حول النصوص الفائزة بجائزة الطيب صالح للشباب 2015
لنقل إن الأشياء ضجرة بطبعها، وعليها الخروج من مأزقها البدائي، لتفعل فعلها بنفسها. تتأنسن كما يحلو لها، بما فيها الشارع، الكراع، المرق، النعال، الأرض، الأرضة، الجوع، والظل أيضاً. (كبرت كراعي من الفرح نص في الأرض نص في النعال)، (حكمة الجوع الشرح للأرضة كيف تقرأ المرق)، الدوش، عاطف خيري – على التوالي.
قلت والظل أيضاً، ظل مهند رجب – النص الفائز بجائزة الطيب صالح – مناصفةً. وهل تأنسن الظل بالفعل، مع كل هذا الحبس – إن جاز القول- الذي كرَّسه النص في كل منحنياته، رغم قلة المنحنيات فيه، بسبب الاشتغال الأفقي، المتمثل كفعل إعاقة في وجه التعاقب والتنامي، بلغة مستقرة، لا تغادر استقرارها جهة فضاء أوسع، ومفرطة في التقرير، ولا تحمل عبءاً على عاتقها، بهذا التصوير الخارجي، الإخباري، التوجيهي نحو هدف مُعدٍّ سلفاً، ذات الهدف الذي لا يتيح لشخصية الظل حرية الحركة لتنمو بصورة مستقلة ومفاجئة. هذا الإهدار المستمر حول التذكير الذي لا يفتر عن أصل الظل وكيفية تكونه ومتى يتلاشى:
– ويحول دون إرادتي في رؤية مصدر ذلك الضوء الذي يكونني
– لا يمكنني أن أستغيث في حالة أن تعرَّض مصدر ضوئي للخطر
– إن عاكسي الذي يواجه مصدر الضوء دائماً ما يكون قاتلي
– المصادر الضوئية التي تضطرني إلى الانقسام
– غرفة مظلمة لا يوجد بها إلا مصدر واحد للضوء
– أنا أعرف أن رؤيتي لمصدر الضوء تقتلني
– قرَّرت أن أكون ظِلاً إلى حين توقف مصدر ضوئي
– وجهها الطيب كان يشبه مصدر الضوء الذي تصورته
– لحظة ملاقاتي لمصدر ضوئي.. لم أعرف أبداً أنها كانت نهايتي
حبس التفتق الذهني يظهر منذ البدايات عبر مخاطبة مباشرة، لمتلقٍّ مفترض، أو مراقب خفي. ولذا فإن الاهتمام المبالغ حول ما نعلم، وما لا نعلم، هو اهتمام لا يفتأ يكرر نفسه، بطريقة برانية غير قلقة وآمنة، وهي طريقة فشلت فيها الكلمات في إثارة الأشياء، ولم يزدها الإمعان وتدوير التبرير إلا بللاً، المتمثل في هذا الانحسار الإيمائي، والاكتفاء بسقف التوقع، وبحدوده المرئية أيضاً:
– هل تساءلتم يوماً إلى أين أمضي؟
– لستُ شبحاً كما تتصورون
– هل تعلمون أنني كائنٌ موجودٌ ومقهورٌ ومهزوم
– هل تُدركون أنني أنقرض
– هل تعلمون أنني حتى الآن لم أشاهد أيَّاً من مصادر ضوئي
– هل تعلمون أني لا أعرف ما هو شكل الشمس والنور
انحسار نبض الحياة في الظل، ولا توتره، أفسح المجال لإيقاع متسلحف ودائري، يستخدم فيه ذات نصف القطر الذي بدأت به الحكاية.
ظلٌّ يكتفي بذاته، حكاية تقول ولا تكون، رغم أن الفكرة تمهد لشغل سريالي، غرائبي، وشارد عما هو منطقي، عبر ديالوج داخلي يفاجئ الظل نفسه بإنسانيته، ويمنحه بعداً مادياً، لا يكتفي بحركته داخل المكان وحسب؛ وإنما يربط أطراف الزمان في ذيله: تمعن هذا الاستدراك التقريري، الذي يرسخ لعجز الأنسنة نفسها، والسباحة في حوض المعنى والإفادة:
– لا ألومهم فهم لا يعلمون أنني مهم
– أنا اليوم تحولت إلى ظِلِّ إنسان
– أنا اليوم أتعس ما يكون
– كم يؤسفني أنني غير ملحوظ، رغم عدم استغناء الناس عني
– أحمد الله أنني لا أستطيع عكس التجاعيد أو الوجوم أو البثور
– أنا هيئةٌ رمادية اللون في تلك اللحظة
– ليْتَنِي كنتُ إنساناً أستطيع الكلام والتعبير
– أنا لا أكذب أو أقتل أو أحقر أو أغش
– أجدُ نفسي أفعل أحْقَرَهَا معه مثل استغلال الضعيف، واستضعاف الطيب، واغتياب الصديق، وقتل المحبة، وزرع الدسائس
– لو يعلم الناس ما يعرفه الظلُّ عنهم لما خرجوا في الضوء أبداً
1617 كلمة ترفع الغطاء المكشوف أصلاً عن خصائص الظل، وها هي حاضرة بكامل الإنشائية التي تخصها، وعليه ظَلَّ الظل محتفظاً بمفهومه النمطي، وأنه مجرد انعكاس لجسم كما يقول النص نفسه:
وكيف لي أن أدري وأنا مجرد انعكاس لجسم
أتشكل حسب ماهية الشيء الذي يحجب الضوء عنِّي
هل تُدركون أنني أنقرض إذا تعرَّض الشيء الذي يعكسني للزوال
فقد تفانيتُ في الظهور على أثر أقل درجات الضوء
في القصة الثانية، الفائزة مناصفة- الموءود- أفلح القاص يس السر في أنسنة ما هو قابل للأنسنة، أو في طور ذلك. ورغم كلاسيكية القص، وهذا النمو الرأسي المنتظم، إلا أن الشغل لا يخلو من خيال طليق، لولا فتوغرافية الحكي، وتصوير ما هو معروف سلفاً والإمعان فيه حد الفضح، وهذ السحب الذي تم، سحب فضيلة التنبؤ والتكهن بماهية الشيء مركز القص، ولكن القاص فضل أن يمنحنا مفاتيح الدخول مبكراً.
تدخل سيِّدة نحيفة، يتدلّى من يمينها مربعٌ أسود.. تضَعَه على طاولة بالقربِ من السريرِ الذي تستلقي عليه سيدتي. سمعتهم ينادونها (داية).. تقترب من أذنيها.. تهمس: (سنقوم بذلك). شعرتُ أن الحديث يخصني
اللغة أيضاً كانت تقول أكثر مما توحي، يقل فيها التقريري لصالح ما هو تصويري، ولا تخلو من حمولات دلالية عميقة، لغة تتجه في كثير من المواقع صوب الداخل وتتغلغل فيه بقدر ما يتسع لها المكان، تقترب كثيراً من محور الفكرة ولا تبتعد بما يفي:
أهمّ بالرد عليه؛ تمنعني الجدران فأركلها. لماذا أُوضع في مكان ضيق كهذا؟! لا أملك أي وسيلة للتعبير سوى الركل بأرجلي، فصوتي لا يمكن سماعه، هل يعلم هؤلاء أنني هنا بالداخل؟!
أفلح النص في تجسيد ماهية التواصل الإنساني المبتور، بمتن يمتلك أدوات للشد والارتخاء في وقت واحد، ويبين مقدرة الرواي في التحول أحياناً كأداة للعرض ليصبح شاشة عرض، واستطاع عبر خاتمة صادمة أن يخلق من حدث ضئيل حادثةً ضخمةً. هذا إذا استثنيت جملته الفائضة في آخر النص: [حينها أدركتُ أن الجحيمَ تحت أقدام بعض الأمهات] مندَلَت التراب فوقي بأرجلها ليتساوى مع الأرض. وهبَّت ريحٌ غاضبة؛ ساعدتْها في تسوية التراب. نفضَت يديها، وتلثَّمَتْ بطرف ثوبها. استَطلَعَتِ الشارع، وهرَعَتْ نحو البيت تترنَّح من الإرهاق.
*كاتب وروائي من السودان