال جزء من مقالات كتاب (هرطقات في النقد الأدبي المعاصر) الصادر عن دار أوراق للنشر بجمهورية مصر العربية، الطبعة الأولى 2015.
(1) الدكتور سعيد يقطين والدكتور فيصل درَّاج، آفاق نقد عربي معاصر، دار الفكر المعاصر بيروت-لبنان، دار الفكر دمشق-سوريا. الطبعة الأولى 2003 ص23
(2) عرف الدكتور سعيد يقطين الإبدال في هوامش الكتاب بأنه “مقابل لـ(Paradigme)، وهو مفهوم استعمل في اللسانيات مقابل مفهوم المستوى المركبي، ويميز دوسوسير بين المركب والإبدال، بكون الأول يعتمد طرفين أو أكثر موجودين في سلسلة فعلية محققة. أما العلاقة الإبدالية فهي تجمع بين أطراف غائبة في سلسلة محتملة. واستعمل المفهوم نفسه في نظرية العلوم ليعني النموذج المعرفي المركزي القادر على استقطاب مختلف الإنجازات في حقبة علمية معينة.” – المصدر السابق ص20
(3) د. سامي سويدان، أبحاث في النص الروائي العربي، دار الآداب، الطبعة الأولى 2000 – بيروت-لبنان، ص13
(4) راجع هادي العلوي، المعجم العربي الجديد – المقدمة، دار الحوار. اللاذقية-سوريا. الطبعة الأولى 1983 – ص5والإكليروسكلمةمعربةعنالكلمةاليونانية “إكليروس” – κλήροςوالتيتعنى (نصيب)،فالإكليريكىأيأحدرجالالإكليروسهومنيقول “الربهونصيبىوميراثى” وهي تعادل الكلمة الإنجليزية Clergy والتي تعني رجل الدين. وقد جاء استخدامنا لتعبير (سدنة النقد) ليكون المقابل لمعنى الإكليروس والتعني قد تشير إلى الدوغمائية.
(5) حسن مجيدي وسيد محمد أحمدنيا، النقد الأدبي المعاصر وتأثره بالمناهج الغربية “دراسة وتحليل” – فصلية (إضاءات نقدية) السنة الثانية – العداد الثامن 2012. ص112
(6) جورج بوليتزر، مبادئ أولية في الفلسفة–Principes élémentaires de philosophie، ترجمة وتقديم د. فهيمة شرف الدين. ضبط المصطلحات الفلسفية دكتور موسى وهبة. دار الفارابي بيروت-لبنان. الطبعة الخامسة 2001 – ص22

 

* ناقد وروائي من السودان

زر الذهاب إلى الأعلى