زهور الجنوب الوسنى
قالت: “لا بدّ أنْ تأتي فوراً”. قلتُ: “أين؟ وماذا حدث؟”. قالت: “حين تأتي سأخبرك بكلّ شيء. لا تتأخر لأنّ الوضع لا يحتمل التأخير”. سألتها: “هل أنتِ بخير؟ هل موريس بخير؟ ماذا حدث؟”. قالت: “سأنتظرك في نازريت”. قلتُ لها: “لن أصل قبل مساء الغد… لا تفعلي شيئاً حتى أصل”.
أخذتُ السياّرة إلى الميكانيكي، قلتُ له أنْ يغيّر الزيت ويراجع الكوابح، والمنشّات. أكره السفر إلى الجنوب في مثل هذا الوقت من العام. موسم المطر الثقيل يجعل الجنوب شلالات لا تتوقف. لو الوقت غير الوقت لاستمتعتُ بالرحلة. تركتُ السيارة لدى الميكانيكي ورجعتُ إلى المكتب. سأنهي بعض الأوراق، وألملم شعث القضايا المبعثر. عدتُ إلى السيارة مساءً. كان عليَّ أنْ أجهّز حقيبة متوسطة، لا أعرف كم ستدوم إقامتي، على سبيل الاحتياط فقط. حاولتُ الاتصال بموريس ولكنّه لا يردّ، ثلاث مرّات دون أنْ يرفع السمّاعة، لو ردّ لكنتُ عرفتُ طبيعة المشكلة بينه وبين راحيل، ولكنتُ جهّزتُ خططاً لحلّها.
في الصباح وضعتُ حقيبتي، شربتُ القهوة في الشارع عند بائعة الشاي الشعبية. أوصيتُ الحلاّق في ما لو عادت ترحاز من بيت أهلها ليعطيها المفتاح، هاتفها معطّل منذ يومين، وهي كسولة. توجّهتُ إلى الطريق السريع، لم تمرّ نصف ساعة حتى بدأتْ الأمطار تهطل، ثمّة انشراح يتسرّب إلى نفسي، صحيح أنّني قلقٌ، ولكنّ الجوّ يبعثُ على السكينة والهدوء. أفكر في كلّ شيء، ماذا يمكن أنْ يكون قد فعل موريس هذه المرّة؟ مجنون هو، ليس هناك شكّ في الأمر، ولكنّه لن يؤذي راحيل مهما كان الأمر. صوتها في الهاتف مجروحٌ جرحاً عميقاً، مما يعني أنّه لم يفعل شيئاً يدخله السجن، لقد فعل لها شيئاً، لا يمكنني التكهّن به. سأتوقف ههنا، لا أعرف اسم البلدة تحديداً ولكنّها جميلة، سآكل شيئاً وأشرب عصير برتقال، لن أبلغ نازريت قبل الرابعة، وعلى الأرجح ستأخذني إلى شاشامني لأنّ موريس سيكون هناك، ستقول إنّها لن تحكي في غيابه، يجب أنْ يكون موجوداً، لذا فإنّ عليَّ ألاّ أعتمد على الاحتمالات. فيما يجهز طعامي، اتصلتُ على موريس، كان هاتفه مغلقاً هذه المرّة، فرغتُ من العصير وسلكتُ الطريق، يا لها من جنّة فريدة، على جانبيه بساتين الفاكهة ومشاتل الورود الجميلة، ثمّة الكثير من الاستثمارات الأوربية مؤخراً هاهنا.
كان المطر يتقطّع على طول الطريق، لكنّ الطقس يظلّ غائماً. الخضرة تكسو الأرض على امتداد البصر، قمم الجبال محاطة بالغيوم والبحيرات على شمال الطريق خلاّبة، كنتُ قد اقتربتُ من نازريت، حين اتصلتْ راحيل، فقلتُ لها إنّني على وشك الوصول. قريباً من بساتين الفراولة، على مشارف البلدة، أوقفتُ سيّارتي، اشتريت علبتين من الفراولة الطازجة. لم أكن أحبّ الفراولة، لكن موريس ومحمود حبباها إليَّ، أستمتع بطعمها الحاذق، فيما أفكّر في موريس، ذاك مجنون، لكنّ راحيل تحبّه بجنون، كنتُ قد نبّهتها إلى أنّ موريس، حتى ولو وُلِدَ هاهنا سيظلّ جامايكياً، فلا تأملي كثيراً في وضعه والتفكير فيه ضمن قوالبك الإثيوبية. كثير الحركة، وقّاد الذهن، ينتقل من الإنجليزية إلى الأمهرية سريعاً، ويتقن لغة الأورومو، يحبّ المغامرات واجتراح الجديد، غير هيّاب ولا عابئ بشيء، لا تكاد الابتسامة تفارق ثغره، يعيش من دخلٍ غريب إذ يعمل دليلاً سياحيّاً غير رسمي، يرافق السيّاح القادمين إلى الجنوب، ويقدّم خدماته التي عادةً ما تكون لا غنى عنها بالنسبة إلى الأمريكيين والأوربيين المهووسين بالراستافاريّة. كانت علاقتي به قد بدأتْ منذ عامين، حين جئتُ إلى شاشامني مرافقاً لبعثة إماراتية، دلّني عليه أبيل، منذئذ توطّدتْ صداقتي معه. كان ينهي معاملات الطلاق من زوجته، ترك لها أحد الولدين وأخذ الثاني إلى أمّه في شاشامني، كانت مضيفةً في الخطوط الإثيوبية، من يومها كان يصاحب الفتيات، يقعن في غرامه بسرعة ربّما لخفّة دمه واختلافه، لكن علاقته شبه الرسميّة كانت براحيل، كانا قد قرّرا الزواج عقب أعياد الكريسماس.
كنتُ أخذتُ دورةً كاملة حول الفنادق الممتدّة المتداخلة وسط حدائق الزهور. توقفتُ أمام الفندق الذي تعمل فيه راحيل طاهية، اتصلتُ لأخبرها بأنّني أمام استقبال الفندق مباشرة. قالت: “أمهلني بضع دقائق”. أنزلتُ زجاج نوافذ السيارة الأربع، أشعلتُ سيجارة وجعلتُ انتظرها. بين الفينة والأخرى يخرج أو يدخل أحد عبر الاستقبال، لستُ أدري بالضبط ماذا تريدني راحيل أنْ أفعل، لكوني توسطتُ ذات خلاف بينهما وألزمتُ موريس بالحلّ لا يعني أنّ لدي سلطة مطلقة عليه. راحيل هادئة، عادةً، لكنّ جدّتها لأمّها تقراويت صعبة شديدة المراس، ربّما ورثتْ عنها بعض الحماقة، في كلّ مرة ألتقيها معه كانت تحفةً فريدة، جميلة بنوع خاص، وروحها لطيفة تجبرك على التعامل بتهذيب. مرّت من الباب، كنتُ على وشك إنهاء سيجارتي، شرعتُ أتأملها وهي قادمة نحوي، كانت تلبس فستاناً أسود قصيراً، يعطي لونها الذهبي بريقه القاتل، بحذاء أسود عالٍ، فستانها فوق الركبتين قليلاً، بأكمام عارية وشعرها ضفيرة واحدة تتراقص على عنقها وهي عجلى نحوي. كانت ملامحها صارمة غاضبة، لا تتناسب وشكلها العام، ركبتْ السيارة ثمّ ألقت عليَّ تحية قصيرة. قلتُ: “ماذا حدث؟ أخبريني رجاء”. لم تلتفتْ إليّ، بل قالت ووجهها إلى الأمام: “لنذهب إلى شاشامني”.
لم أحاول حملها على الكلام، يبدو أنّ قرارها صلد لا يتزحزح. كنتُ أقود ساهماً متوتّراً، سألتني: “هل اتصلت عليه؟”. قلتُ لها: “أمس لا يردّ… واليوم هاتفه مغلق”. صمتنا. بدأتُ أشعر بأنّه ارتكب خطأ فادحاً، لكنّني لا أستطيع معرفة ما هو. قالت إنّها مرهقة وستنام قليلاً. قلتُ: “لا بأس”. أرجعتْ ظهر المقعد إلى نهايته. وضعتْ حقيبتها الجلدية الصغيرة على المقعد الخلفي واستلقتْ على ظهرها. كان الفستان القصير قد سرح بعيداً إلى أعلى فخذيها اللّفّاويْن. ثمّة الكثير من ذهب الأصيل مبذولٌ هاهنا، إلى جانبي وأمامي، الساعة تقترب من السادسة. وضعتْ ساعدها الأيمن على عينيها تتقي الضوء، وأنا وسط بساتين الفاكهة ومشاتل الزهور الخريفية المترعة، عليَّ أنْ أقود بسرعة قبل أنْ يتوغّل الليل. الشاحنات القادمة من هواسا ومن كينيا تربك القيادة ليلاً، الطريق ضيّق وسائقو الشاحنات لئيمون، يجهرونك بأضواء سيّاراتهم القويّة. حين اقتربنا من شاشامني كانت قد استيقظتْ من تلقائها. لم أقل شيئاً. عدّلتْ من وضعيتها وجرجرتْ فستانها الأسود القصير إلى حدّه. كان نُزُل والدة موريس ممتلئاً، جلسنا في فنائه، جاءت والدته، سلّمتْ باقتضاب. سألتها: “أين موريس؟” قالت إنّها لا تعرف، ولكنّها سمعتْ ليزا، أخته، تقول إنّه سألها وصف طبيب الأسنان. “هل تودون شرب شيء؟” طلبتُ عصير الكاريبي، وطلبتْ راحيل زجاجة بيرا. جاءت ليزا تحمل المشروبين، سألتها عنه، قالتْ أخذ صديقه النرويجي إلى طبيب الأسنان في هواسا. لن أذهب إلى هواسا ليلاً. كما أنّهما ذهبا وقت الظهيرة، كما قالتْ أخته. لو كانا سيعودان لعادا… أعرف ذلك النرويجي المأفون، سيقنعه بالمبيت في هواسا. سيكون عليَّ أن أتدّبر غرفةً في فندق قريب. ذهبتُ إلى ليزا، طلبتُ إليها أنْ تترك راحيل تنام في غرفة موريس. وافقت ولكنّها اقترحتْ عليَّ أنْ أبيت في غرفتها: “سريري وثير.. وشاغر” تقول ضاحكة. اعتذرتُ. تتحرّش بي ليزا منذ عامين، وأنا ألتزم اللطف في الاعتذار. لن تفهم هذه الجامايكية ما الذي يمنعها من أنْ تنالني. استأذنتُ راحيل ومضيتُ إلى فندق هايلي. أحبّ هذا المكان. سأقرأ قليلاً قبل أنْ أخلد إلى النوم.
في الصباح وجدتُ مكالمة من موريس. لم أُعِدِ الاتصال به. سيكون في الطريق، وسيارة النرويجي مغرية، ولا يعلم إلاّ الله ماذا شربا، ولا ماذا يشربان وهما في الطريق. نزلتُ إلى المطعم، أفطرتُ وحملتُ حقيبتي إلى السيارة، قاصداً نُزُل والدة موريس. ركنتُ السيارة. قابلتني ليزا باسمةً، عابثةً: “هل حلمتَ بي؟ أم من أين يأتي صفاء عينيك؟!!”. قالت إنّ راحيل داخل البار. دخلتُ فأخرجتها وكأس الويسكي في يدها. قلتُ: “لا يليق بكِ ذلك”. لم تعرني اهتماماً. جلسنا صامتين، أتطلّع إلى وجهها بين الفينة والأخرى. لم يتغيّر قطّ، ولا يبدو عليها أنّها تجاوزت موقفها.
دخل موريس والنرويجي خلفه. كان كعادته تاركاً قميصه غير مزرر. يمشي باستهتار. سلّم عليَّ باشتياق صادق وعيناه حمراوان. حاول أنْ يحتضنها فدفعته. سلّم النرويجي علينا ودخل البار. جلس موريس معنا، وكان وجهها يرتعش ويحمرّ، متحفّزة وغاضبة. سألتُ موريس: “ما الذي جرى؟”. بدأ يروي أنّ مطلقته جاءت لترى ابنها الصغير، “لم أكن في شاشامني حينها. جئتُ فوجدتها. كنّا نتعامل كصديقين فقط. لم تكن هناك غرفة شاغرة، كما ترى، فقضت ثلاثة أيام في غرفتي. أحدٌ ما قال لراحيل إنّني استعدتُها وأنّني أخون راحيل. فتشاجرنا على الهاتف، لم تصدّقني. هذا كلّ شيء”.
كدتُ أبتدرُ كلامي بطلبي إلى راحيل الحديث، لولا أنّها كانت قد قذفت بكأس الويسكي إلى رأسه وهو مطرق. بكلّ قوّتها وصاحتْ بغضب: “كاذب”. كان موريس يحاول أنْ يرفع رأسه فيعجز. ألجمتني المفاجأة. سقط على المائدة، كان هناك دمٌ على المائدة وعلى وجهه، ناديتُ ليزا بأعلى صوتي، جاءت والنرويجي يهرولان، قلتُ للنرويجي لنحمله إلى السيارة. كان ينزف بغزارة، كأنّما صادفت الكأس شرياناً. كنتُ أقود والنرويجي يحاول أنْ يساعده وليزا تبكي وتضرب وجهها بيديها. كانت تلك آخر مرّة أرى فيها راحيل.. وموريس.
* قاص وسيناريست من السودان